الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالتأخر أو بالمحافظة على القديم ولو كان صالحا مختارا من الله، أو بالرجعية - التدين - إلى غير ذلك من نعوت الازدراء والسخرية بالإسلام.
الفصل الثالث: من ذيول الاشتراكية تحديد النسل
.
مما لا ريب فيه أن الأمة المهابة والمحترمة هي الأمة القوية، وقوتها تشمل جميع أصولها وفروعها، من عدد أفرادها إلى تربيتهم وأخلاقهم، ومن علوم وصناعات واختراعات وغير هذا، والمعتبر في الأمم هو الكم والكيف، فإذا وجدا في الأمة - وخاصة الأخير - كانت أمة قوية ذات شأن وبال.
والإسلام - ديننا - يأمرنا بأن نكون أقوياء في كل شيء في عزيمتنا وفي إرادتنا وفي إيماننا بربنا وبأنفسنا وبوجودنا، حتى لا يطمع فينا طامع، لا في أوطاننا ولا في عقولنا ولا في اتجاهاتنا، فبقوانا تلك نحافظ على وجودنا، ونواجه خصومنا - وكل كائن لا يخلو من خصوم - كيفما كانوا، سواء أكانوا من البشر أم من غيرهم؟ فنحارب الفقر بالعمل والصناعات، ونحارب الجهل بالعلم النافع، نحارب الطامع في الاستيلاء على عقولنا وبلادنا باتحادنا وقوة جيوشنا، كما نحارب الأمراض بالوقاية والعلاج، هذا هو التفكير الصحيح لقوانا كلها، مجتمعة في كثرة أبنائها، وما بقي فمن الفروع التابعة للأصول كالمال مثلا.
والقرآن يأمرنا باتخاذ القوة والاستعداد لكل الطوارئ كما يأمرنا بالحذر، حتى لا نؤخذ على غرة أو خديعة، فهو يقول:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) ويقول: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأن من الخير لها أن تكون قوية فقال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (3).
(1) الآية 60 من سورة الأنفال.
(2)
الآية 102 من سورة النساء.
(3)
أخرجه الأئمة مسلم وأحمد وابن ماجه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فقوة الإسلام والمسلمين رحمة وإحسان للبشرية كلها، فالأمة الإسلامية أمة حرم الله عليها الظلم، وأمرها بإقامة العدل ونشر الفضيلة في العالم - كما كان سلفنا الطيب الخير - وخاصة في هذه الظروف التي كثر فيهال الجور والباطل والطغيان، وعم فيها الجبروت وهضم الحقوق وابتلاع الشعوب والأفكار.
إذن فالواجب علينا أن لا ننظر إلى المسلم كما ننظر إلى البغل والحمار والبقرة وغيرها من الحيوانات الأعجمية التي تطلب منا أن نهيئ لها الأكل من حشيش وغيره حتى يمكن لنا الانتفاع بها ولكي تؤدي عملها في هذه الحالة على أكمل ما تكون، فالحيوانات يؤتى لها بالأكل اللازم لكي تستغل في الأعمال، فهي تأكل لتعيش.
إن المسلم في هذه الحياة بخلاف الحيوانات، فهو مطالب بواجبات يؤديها لمجتمعه، كما هو مكلف بمهمة عالية وغالية أنيطت بوجوده، ومسؤولية كبرى لا يسعه جهلها أو تجاهلها أو التفريط والتهاون فيها.
هذه المهمة أو المسؤولية هي التبشير بالإسلام وعقيدته، عقيدة التوحيد وشريعة الله، شريعة العدل وسمو النفس والفضيلة.
تلك المهمة أو المسؤولية أو الواجب هي نشر التوحيد، هي الجهاد - بكل أنواعه - في سبيل إسعاد عباد الله، وإيصال الخير إليهم، وفي هذا السبيل يجب أن يقضي حياته، ويشغل أوقاته في ذلك - بعد السعي والعمل لكسب معيشته ومعيشة من هم تحت نظره، وما تتطلبه منه الحياة ومشاكلها - حتى يؤدي المهمة التي عليه من غير إخلال بها أو تفريط فيها.
هذه هي مهمة المسلم، وهي مهمة في خير الإنسان وإسعاده دنيا وأخرى، وهذا ما يجب أن يعرفه كل مسلم في وقتنا هذا، كما عرفه أسلافنا الأولون، وقاموا به حق القيام، فقد جردوا أنفسهم من كل شيء يشغلهم - إلا ما لا بد منه - وانتشروا في الأرض دعاة هداة رحماء كرماء فأنقذوا أمما من الغواية والجهالة، لا زالت تذكرهم بكل إجلال وإكبار.
جهل المسلمون في وقتنا هذا ما هم مطالبون به، فظن الواحد منهم أنه يعيش لنفسه، ويتمتع بما شاء من متع الحياة، ويقضي واجبات نفسه، غير ناظر إلى حقيقة وجوده، وما عليه من أحمال ثقال، ومسؤوليات جسام،
فمن أجل هذه النظرة الخاطئة توقف نشر الإسلام - دين التوحيد - وانتشاره، حتى طمع فيهم من لا يساويهم، ومن أجل ترك المسلمين ما هم مطالبون به نحو دينهم خرج من الإسلام أقوام استهوتهم زخارف الحياة، ولذائذها فكانوا من الخاسرين.
