المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: حماية العمل والعمال في الشريعة الإسلامية - المزدكية هي أصل الاشتراكية

[عبد اللطيف سلطاني]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌تقديم:

- ‌الباب الأول

- ‌الفصل الأول:ما هي المزدكية

- ‌الفصل الثاني: من ابتدعها

- ‌الفصل الثالث: أين نبتت شجرتها

- ‌الباب الثاني

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثالث: وقفة هاهنا للتأمل والاعتبار

- ‌الباب الثالث

- ‌الفصل الأول:الشرائع السماوية وسعادة البشرية

- ‌الفصل الثاني: ما نتج عن توريد المبادئ الأجنبية الهدامة

- ‌الفصل الثالث: الصحافة تنشر ما يساعد على بعث المزدكية

- ‌الفصل الرابع: الصحافة وحماة الدين

- ‌الباب الرابع

- ‌الفصل الأول:ما قدمته الأمة الجزائرية من ضحايا في سبيل الإسلام لا يتفق مع توريد بعض المذاهب الإلحادية

- ‌الفصل الثاني: كيف يكون الدفاع عن الإسلام

- ‌الفصل الثالث: مضار الخمر وغض النظر عنها

- ‌الفصل الرابع: النهي عن بيع العنب لمن يتخذه خمرا

- ‌الفصل الخامس: إنتهاك الحرمات الشرعية سببه من المبادئ الإلحادية

- ‌الفصل السادس: في الحلال عوض عن الحرام {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}

- ‌الباب الخامس

- ‌الفصل الأول:العلماء والتعصب

- ‌الفصل الثاني: من لا يتعصب لمبدئه فلا خير فيه

- ‌الفصل الثالث: الأحزاب السياسية والتعصب

- ‌الفصل الرابع: لمن هذه الأصوات…؟ وما شأنها

- ‌الفصل الخامس:جندي جيش التحرير الجزائري كان صاروخا بشريا صارخا

- ‌الفصل السادس: موقف العلماء من هؤلاء الساخرين

- ‌الفصل السابع:الاحتفال بالآثار الرومانية تعظيم للشرك والمشركين: ما هو الداعي إلى هذا