إن خصوم الإسلام أذهلهم وهالهم تزايد عدد الأولاد عند المسلمين في كل الأقطار، وهذا بالطبع لا يكون في صالح خصومهم ولا يعجبهم، فهم يريدون أن يكون المسلمون أقلية ضعيفة غير قوية، فعملوا - الخصوم - ما استطاعوا لذلك، وأكثروا من الوسائل لصرف المسلمين عن التمسك بدينهم، كما أكثروا من وسائل إخراجهم منه، كالتعليم اللاديني، ومن تلك الوسائل ما أشاعوه في أوساطهم من مخاوف المجاعة الناتجة عن كثرة الأولاد وما يتبعها من نفقة المعيشة، والتعليم، والكفالة وغير هذا، وجسموا لهم شبح المجاعة التي تنتظرهم في مستقبل أيامهم، فأدخلوا الاقتصاد والحساب في حياة المسلم، وبعد عمليات الضرب، والطرح، والقسمة، نشروا نتيجة الحساب، وأذاعوا أن كل شعب لا يستعد من الآن لأخذ الحيطة على حياة أبنائه في المستقبل فسيكون مهددا بالمجاعة، بل بالموت جوعا إذا حل الأجل الذي أفصحت به عملية الحساب، فسارع المسلمون المساكين! إلى الدعاية لذلك والعمل بوسائل التقليل من إنجاب الأولاد، خوفا من الموت جوعا، ومن رؤسائهم من خصص جائزة لمن نظم ذريته كما يريد عدوه، من إضعافه، وتقليل قيمته، ونتيجة ذلك جعلت المسلمين لا يساوون شيئا.
نقول لأصحاب هذا التفكير، أن تفكيركم سقيم، وحسابكم عقيم، لأن تفكيركم مبني على عدم إيمانكم بالخالق الرازق، فالإسلام يأمر المسلم بالسعي والعمل حتى يضمن لنفسه ولأطفاله الحياة الهنية الكريمة، وينهاه عن الكسل والقعود عن العمل، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الموضوع لا تخفى أهميتها، وكلمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بينة واضحة في الحث على العمل والنهي عن تركه، قال رضي الله عنه:(لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة).
لهذا فغير المسلمين ينظرون إلى الحياة نظرة الجاحد لرب الكائنات ورازقها، ونحن - المسلمين - ننظر إليها نظرة المؤمن بربه، الواثق بوعده، وهو جلت
عزته المتصرف في كل شيء وحده، لا نحن ولا أنتم وما علينا إلا السعي والعمل فعلينا أن نسعى ونعمل، والرزق تكفل الله به خالقنا وخالقكم فهو الذي بيده كل شيء - آمنا به وكفرتم - وهو لا يضيع أجر العاملين.
في القرآن آيات تدل على قسمة الأرزاق والحظوظ، وأن الذي خلق لا يضيع خلقه، ومن المؤسف ما يتفوه به بعض المغرورين من حكام المسلمين عندما يتوصلون إلى مناصب عالية في الحكم، فيغترون بمنصبهم ذلك، ويظنون أن فطنتهم وحذقهم هو الذي بوأهم ذلك المنصب، فيسخرون بالعباد ويهزؤون بالقرآن ويريدون أن يفسروا القرآن كما واتتهم به الفرص والحظوظ، جاهلين حكمة العليم الحكيم، وأن الحظ الذي واتاهم هو من الله ليريهم للناس على حقيقتهم، ليشكروا أو يكفروا، {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (1) قال الله تعالت قدرته، وبهرت العباد حكمته، مبينا أنه هو الرزاق لا غيره {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2) وقال:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (3).
آه ثم آه لو فكرنا في هذه الآية الأخيرة تفكيرا صحيحا فطريا لاهتدينا جميعا إلى الطريق المستقيم، فهذه الآية في قسمة الأرزاق يفهمها ويؤمن بها المؤمن وينكرها الكافر المنكر، الجاحد المخطئ، وسيعلم بعد حين عاقبة كفره وجحوده وخطئه.
إن الملاحدة وغيرهم ابتدعوا - في تضليلهم - دعاوى ينفرون بها المسلم من دينه، ويجعلونه يتبرأ منه ويحاربه ويوسوسون له بأن ما نزل بالمسلمين من محن ومصائب إنما هو من تمسكهم بدينهم.
وهذا توضيح موجز في حكمة جعل الناس درجات وطبقات - كما مر في آية الزخرف - متفاوتة، فيما يمكن فيه التفاوت، في أصل خلق الإنسان
(1) من الآية 40 من سورة النمل.
(2)
الآية 6 من سورة هود.
(3)
الآية 32 من سورة الزخرف.
وتكوينه، ذلك أن التفاوت يكون في أشياء - مثلا - في العقل، وفي العلم والجهل، والذكاء وضده - البلادة - وفي الصحة الجسمية والضعف، وتفاوت أيضا في المنصب والوظيفة إلى آخر ما هنالك من أصناف البشر ودرجاتهم، فالله يقول:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} أي مسخرا، فالملاحدة يعترضون على القرآن بأنه جعل الناس طبقات ودرجات، وقائل هذا القول جاهل بحكمة الخلاق العليم، فلو كان الناس كلهم في درجة واحدة - كالفقر أو الغنى - لضاعت مصالحهم، فلا أحد يحتاج إلى أحد، أما وهم في درجات متباينة تجعلهم لا يستغني الواحد منهم عن غيره، فكل واحد يحتاج إلى سواه ولو في أبسط الحاجات، وبهذا تلتئم مصالحهم، ويكمل بذلك نظام هذا الكون.
أما جعل الناس في درجة واحدة لا يحتاج الواحد منهم إلى غيره فذلك ما لم يكن - ولن يكون - وأصحاب هذه الفكرة - التي تدل على الغباوة، أو التغابي وسوء القصد - هم أنفسهم يحتاج الواحد منهم إلى غيره، ليخيط له ثوبه، أو يصنع له حذاءه، أو يسوق به سيارته الخ
…
أما على دعواهم فكان الواجب عليهم أن يتولى كل واحد منهم شأنه بنفسه ويباشره بيده، وهذا ما لا يستطيعه أحد كيفما كانت قوته ومداركه، وهل في بلد أصحاب هذه الدعوى توجد المساواة في كل شيء؟
حدثني من زار "موسكو" أنه لاحظ - فيما لاحظ - على بائعي الخبز - مثلا - فرقا كبيرا لم يره في بلد غيره بالرغم من كثرة تجواله وتنقله في البلدان والعواصم، ذلك أن الخبز في موسكو على ثلاثة أنواع لكل نوع أصحابه وأهله.
1 -
نوع رديء الدقيق والصنع والنضج تزن الخبزة الواحدة نحو (2 ك ق) وهو في دكان خاص يتولى بيعه عمال باللباس الأزرق - وهو خاص بالعمال -.
2 -
وإلى جنبه دكان آخر بنوع آخر من الخبز أقل رداءة من الأول، وأقل وزنا منه، وبائعوه في لباس أحسن من الأولين، وأصحابه في درجة أعلى من العمال وأقل من الاختصاصيين.
3 -
أما الدكان الثالث فخبزه أحسن وأجمل من السابقين، في كل شيء في جودة الدقيق والنضج وقلة الوزن، يتولى بيعه وتوزيعه فتيات باللباس الأبيض مع اللطافة في المعاملة الخ ولكل نوع من هذه الأنواع طبقة من الناس لا يسمح لأفراد الطبقة الأولى أو الثانية أن تأخذ من خبز الطبقة الثالثة،
لأن هذا النوع الأخير خاص بطبقة الموظفين الكبار والعلماء الاختصاصيين وهكذا!! ما سمعنا عن بلد - ما - أنه نوع الخبز هذا التوزيع إلا في هذا البلد الذي ملأ الدنيا دعاوة وصراخا بأن الشيوعية قضت بنظامها على نظام الطبقات، وسوت بين جميع الناس وأعطت للعمال حقوقهم، ويقولون ويذيعون أنه يجب ألا يكون الإنسان مسخرا لأخيه الإنسان، هذه أقوالهم التي ملأوا بها أجواء الدنيا، أما أعمالهم فهي تخالف أقوالهم خلافا واضحا يدركه أبسط الناس، فقد رأيناهم اتخذوا الشرطة - مثلا - كالعبيد القدامى المسخرين لأسيادهم المالكين لهم، يحيطون بسياراتهم إذا تنقلوا من مكان إلى آخر، ويؤدون لهم التحية إذا دخلوا، مقرونة بشكل غريب من الخضوع والمسكنة وعدم الحركة، حتى ليخيل للناظر إليهم على تلك الحالة كأنهم تماثيل من حجر نصبت فوق قواعدها، مع أن الشرطة جعلت للمحافظة على الأمن وملاحقة المجرمين حفاظا على راحة السكان وأمنهم، ومقاومة الشر والفساد وتتبع من يصدر ذلك منه حتى يقضي على كل ما يخل بالأمن والراحة فصارت الشرطة حارسة لطائفة مخصوصة ومحظوظة من كبار الموظفين والزعماء لا غير، وهذا لا يوجد إلا في بعض البلدان الاشتراكية!!!
هذه الأعمال المرئية تناقض الأقوال المسموعة، والشواهد على هذا كثيرة جدا، ولله در الإمام البوصيري في قوله الحكيم:
والدعاوى ما لم تقيموا عليها
…
بينات أبناؤها أدعياء
من هذه الدعاوى المبتدعة بقصد تضليل المسلمين الضعفاء في إيمانهم كلمتان كثر تردادهما على الألسن والأقلام حتى مل الناس سماعهما ورؤيتهما، - وهما الإقطاع والرجعية - يقولونهما كدليل على أن صاحبهما الذي قيلتا فيه هو من بقايا القرون الوسطى المشهورة بالجهل والتخلف العقلي والصناعي الخ، ويطلقون على أنفسهم كلمة - التقدميين - وفي شيء من التفكير البسيط يرد المسلمون على الملاحدة هذه الدعوى أو الوصمة - إن كانت وصمة عار - ويقولون لهم: أن الماضي كفيل بتكذيبكم وفضيحتكم وتسفيه آرائكم، فأنتم الرجعيون - حقيقة لا ادعاء - والمسلمون هم التقدميون - حقيقة لا ادعاء - فالدين الإسلامي الطاهر قدم المسلمين يوم كانوا عاملين
به، بل جعلهم هم السابقين لجميع الأمم، ويوم كان المسلمون مسلمين حقيقة لا ادعاء، مسلمين بالأقوال والأعمال والعقيدة والتفكير، - والتاريخ وأحداثه شاهد على ذلك - ولما انحرفوا عن الطريق التي خطها لهم دينهم الإسلام ومالوا إلى طرق شتى، حل بهم ما أخرهم وجعلهم أضحوكة بين أهل زمانهم، حتى صاروا يصدقون كل محتال دجال خداع يعيب دينهم الطاهر فلا يغارون عليه، ويؤمنون بما يقوله أعداؤهم في دينهم، فكانت أفعالهم القبيحة أفعى لهم.
فهؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم لقب التقدميين هم في الواقع على العكس من هذا اللقب الذي لقبوا به حضراتهم المحترمة، ذلك لأنهم يعملون الآن للرجوع إلى عهد الإنسان الأول البدائي، الذي كان يحيى حياة البهائم التي لا تعقل، لا دين يهذبه، ولا حدود تردعه، ولا خوف من ربه يزجره، يأكل ما وجد أمامه، لا يعرف حدود غيره فيحترمها ويبتعد عنها، يمشي عاريا أو شبه عار، لا يعرف خالقا ولا حراما ولا حلالا، لا علاقة له بغيره إلا علاقة المادة والملذات، ينام في المغاور والكهوف وعلى رؤوس الأشجار، فالتقدميون - على زعمهم - يعملون من أجل الرجوع إلى العهد البدائي القديم، عهد الجهالة الأولى (لا إله ولا دين والحياة مادة).
إذن فمن هو التقدمي ومن هو الرجعي؟؟، إن التقدمين - إدعاء - هم الرجعيون حقيقة ونحن - المسلمين - التقدميون حقيقة وواقعا، وهذا ما أقوله وأصرح به في كل المناسبات، فالمسلمون بالحجة هم التقدميون، والملاحدة - بالدليل - هم الرجعيون، فالقضية قضية أدلة وبراهين، لا قضية كلام فارغ ودعوى باطلة، وتهم ساذجة.
ومثل كلمة - الرجعية - كلمة - الإقطاع - التي أكثروا من تكرارها وإذاعتها حتى ملتها الآذان تكرر في كل مناسبة للدعاية، وحتى في غير مناسبة، نقول لهم أين هو الإقطاع الآن
…
؟؟؟ فلنبحث عنه فهو غير موجود بالمعنى الذي كان متعارفا به في الماضي، والإقطاع القديم كان بإقطاع الملك أو الأمير قطعة من الأرض إلى من خدم الدولة بإخلاص، تعطى له على سبيل التمليك يستغلها ويعيش منها لنفسه خاصة، أما الآن فقد صار
إقطاعا من نوع آخر إقطاعا عصريا تقدميا، وهو إقطاع أو إعطاء الصديق المؤمن بالمبادئ وظيفة عالية، أو إدارة مؤسسة وطنية كبيرة يتولاها ليستغلها كما شاء، من غير أن يحاسبه محاسب، أو يراقبه مراقب - وإلا غضب - هذا هو إقطاع هذا الوقت (العصري) فهل فهمتم معنى الإقطاع العصري التقدمي أيها الإقطاعيون
…
؟؟؟
نعود إلى الموضوع المعنون له بـ - الاشتراكية وتحديد النسل - فنلقي نظرة على حياة العرب قبل الإسلام، فقد كانت حياتهم حياة جاهلية، وكان الرجل منهم يخشى ضيق العيش - لجهله - وقلة الرزق، كما كانت نظرتهم إلى المرأة نظرة خاطئة، فهي عندهم عضو أشل عاطل في جسد الأسرة والمجتمع، كما هي عندهم أيضا عبء ثقيل يحمله عائل الأسرة، لهذا زينت لهم نفوسهم الجاهلية التخلص منها بوأدها - دفنها - حية في التراب، وهي طفلة صغيرة، حتى لا تضايق الأسرة في رزقها، كما كانوا يخشون العار الذي قد ينجر للأسرة أو القبيلة بسبب سوء سلوكها وخروجها عن تقاليد الأسرة والوسط، لهذا ولغيره من الأسباب والاعتبارات السائدة في ذلك الزمان الجاهلي كانوا يدفنونها وهي حية ضعيفة، وقد تستغيث، ولكن ما لها من مغيث، كما كانوا يقتلون أولادهم الذكور خوفا من الفقر والجوع.
ولما جاء الإسلام - رحمة الله - أبطل هذا الجرم الفظيع بشرعه الرحيم، وأبان للعرب الجاهليين قبيح صنعهم، وأظهر لهم خطأهم فيما ذهبوا إليه، مبينا لهم ولغيرهم أن الرزق والقوت بيد الله الخالق العليم الرحيم - مع السعي منهم بالوسائل المعروفة - لا بيدكم أنتم معاشر العباد، وقد أمر رسوله - المبلغ عنه - بأن يتلو على قومه ما حرمه عليهم ربهم، وهو ما منعهم من إتيانه وفعله، لما فيه من الفساد والضرر وسوء الأعمال فقال تبارك وتعالى:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ (1) نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (2) وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
(1) الإملاق - الفقر والاحتياج.
(2)
الآية 151 من سورة الأنعام.
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (1).