- ‌الفصل الثامن: الشريعة الإسلامية تنهى عن تعظيم المشركين وآثارهم

- ‌الفصل التاسع: افتخار أمراء المسلمين بإسلامهم، واعتزازهم بدينهم

- ‌الفصل العاشر: بين منبر الجمعة وكرسي الحكم

- ‌الباب السادس

- ‌الفصل الأول:المال في نظر (مزدك) واشتراكيته

- ‌الفصل الثاني: بالكد والعمل ندرك المآرب

- ‌الفصل الثالث: هل هذه بوادر المزدكية تلوح في الأفق

- ‌الفصل الرابع: من هو أبو ذر هذا

- ‌الفصل الخامس: من مكائد اليهود للإسلام، واغترار المسلمين بالمظاهر

- ‌الباب السابع

- ‌الفصل الأول:هل الإسلام قادر على حل جميع المشاكل

- ‌الفصل الثاني: حماية العمل والعمال في الشريعة الإسلامية

- ‌الباب الثامن

- ‌الفصل الأول:الاشتراكية والدين

- ‌الفصل الثاني: محاربة الاشتراكية الشيوعية للإسلام

- ‌الفصل الثالث: من التبشير المسيحي إلى التبشير الإلحادي

- ‌الفصل الرابع: الاستهتار بالقيم الروحية - وشهد شاهد من أهلها

- ‌الفصل الخامس: تمزيق المصحف، وإحراقه

- ‌الباب التاسع

- ‌الفصل الأول:الاشتراكية الشيوعية، والديموقراطية والحرية

- ‌الفصل الثاني: خداع العناوين

- ‌الفصل الثالث: من ذيول الاشتراكية تحديد النسل

- ‌الباب العاشر

- ‌الفصل الأول:مسؤولية حكومات الشعوب الإسلامية

- ‌الفصل الثاني: منزلة الحاكم في الشريعة الإسلامية

- ‌الفصل الثالث: من هو أبو مسلم الخولاني

- ‌الفصل الرابع: الإسلام دين ونظام حياة

- ‌الفصل الخامس: من هم المتهوكون

- ‌الفصل السادس:اعتراف جاسوس فرنسي، قال: "إن الإسلام دين المحامد والفضائل

- ‌الفصل السابع: مأساة اليمن

- ‌الباب الحادي عشر

- ‌الفصل الأول:مفهوم المدنية والتمدن عند جيل هذا العصر

- ‌الفصل الثاني: الإنسان العصري المتمدن والإيمان بالغيب

- ‌الباب الثاني عشر

- ‌الفصل الأول:هل في الاشتراكية خير للإنسانية؟ ازدياد عدد الفقراء فيها

- ‌الفصل الثاني: الاشتراكية والمرأة

- ‌الفصل الثالث: وصية الإسلام بالرفق بالضعفاء: اليتيم، والمملوك، والمرأة

- ‌الفصل الرابع: صون الإسلام للمرأة، وابتذال غيره لها

- ‌الفصل الخامس: مثال من حصافة رأي المرأة العربية المسلمة

- ‌كلمة ختامية:

الفصل: ‌الفصل الثاني: حماية العمل والعمال في الشريعة الإسلامية

يصلح العباد، وهو الذي قال:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) فشرع لهم ما فيه الخير والسعادة والكفاية لهم، فهم في غنى عن كل قانون وضعه البشر، لأن نظر البشر مداه قصير ومحدود، ولو بلغ أعلى درجات العلم والمعرفة، ولكنه الضلال البشري، والإلحاد والكفر والتمرد والخروج عن قانون الخلاق العليم الحكيم، وذلك دليل على الضلال المبين، والخسران العظيم، نسأل الله السلامة والعافية.

فالواجب على حكومات الشعوب الإسلامية - إن أرادت الخير للمسلمين - أن تعمل وتجبر المسلمين على تطبيق أحكام وقوانين الشريعة الإسلامية، لا أن تجردهم منها بدعوى أنها غير قادرة على حل مشاكل الوقت الحاضر، أو أنها لا توافق روح العصر والتطور البشري كما يتفوه بهذا بعض الجهلة الأغرار.

‌الفصل الثاني: حماية العمل والعمال في الشريعة الإسلامية

.

أي قانون وضعي يحمي العامل الكادح المسكين من ظلم رئيسه أو رؤسائه، ويأمر رب العمل بإعطاء أجرة العامل بكل سرعة ممكنة؟ لم نعلم لهذا قانونا وضعيا، بالرغم مما تذيعه وتدعيه بعض الدول التي تبنت قوانين العمل والعمال وجعلتها من خصائصها ومميزاتها، أما في قانون الشريعة الإسلامية فإننا نجد ذلك في أوامر الله ورسوله ونواهيهما، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) (2)، وجاء في رواية بعد قوله: قبل أن يجف عرقه زيادة ((وأعلمه أجره وهو في عمله)) (3). كما توعد الله من استعمل عاملا فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره، فالله رب العباد هو خصمه يوم القيامة، كما جاء في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة - ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة - رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا ثم فأكل ثمنه،

(1) الآية 14 من سورة الملك.

(2)

رواه ابن ماجه في باب أجر الأجراء.

(3)

رواه البيهقي.

ص: 122

ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره)) (1). فالمسلمون في حاجة أكيدة إلى تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بروح خالصة من كل ما ينافي الإيمان، ونية صادقة - لا إلى جلب قوانين وضعية لا تطبق إلا بقوة سلطة الحكومة القائمة.

ومن أمثلة تطبيق المسلمين بأنفسهم لقوانين شريعتهم على العمال، ما جاء في كتب السنة من أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه كان له غلام - عامل - كساه مثل اللباس الذي عليه هو، فرآه أحد إخوانه - المعرور بن سويد - وعليه حلة - كسوة - مثل التي على خادمه، فسأله عن ذلك، فأجابه بما أوصاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله:((إخوانكم خولكم، جعلهم الله قنية تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه)) (2). فالعامل أخ لصاحب العمل، وحقوق الأخوة في الإسلام تتطلب الرحمة والعطف واللين والمساعدة، فهل في القوانين الأخرى - غير الإسلامية - مثل هذا .. ؟؟ ذلك أن الله يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (4) فالمسلمون قد أحكم الإسلام رابطة الأخوة بينهم، فالحب متبادل بين العامل ورب العمل، من غير أن يكون لصراع الطبقات مكان بين الأخوة كما نشاهده في الوقت الحاضر، من إيقاد نار الفتنة والعداوة والخصومات بين طبقات العمال وأرباب الأعمال من أبناء الأمة الواحدة، فالفقراء يبغضون الأغنياء، والأغنياء يحتقرون الفقراء، وهذا لا يحبه الإسلام، ولا يرضى به، ولهذا أمر بإزالة أسبابه.

هذا هو عامل الإسلام في بذر بذور الأخوة والمحبة بين جميع طبقات الأمة، غير أن بعض العمال في البلاد الإسلامية قد تأثر بالدعاية الشيوعية التي تثير الأحقاد وتزرع الضغائن بين أبناء وطبقات الأمة الواحدة، فقد

(1) رواه البخاري وابن ماجة في الباب المذكور.

(2)

أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي ذر.

(3)

الآية 10 من سورة الحجرات.

(4)

أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس.

ص: 123

رأينا وسمعنا بعض الفقراء يصيحون عمن يرون عليه ثيابا نقية: يا بورجوازي أنت أكلت حقوقنا!!! ولو تأملوا في لباس من أثاروا هذه الفتنة بين الإخوة في الأمة الواحدة لعلموا أن أولئك هم البورجوازيون - حقيقة - لما يشاهدونه عليهم من آثار التنعم والبذخ: في لباسهم، ومركوبهم، ومساكنهم، وغير ذلك، ولكنها الدعاية المضللة والمهرجة والطمع القبيح.

فالشريعة الإسلامية جعلت للمخالفات والمنازعات أحكاما وحدودا، لو عمل بها المسلمون لزالت من بينهم كل أسباب العداوات، حتى الجنايات لها حدود وعقوبات بحسب الظروف والملابسات والأحوال، فإذا ارتكب المسلم مخالفة أو جناية عوقب عليها إلا في ظروف وأحوال خاصة، كالسرقة - مثلا - إذا كانت من اضطرار واحتياج، فإن السارق لا يطبق عليه الحد، ولا تقطع يده، لأنه سرق مضطرا، اضطره الجوع والحاجة إلى القوت، والشرع رحيم بالعباد، وفي قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع غلمان حاطب بن أبي بلتعة ما يدعم ذلك، وهو الحريص على تنفيذ الحدود والعقوبات، ولو على أقرب الناس إليه، إذا قامت البينة على ذلك، فقد ذكر المؤرخون وهم يتحدثون عن عدل عمر واجتهاده في أحكام الشريعة القصة التالية:

(روي أن غلمانا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتي بهم عمر فأقروا فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم، فلما رآهم صفر الوجوه، عليهم أثر الجوع والفاقة عدل عن إقامة حد السرقة عليهم، وقال لسيدهم: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له، لقطعت أيديهم، ثم وجه القول إلى عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة فقال: وايمن الله إذ لم أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك. ثم قال: يا مزني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة، قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة، وأعفى الغلمان السارقين من الحد، لأن حاطبا اضطرهم إلى السرقة لجوعهم وحاجتهم إلى سد رمقهم) من هذه القصة نعلم مبلغ اهتمام الحاكم المسلم بحالة العمال.