والملاحظ في التعبير القرآني: أن الآية الأولى - آية الأنعام - نصت على أن قتل الآباء للأبناء كان بسبب الفقر الموجود فعلا، ولم يستطع معه الآباء أن يقوموا بواجب النفقة على أولادهم، ولم يتحملوا رؤية أبنائهم في حاجة إلى لقمة العيش، فيتخلصون منهم بقلتهم، لهذا قدم في الذكر رزق الآباء على الأبناء، وبين لهم أن الكل من الله.
أما في الآية الثانية: "آية الإسراء" فهي بالعكس من ذلك، فإنه قدم في الذكر رزق الأبناء على رزق الآباء لأن قتلهم لهم كان من أجل الخوف من فقر متوقع ومنتظر - فهو غير موجود - يرون أنهم لا يقدرون معه على القيام بنفقة أبنائهم، فيتخلصون منهم بقتلهم، فهذا التعبير البليغ من دقائق القرآن العجيبة، كما أشار إلى ذلك علماء التفسير القرآنيون، والمسلمون الآن صار البعض منهم يسلك سبيل الجاهلية الأولى، فيستعمل وسائل منع الحمل وهذا هو الوأد الخفي، كما في الحديث عندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن - العزل - الذي رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، وهو قوله:((ذلك الوأد الخفي)) إشارة لقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (2) فإذا تأملنا جيدا آيتي الأنعام والإسراء وجدنا أن القرآن يوصي الأبناء بالإحسان إلى آبائهم في حال كبر السن أو العجز عن اكتساب القوت، كما يوصي الآباء بالرحمة بأبنائهم في حالة الصغر والضعف، كل ذلك لتنشأ سلسلة الأسرة متماسكة الحلقات، كونت على أساس ومادة من الرحمة والحب والعطف والعدل، وبهذا يكون تكوين الأسرة وصوغها قويا وصنعها متينا محكما، لا تزعزعه الرياح والأعاصير مهما اشتدت واستمرت، إذ كل واحد فيها يعرف ما له وما عليه.
هكذا تربى الأسرة المسلمة بوصايا القرآن، غير أن صدوف المسلمين المتأخرين عن هدى القرآن ونور الإسلام الكامل، ونبذهم لشريعتهم - عملا وتطبيقا - ظانين أنهم يجدون الراحة والخير في غيرها، وصلاح
(1) الآيتان 30 - 31 من سورة الإسراء.
(2)
الآيتان 8 - 9 من سورة التكوير.
أمورهم في سواها، كل ذلك صيرهم إلى ما نرى ونشاهد من تفكك وضعف، ونقص واحتياج، وقساوة على بعضهم واحتيال حتى بين الآباء والأبناء، لأن رابطة الدين والقرآن - وهي أمتن الروابط - ضعفت فيهم، فمدوا أبصارهم وأيديهم إلى خارج ما رسمه لهم دينهم، وراحوا يقلدون ويتبعون من لا يؤمن بربه، ولا يعترف بخالقه، لهذا حل بهم ما حل بمن سبقهم من الأمم الغابرة - سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا - تلكم الأمم التي كفرت بربها ونبذت شرائعه واتبعت الشياطين وآمنت بالطواغيت، فلم يكن لهم فيهم العبرة البالغة، والعظة الكاملة، وكيف يكون فيهم هذا وهم لا يرون نصح الناصحين وموعظة الواعظين علاجا لأمراضهم، وصلاحا لشؤونهم، فساء حالهم وانحطت أخلاقهم، وانفلتت الدنيا من أيديهم، والآخرة كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالناظر البصير بالأمور يدرك أن مما ينشره ويذيعه الملاحدة بين الشعوب المسلمة بشتى وسائل الشر، المقصود منه بالذات أولا وقبل كل اعتبار إنما هو التعطيل لنشر الإسلام بين الناس، بل وانتزاعه من منابته، والمسلمون غافلون عن المقصود من ذلك، بل إن منهم من يرى أن ذلك في خيرهم وصلاحهم، وما هو في الحقيقة إلا الشر والإلحاد ينشر ويذاع بينهم، وعلى حساب دينهم، وسيعلمون نبأه بعد حين.
نعود بعد هذه البسطة إلى عنوان هذا الفصل وهو "تحديد النسل" أو منعه وإبطاله، وتحديد النسل إذا تدبرنا مدلوله نجده خدعة أو لعبة أريد بها ومن ورائها إنقاص عدد المسلمين وإضعافهم ليسهل دوسهم أو ابتلاعهم في يوم - ما - فهو مكيدة مبيتة، ودسيسة مدبرة من طرف خصوم الإسلام، زينوها للجاهلين وحسنوها للغافلين، ذلك أن الدارس للشريعة الإسلامية وأحكامها المحكمة وأهدافها الواضحة البينة يدرك ما قلناه سابقا من أن المطلوب من المسلم مطلوب شريف، مطلوب منه أن يكون عنصر صلاح وفلاح بين أبناء البشرية التائهة، فقد ضلت عن الطريق السوي الرشيد الذي يجب عليها أن تسلكه لتنجو من المهالك والأخطار.
المطلوب من المسلم أن يعمل - ما استطاع - لإرجاع إخوانه في الإنسانية إلى الجادة المثلى، إلى الصراط المستقيم، صراط الله الذي رسمه في شرعه ليسلكه عباده المؤمنون المهتدون بهديه.
من أجل هذا، ومن أجل أن الخالق تكفل بأرزاقنا وأقواتنا - إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين - إذا سعينا لها بالوسائل المطلوبة، فالمسلمون - مهما كثر عددهم - فهم قلة قليلة إلى جنب من كفروا بربهم، وجحدوا ألوهية خالقهم، وتمسكوا بخيوط واهية لا تمسكهم إلا كما تمسك خيوط العنكبوت أثقل الأشياء وزنا، وتركوا حبل الله المتين الذي لا نجاة للعباد من الهلاك والخسارة إلا في التمسك به والاعتصام بقوته ومتانته.
فتحديد النسل - الذرية - معناه أن نجعل لتزايد الأولاد حدا محدودا لا نتعداه، أو منعه وإبطاله مرة واحدة، فهو بهذا الاعتبار مخالف لما جاءت به الشريعة الإسلامية - مثل جميع الشرائع السماوية - فالمسلمون إذا عملوا على التقليل من نسلهم أو منعه فهم ضد شريعتهم، كما يتبين ذلك من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول المبلغ عن الله رغب أمته في تكثير نسلها وعددها لتكون به قوية.
من ذلك ما أخرجه أبو داود في سننه في باب: (النهي عن تزويج من لم يلد من النساء) عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما أصبت امرأة ذات حسب وجمال وأنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: ((لا))، ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال:((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)).
كما أخرجه النسائي أيضا بألفاظ متشابهة عن معقل بن يسار، وفي بعضها اختلاف يسير وعنون له بقوله:(كراهية تزويج العقيم)، وأخرج الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة، وينهى عن التبتل (1) نهيا شديدا، ويقول:((تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيام)) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وأقره وقال: وإسناده حسن.
هذه هي سنة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام التي كان يأمر بها أصحابه والتي لا ينبغي تركها والعدول عنها إلى ما دعت إليه الشياطين، فسيكاثر بأمته الأنبياء والأمم يوم القيامة، يوم يجمع الله فيه الخلائق، هذه
(1) الباءة القدرة على التزوج، والتبتل ترك الاشتغال بالدنيا والانقطاع للعبادة.
الكثرة إنما تكون بالعدد الصالح المؤمن القوي، هذه الكثرة في العدد سيتباهى بها الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو يفاخر الأنبياء والأمم ويفتخر عليهم بالكثرة المؤمنة الموحدة، لا بهذه القلة الزائغة الملحدة الضالة المضللة التي تشبه البهائم في البحث عن الأكل واللهو والملاذ والشهوات لا غير، هذه هي سنته، ومن رغب عنها ولم يعمل بها فليس من أتباعه كما قال:
((فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
فبناء على هذا الترغيب النبوي يجب على المسلمين ألا يخالفوا رسولهم فيما رغبهم فيه وحثهم عليه، بل وأمرهم به، كما يجب أن يكونوا دعاة له، لا دعاة لمخالفته، قال الله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
اللهم إن عبادك المسلمين فعلوا ما حذرتهم منه، وخالفوا أمر رسولك إليهم، وشتتتهم الأهواء والفتن، وأضعفتهم الشهوات، ونزل بهم العذاب الأليم، فقد صدق فيهم وعيدك وهم غافلون.
فتحديد النسل أو منعه قضية دينية قبل أن تكون اقتصادية، فالعمل بها مخالف للشريعة الإسلامية، ورد لرغبة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن الأروبيين الذين حاولوا كم من مرة أن يوهنوا الإسلام أو يقضوا عليه بقوة السلاح وخابوا - كالحروب الصليبية - قد رجعوا إلى الأوطان الإسلامية بعنوان - التعمير أو الحماية - في غفلة وضعف من الشعوب الإسلامية، وبعد أن هبت نسمة الحرية أو التحرير كان العالم الإسلامي في طليعة المحاربين، والمتتبع لسير الأحداث العالمية يدرك أن الشعوب غير الإسلامية أخذت حريتها واستقلالها بدون حرب تذكر وقتال شديد، وهذه القارة الإفريقية السوداء مثال لما قلت ودليل عليه، أما الشعوب الإسلامية فإنها ما بلغت إلى حريتها واستقلالها إلا بعد أن دفعت الثمن فيه باهظا جدا جدا من خيرة أبنائها.
فأروبا هالها وأفزعها كثرة تزايد عدد المسلمين، يضاف إلى ذلك استقلال الشعوب الإسلامية، وما يتبع ذلك من قوة وغيرها، فأخذت تفكر في
(1) الآية 63 من سورة النور.