إن المجتمع المسلم الذي كونه الإسلام بتعاليمه وأحكامه العادلة مجتمع فاضل شغوف بالخير والإحسان، وقد بلغ درجة عالية في حب الخير،

ص: 124

حتى للعاجزين عن ذلك، فقد جاء في أخبار السنة النبوية أن فقراء الصحابة قد اهتموا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل الخير والإحسان، غير أنهم وجدوا أنفسهم عاجزين عن ذلك، فهم يحبون أن يتصدقوا أو يعتقوا الرقاب أو يجهزوا المجاهدين في سبيل الله أو غير ذلك من أوجه البر والإحسان، لذلك ذهب منهم جماعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكون حالهم وفقرهم وقصر ذات أيديهم عن بذل المال، لأنهم فقراء لا مال لهم، فهم لم يحسدوا الأغنياء على ما في أيديهم من الأموال، ولم يشكوهم لأنهم أكلوا عرقهم، إنما لأنهم يحبون أن يفعلوا الخير ولا قدرة لهم عليه، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه:

(إن فقراء المهاجرين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور - يعنون الأغنياء - بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فأرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عمل يلحقهم بمن سبقهم ويسبقون به غيرهم، ولا يكون أحد أفضل منهم إلا من صنع مثل صنعهم، فلما رضوا بذلك أرشدهم إلى أن تسبيح الله وتحميده وتكبيره عقب كل صلاة مفروضة ثلاثا وثلاثين مرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى آخر ما جاء في متن الحديث بطرقه وألفاظه المتعددة، في كل ما ذكر أجر عظيم وثواب كثير، يوازي ما يقدمه الأغنياء من صدقات وغيرها، لأن فيه تنزيه الله عما لا يليق به وتكبيره وتعظيمه الخ، لأن ذلك يدل على قوة الإيمان، في حين ربما قد لا يكون للمتصدق بماله ثواب ولا أجر، لاختلال في صدقته.

نستلهم من هذا الإرشاد النبوي سبل تربية الإسلام للمسلمين، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يوغر صدور الفقراء على الأغنياء، فلم يقل لهم - مثلا - أنهم ظلموكم، أو أكلوا عرق جبينكم، أو امتصوا دماءكم أو غير ذلك مما نسمعه اليوم من محترفي السياسة وزعماء الإشهار، بل دلهم على أعمال تعود عليهم بالنفع والخير، من غير خصومة ولا عداوة لأحد، فليس في القوانين البشرية الوضعية ما في قوانين الشريعة الإسلامية لو وجد في المسلمين من ينفذها ويعمل بها.

يزعم واضعوا القانون البشري أن فيه الحماية والرعاية لحقوق العامل

ص: 125

ومصالحه، غير أن الواقع بخلاف ذلك، فكم من عامل رفع شكواه وظلامته إلى النقابة التي تتزعم حركة العمال، أو إلى المجلس القضائي الخاص بقضايا العمل والعمال طالبا إليها أن تأخذ له حقه وتنصفه ممن ظلمه، ولكن بدون جدوى وفائدة، انتظار طويل، وتسويف كثير مخل وممل، والعامل المسكين يجيء ويذهب، ويصعد وينزل، إلى أن ييأس، فيترك الدعوى آسفا على ما ضيعه من وقت ومال.

إذ من المشاهد المسلم به أن الطبائع الخلقية قد فسدت وتغيرت وزال من القلوب الخوف من الله القادر على كل شيء، واستحوذ عليها حب الأثرة، ونسي الناس الجبار المنتقم من الظالم للمظلوم، فصارت فطر الناس تتأثر بالمظاهر الظاهرة الخلابة الخادعة، وبما يزينه لها شياطين الإنس والجن، فزال منها الذوق الفطري السليم، وصارت كالآلة الحديدية الصماء تعمل حسب تصميمها ووضعها من غير أن تشعر بأن عليها مراقبا يراقب عملها وسيرها. وكمثل على هذا فليجرب من أراد التجربة، كي يلمس بنفسه ويده ما ذكرته من فساد الطبائع الخلقية وذهاب الروح الدينية إلا من القليل، فليجلس إلى جماعة - أي جماعة كانت - ويشاركهم فيما يدور بينهم من أحاديث وحوار وآراء، فإنه يرى ويسمع منهم العجب العجاب، فلا يسمع إلا ما يستبين به بعد الناس عن الخوض فيما له صلة بالدين وقوانينه، وفرارهم من كل ما فيه صلة بالروحيات والشرائع الإلهية، اللهم إلا النادر القليل، الذي لا زالت فيه بقية صالحة من عقيدة التوحيد وحب الإسلام، فإذا أراد أن يشاركهم فيما يتناولون من مواضيع، وتكلم معهم وطرق في حديثه موضوع الإسلام وقوانينه وعدالته وشريعته وحبها للطهر والفضيلة والأخلاق الطيبة، فإنه سرعان ما يرى الانقباض باديا على الوجوه، هذا إذا لم يتفرق من حوله من كانوا إلى جنبه، فإذا تكلم أحد الجالسين بكلام لا صلة له بالإسلام - وقد يكون منافيا للأخلاق - فإنه يرى الوجوه تتهلل وتستبشر، لماذا هذا التحول السريع فيما يظهر؟ لأن الكلام قد ابتعد عن الجو الديني ودخل ميدانا آخر، وهذا إنما حدث ويحدث غالبا من الدعايات المضللة الملحدة التي تصور الدين وكأنه شر وبلاء، لا خير ورحمة، وساعد هذه الدعاية على تأثيرها في أوساط الشبان المسلمين بالخصوص أنها تملك في حيازتها شتى وسائل الإعلام، من صحافة وإذاعة وغيرهما، ولم يعط

ص: 126

للإسلام ودعوته أية قيمة تذكر، وما أعطيت له من حصص فهي قليلة جدا، وتعطى لأناس لا صلة لهم بالدين - إلا القليل منهم - وفي بعض الأوقات تعطى للنساء، وبضاعتهن في هذا الميدان قليلة، وقد أعطيت في بعض الأوقات لمن لا يحسنون التكلم بالعربية، فيخاطبون الناس بالفرنسية فيما يرجع إلى الأمور الدينية!!! فيقول بعضهم في الإسلام - لِزْلَامْ - كما ينطق به غير العربي، وفيهم حتى المتجنس بالجنسية الفرنسية، وبه خرج من الشريعة الإسلامية بفتاوي العلماء.

والمقصود من هذا كله إبعاد علماء الإسلام عن الاتصال بالأمة المسلمة، حتى لا تتأثر بكلامهم، فإذا سمعت كلاما من غيرهم - قصد به سد الفراغ - فإنه لا يؤثر فيها التأثير المطلوب وذلك هو المقصود.

وفي مثل هؤلاء ما حكاه القرآن عن حال الكافرين المشركين حين يذكر الله وحده في مجالسهم من غير ذكر لمعبوداتهم الباطلة، فقال:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (1)، ومما يناسب هذا وما تقدمه من الكلام على - مزدك والمزدكية - أن أذكر هنا بيتين أوردهما الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين" وقيل إنهما للأصمعي في هجو البرامكة - وأصلهم من الفرس - بعد أن حل بهم ما حل - في نكبتهم - من الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهما:

إذا ذكر الشرك في مجلس

أنارت وجوه بني برمك

وإن تليت عندهم آية

أتوا بالأحاديث عن مزدك (2)

فالشعب المسلم - أينما كان - يرد على دعاة الإلحاد والكفر والزندقة الذين يحاولون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وأقلامهم المسمومة، كما يحاولون تغليط الأمة المعلمة بواسطة مبادئ شيطانية - مزدكية - يرد آراءهم وبضاعتهم الرخيصة بقول الله تعالى:{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} (3). هذا ما أمر الله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن

(1) الآية 43 من سورة الزمر.

(2)

ج 2 ص 309 طبع مطبعة الاستقامة.

(3)

الآية 57 من سورة الأنعام.