مستقبلها وماذا سيكون فيه بعد أن استعاد المسلمون أوطانهم وقوتهم التي فقدوها بسبب استيلاء المستعمرين عليها، ففكروا كثيرا وقدروا تقديرا فهداهم تفكيرهم وتقديرهم إلى أن الشعوب الإسلامية سيأتيها يوم تسيطر فيه على العالم نظرا لبهرة عددها وقوتها المتزايدة وما تملكه في أوطانها من مواد خام وغير ذلك، وبذلك سينتزعون السيادة والقيادة منهم، لهذا أخذوا ينشرون تقارير خبرائهم الاقتصاديين، ويعلنون: أن العالم مقبل على مجاعة عظيمة بالنظر إلى عدد السكان وكثرتهم، وقلة الأقوات، وأذاعوا بياناتهم ناصحين، بأن الواجب يحتم على الشعوب - وخاصة النامية - والحكومات أن تستعد لمواجهة خطر هذه المجاعة المنتظرة بتنقيص عدد السكان - من غير أن ينقصوا هم من وسائل القتل والتدمير والإحراق والخراب، وهي وسائل تحصد البشرية حصدا - فكان أول الملبين لندائهم بعض الشعوب الإسلامية - إسما لا عملا - فتأثروا بتلك البيانات، فخطب نوابهم في المجالس، وخطباؤهم على المنابر، وسخروا لهذه الحملة ما عندهم من وسائل الإعلام والأخبار، من صحافة وإذاعة وغيرهما، وحتى من يسمون أنفسهم بـ - علماء الدين - باحثين ومنقبين عن المرخصات لتحديد النسل أو منعه، حتى لا يموت المسلمون - المساكين!!! - جوعا، وقد وجدوا في كلمة الإمام الغزالي سندا يستندون عليه، فصدرت بذلك الفتاوى من أصحاب الفضيلة حماة الدين، في الصحافة وغيرها مرغبة في اتخاذ الوسائل للتنقيص من الأولاد أو منعهم بتاتا، كأن الأرزاق بأيديهم لا بيد الله خالق العباد سبحانه لا إله غيره، ولا رازق سواه، حتى أن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة قد أعد جائزة مالية لمن ينظم نسله.
وهنا نكون قد رجعنا من حيث نشعر أو لا نشعر إلى حالة العرب الجاهليين التي نعاها عليهم القرآن مبينا لهم خطأهم في تقويم الأرزاق كما جاء ذلك في الآيات السابقة.
إن منع الحمل لا يجوز - شرعا - إلا في ظروف خاصة لا صلة لها بكثرة تزايد عدد سكان المعمورة، فإذا كان المنع من أجل الخوف من الجوع فهو من أعمال الجاهليين التي خطأهم فيها القرآن فيكون المسلمون قد رجعوا إلى عقيدة الجاهلية وعهدها، فمجوزه وفاعله لا إيمان لهما بربهما ولا بوعده، مهما تستر العامل به أو المجوز له بغير ما أظهره،
فإن الله لا تخفى عليه خافية، والعمل هنا تعينه النية، كما جاء في الحديث الصحيح:((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
فالذي يفكر ويعمل لتحديد النسل - خوفا من الجوع - فلماذا لا يعمل للإكثار من الصناعات ونشرها، وإيجاد وسائل العمل الشريف، وتوزيع الثروات توزيعا عادلا مفيدا على الأمة، ينال منه كل واحد على ما عنده من تجارب ومعرفة بطرق الإنتاج والتنمية، حتى تكتفي الأمة بما عندها من طاقات، وتستغني بذلك عن غيرها.
ألم ينظر هؤلاء - الفطن الحذاق - الذين خافوا على أبناء الأمة أن يموتوا جوعا - إلى الأمة الصينية الحالية، وكثرة السكان فيها وتزايدهم بصفة مهولة، حتى أن دولة أمريكا وطاقاتها البشرية وغيرها صارت تقرأ لها ألف حساب، وحساب
…
؟؟
إن الأمة الصينية بصناعتها التي غزت بها العالم لم تخف من الموت جوعا، لأنها تعلم أن قوتها في كثرة أفرادها، وما يقال في الأمة الصينية يقال في الأمة اليابانية الحديثة وصناعاتها العجيبة في إتقانها ورواجها في جميع أطراف العالم، وسكانها مع ضيق أرضها، والفارق الوحيد بيننا وبينهم هو العمل والكسل، والتقليد البليد، فاعتبروا بهذا يا أولي الأبصار.
إن الشعوب الإسلامية أصيبت بمرض الكسل والتكاسل - وكثرة الكلام الفارغ والثرثرة الحقيرة - ولو كانت حازمة وعاملة كالشعوب الأروبية أو بعض الشعوب الأسيوية - مثلا - لغيرت وجه أرضها بالصناعات، ولكانت أغنى بكثير من الشعوب الأروبية بالنظر لما عندها من خيرات وإمكانيات قل أن توجد في غيرها من البلدان الأخرى.
فالأبناء الشرعيون - أولاد الحلال - يجب التقليل منهم، حتى لا يموتوا جوعا، وأمال الأولاد غير الشرعيين - أولاد الحرام - فلا خوف عليهم ومنهم إذا كثروا - ما دامت لدى بعض الحكومات الإسلامية مراكز تؤويهم - وقد كثروا في هذا العهد الأخير كثرة فاحشة، بكثرة الأسباب والطرق التي تجيء بهم إلى هذه الحياة، والتي هي نتيجة حتمية لاختلاط الرجال بالنساء في كثير من الميادين - ولا ينشأ من الاختلاط إلا الشرور
والآثام - ولخروج المرأة المسلمة إلى الشوارع متبرجة كاشفة لما أمرها الله بستره، مع ضعف الإيمان أو انعدامه وموت الوازع الديني والأخلاق الإسلامية، والذين هم - أيضا - نتيجة جناية الأشرار والفساق على المجتمع الإسلامي الذي أفسدته الأخلاق الأجنبية الوافدة عليه من الخارج والتي تحارب الأخلاق الإسلامية، فهم - الأولاد غير الشرعيين - في ازدياد مطرد، ولم نسمع أن من المسؤولين من أخذته الشفقة والغيرة على الأخلاق والفضيلة فتكلم على منعهم، أو حتى التقليل منهم بإزالة الوسائل التي جاءت بهم إلى هذه الحياة السيئة، وهذا من نتائج المزدكية القديمة كما مر الكلام عليها سابقا، وأختها الاشتراكية الحديثة.
فالعامل على تقليل النسل - الأولاد - والآمر به والمجوز له كل هؤلاء مكذبون بوعد الله برزق عباده، والذي أفتى بجوازه من غير ضرورة شرعية - تبعا لهوى غيره - يجب عليه أن يراجع موقفه، وإلا فيا ويله يوم يقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية
…
فالمجوز له باع ضميره، واستجاب لرغبات العباد، وأعرض عما يوجبه عليه إيمانه، ودينه، وورعه - إن كان عنده ورع - وخوفه من خالقه.
والملاحظ هنا - بهذه المناسبة - أنني أعرف كثيرا من الرجال كانوا فقراء قبل أن تكون لهم زوجات وذرية، وكانوا في ضيق من العيش، وما أن تزوجوا ورزقوا أبناء حتى كثر رزقهم، واتسعت معيشتهم، وظلوا وباتوا في رغد من العيش، وهم هم كما كانوا قبل ازدياد أولادهم، لم تزد لهم أعضاء أخرى في أجسادهم، فلم يصر للواحد منهم رأسان - مثلا - وأربع أيد وأربع أرجل حتى يزداد سعيهم ودخلهم، وما ذلك إلا لأن المولود جاء برزقه معه لأن الرزاق حي لم يمت، وصدق الله في قوله:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1).
هذا في شريعتنا الإسلامية الخالدة، فقد علمنا ما دلت عليه آيات قرآنية لا تجيز - بدعة العصر - التي جاءت من قوم لا يؤمنون بخالقهم ولا يصدقون شرعه.
(1) الآية 58 من سورة والذاريات.
والذي أعرفه - في خارج شريعتنا الإسلامية - أن رجال الدين من اليهود والمسيحيين عارضوا معارضة قوية في تطبيق هذه البدعة - الإلحادية - من لدن أتباعهم من اليهود والنصارى، فقد أنكروا تحديد الأولاد عندما طلب إليهم أن يقولوا كلمتهم في ذلك، فقالوها، ولم يجوزوا استعمال الطرق التي تستعمل لمنع الحمل، وطلبت منهم حكوماتهم ذلك أيضا، فكان موقفهم واحدا، فكيف أجازه خلفاء محمد صلى الله عليه وسلم؟؟ - إن كانوا خلفاء له حقا - وخالفوه فيما رغب فيه ودعا أمته إليه؟ وأذكر أنني سجلت في مذكرتي الخبر التالي:(استمعت إلى إذاعة نشرة الأخبار من محطة "لندرة" يوم الإثنين 29 جويلية - تموز - 1968 في نشرة أخبار الساعة الرابعة بعد الظهر هذا الخبر: (قداسة البابا يؤكد مرة أخرى تحريم موانع الحمل الصناعية، كما يحرم الإجهاض) فالرئيس الديني المسيحي يعلن لأتباع دينه ما يوجبه مقامه الديني وكرسيه الجالس عليه، من غير أن يخشى المعارضين له وهم كثيرون، ومن غير أن يخاف أن يتهم بالرجعية.
والملاحظ أن أظهر ما ظهرت فيه الدعوة إلى منع الحمل أو تحديد النسل إنما هي الأوطان التي اتخذت المذهب الاشتراكي الشيوعي - المزدكي - دستورا لها، وأبطلت الدساتير الأخرى - وخاصة القرآن - وفي الأوطان الإسلامية بالخصوص التي ابتعدت كثيرا عن منهاج الشريعة الإسلامية، وابتدعت قوانين أخرى أقل ما يقال فيها إنها حرب مكشوفة سافرة أعلنت على شريعة الله - الإسلام - الطاهرة من كل الأقذار.
قلت إن أظهر ما ظهرت فيه الدعوة إلى منع الحمل أو تحديد النسل إنما هي في الأوطان الاشتراكية، ذلك لأنها لا تعترف بالدين، ولا تتبع ما تدعو إليه الأديان، فكل من عمل على تحديد النسل أو منعه فعلى نهجها سار وبمذهبها اقتدى، بعد أن علمنا أن رجال الدين من الديانتين "اليهودية والنصرانية" لم يجيزوه بل منعوه.
إذا ساغ للحكومات الملحدة أن تدعو إلى تحديد النسل أو منعه - نظرا لمذهبها الاقتصادي والمادي واللاديني - فإنه لا يجوز - بأي حال - أن تجيز
ذلك حكومات الشعوب الإسلامية، التي تدعي أن الإسلام دين الدولة، فما لهذه الحكومات ابتعدت كثيرا عن شعور غالبية شعوبها، التي لم ترض أن تلبي هذه الرغبة؟ فلم لم تأخذ بعين الاعتبار رغبات شعوبها؟ ومالت إلى رغبات طائفة من الملاحدة معينه، أولئك الذين لا رغبة لهم في الدين والتدين
…