ص: 127

يرد به على مشركي زمانه، كما يقوله المؤمنون الصادقون لملاحدة هذا العصر، ويقول الشاعر العربي: مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله ابن الزبير بن العوام رضي الله عنهما، من قصيدة ناظر بها إسحاق بن إسرائيل فقال منها:

وقد سنت لنا سنن قوام

يلحن بكل فج أو وجين (1)

وكان الحق ليس به خفاء

أغر كغرة الفلق المبين

وما عوض لنا منهاج جهم

بمنهاج ابن آمنة الأمين

فأما ما علمت فقد كفاني

وأما ما جهلت فجنبوني (2)

كيف يرضى شعب مسلم له تاريخ حافل بالأعمال الشريفة والمواقف العظيمة، ورث الأخلاق الإسلامية عن آبائه الأمجاد، تلكم الأخلاق المشبعة بروح الإيمان القوي، المؤمن بدينه وشريعته وأحكامها؟ كيف يرضى أن ينبذ كل ذلك وينسلخ عنه بما فيه من محامد وأيام بيض غر في جبين التاريخ؟ من أجل طائفة لا تؤمن بالدين، أرادت ذلك، ولم تفكر في العواقب والنتائج، كيف يرضى شعب مسلم أن يعوض ويبدل منهاج وشريعة محمد بن آمنة عليه الصلاة والسلام بمنهاج (جهم) أو (مزدك) أو (ماركس) أو غيرهم، كما قال موسى لبني إسرائيل:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (3) أم هل من له كنز عظيم كالإسلام ينفق منه ويجد فيه كل ما يحتاج إليه من تشريع كامل، ورحمة شاملة، من له هذا الكنز يحتاج إلى الاقتراض من الغير، أو يمد يده إلى غيره كالسائل المستجدي؟ اللهم لا إلا من كان جاهلا بأن له كنزا فهو لا يعرف عنه شيئا.

فمن رغب في تبديل قوانين الشريعة الإسلامية الكاملة، بقوانين أخرى وضعية - أو وضيعة - كيفما كان واضعها فهو غاش للمسلمين، بل ولم يكن منهم، لقول الرسول عليه الصلاة والسلام:((من غشنا فليس منا)) (4) وإنما هو عميل للملاحدة الكفرة، لأن الحق واضح، وهل يستطيع معاند

(1) الوجين شاطئ وطرف النهر.

(2)

ج 2 من كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.

(3)

الآية 61 من سورة البقرة.

(4)

رواه ابن ماجه.

ص: 128

مكابر صحيح البصر أن يفضل نور النجم على ضوء الشمس أو على نور القمر

؟ أو في إمكانه أن يفضل قنديل الزيت الضعيف على مصباح الكهرباء الوهاج، أو على ضياء الشمس؟؟؟ إذا كان كل ذلك غير ممكن ولا يقوله عاقل يدري ما يقول، فالواقع والحقيقة أنه لا أعدل ولا أشمل لمصالح البشر من تشريع الإسلام العظيم، ولله در البوصيري في قوله:

الله أكبر إن دين محمد

وكتابه أقوى وأقوم قيلا

لا تذكروا الكتب السوالف عنده

طلع النهار فأطفئ القنديلا

فإذا طلع النهار بشمسه المضيئة وجب أن يطفأ قنديل الزيت الضعيف، فالإسلام كما قيل:

كالبدر لا تختفي ليلا أشعته

إلا على أكمه لا يعرف القمرا

لكن الجهالات المتفشية في المجتمعات العصرية دفعت بالمسلمين إلى الاقتداء بغيرهم حتى في الكفر، فقد كفروا بالاتباع والتقليد لغيرهم، ولهذا حذر العقلاء من الاندفاع وراء من لا يقدرون للعواقب نتائجها كما قال أبو محمد عبد الحق الإشبيلي تحت عنوان "كفروا تقليدا"؟

لا يخدعنك عن دين الهدى نفر

لم يرزقوا في التماس الحق تأييدا

عمي القلوب عروا عن كل فائدة

لأنهم كفروا بالله تقليدا

ص: 129