المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول:مسؤولية حكومات الشعوب الإسلامية - المزدكية هي أصل الاشتراكية

[عبد اللطيف سلطاني]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌تقديم:

- ‌الباب الأول

- ‌الفصل الأول:ما هي المزدكية

- ‌الفصل الثاني: من ابتدعها

- ‌الفصل الثالث: أين نبتت شجرتها

- ‌الباب الثاني

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثالث: وقفة هاهنا للتأمل والاعتبار

- ‌الباب الثالث

- ‌الفصل الأول:الشرائع السماوية وسعادة البشرية

- ‌الفصل الثاني: ما نتج عن توريد المبادئ الأجنبية الهدامة

- ‌الفصل الثالث: الصحافة تنشر ما يساعد على بعث المزدكية

- ‌الفصل الرابع: الصحافة وحماة الدين

- ‌الباب الرابع

- ‌الفصل الأول:ما قدمته الأمة الجزائرية من ضحايا في سبيل الإسلام لا يتفق مع توريد بعض المذاهب الإلحادية

- ‌الفصل الثاني: كيف يكون الدفاع عن الإسلام

- ‌الفصل الثالث: مضار الخمر وغض النظر عنها

- ‌الفصل الرابع: النهي عن بيع العنب لمن يتخذه خمرا

- ‌الفصل الخامس: إنتهاك الحرمات الشرعية سببه من المبادئ الإلحادية

- ‌الفصل السادس: في الحلال عوض عن الحرام {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}

- ‌الباب الخامس

- ‌الفصل الأول:العلماء والتعصب

- ‌الفصل الثاني: من لا يتعصب لمبدئه فلا خير فيه

- ‌الفصل الثالث: الأحزاب السياسية والتعصب

- ‌الفصل الرابع: لمن هذه الأصوات…؟ وما شأنها

- ‌الفصل الخامس:جندي جيش التحرير الجزائري كان صاروخا بشريا صارخا

- ‌الفصل السادس: موقف العلماء من هؤلاء الساخرين

- ‌الفصل السابع:الاحتفال بالآثار الرومانية تعظيم للشرك والمشركين: ما هو الداعي إلى هذا

- ‌الفصل الثامن: الشريعة الإسلامية تنهى عن تعظيم المشركين وآثارهم

- ‌الفصل التاسع: افتخار أمراء المسلمين بإسلامهم، واعتزازهم بدينهم

- ‌الفصل العاشر: بين منبر الجمعة وكرسي الحكم

- ‌الباب السادس

- ‌الفصل الأول:المال في نظر (مزدك) واشتراكيته

- ‌الفصل الثاني: بالكد والعمل ندرك المآرب

- ‌الفصل الثالث: هل هذه بوادر المزدكية تلوح في الأفق

- ‌الفصل الرابع: من هو أبو ذر هذا

- ‌الفصل الخامس: من مكائد اليهود للإسلام، واغترار المسلمين بالمظاهر

- ‌الباب السابع

- ‌الفصل الأول:هل الإسلام قادر على حل جميع المشاكل

- ‌الفصل الثاني: حماية العمل والعمال في الشريعة الإسلامية

- ‌الباب الثامن

- ‌الفصل الأول:الاشتراكية والدين

- ‌الفصل الثاني: محاربة الاشتراكية الشيوعية للإسلام

- ‌الفصل الثالث: من التبشير المسيحي إلى التبشير الإلحادي

- ‌الفصل الرابع: الاستهتار بالقيم الروحية - وشهد شاهد من أهلها

- ‌الفصل الخامس: تمزيق المصحف، وإحراقه

- ‌الباب التاسع

- ‌الفصل الأول:الاشتراكية الشيوعية، والديموقراطية والحرية

- ‌الفصل الثاني: خداع العناوين

- ‌الفصل الثالث: من ذيول الاشتراكية تحديد النسل

- ‌الباب العاشر

- ‌الفصل الأول:مسؤولية حكومات الشعوب الإسلامية

- ‌الفصل الثاني: منزلة الحاكم في الشريعة الإسلامية

- ‌الفصل الثالث: من هو أبو مسلم الخولاني

- ‌الفصل الرابع: الإسلام دين ونظام حياة

- ‌الفصل الخامس: من هم المتهوكون

- ‌الفصل السادس:اعتراف جاسوس فرنسي، قال: "إن الإسلام دين المحامد والفضائل

- ‌الفصل السابع: مأساة اليمن

- ‌الباب الحادي عشر

- ‌الفصل الأول:مفهوم المدنية والتمدن عند جيل هذا العصر

- ‌الفصل الثاني: الإنسان العصري المتمدن والإيمان بالغيب

- ‌الباب الثاني عشر

- ‌الفصل الأول:هل في الاشتراكية خير للإنسانية؟ ازدياد عدد الفقراء فيها

- ‌الفصل الثاني: الاشتراكية والمرأة

- ‌الفصل الثالث: وصية الإسلام بالرفق بالضعفاء: اليتيم، والمملوك، والمرأة

- ‌الفصل الرابع: صون الإسلام للمرأة، وابتذال غيره لها

- ‌الفصل الخامس: مثال من حصافة رأي المرأة العربية المسلمة

- ‌كلمة ختامية:

الفصل: ‌الفصل الأول:مسؤولية حكومات الشعوب الإسلامية

‌الفصل الأول:

مسؤولية حكومات الشعوب الإسلامية

.

إن حكومات الشعوب الإسلامية مسؤولة أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام شعوبها عن كل تحريف أو انحراف - عن سبيل الله - يقع لشعوبها فإن المسؤولية عظيمة، والتبعات كبيرة، وتقلبات الأيام غير مأمونة {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).

والملاحظ - أيضا - أن البعض من أولئك المسؤولين غير مهتمين بانحراف بعض أفراد شعوبهم عن طريق دينهم - بقدر اهتمامهم بكراسيهم الجالسين عليها - ذلك أن البعض منهم لم يطبع بطابع الإسلام الصحيح غير المزيف، فلو أنهم ربوا تربية إسلامية كاملة غير ناقصة لكانوا هم في طليعة من يحمي الإسلام - بما في أيديهم من السلطة - ويدافع عنه عدوان المعتدين، وضلال الضالين، غير أن البعض منهم هو المعتدي الأول.

فقد لمسنا في بعض المسؤولين الكبار في بعض الشعوب الإسلامية ما لمسناه وعرفناه - قديما في الحاكم المطلق المتصرف بأمره، غير مبال بشعور الشعب ولا بالأمانة الملقاة على عاتقه، فحسب نفسه أنه أصبح ملكا من الملوك - غير الدستوريين - له وحده الأمر والنهي، فلم يبعدوا عن الملوك الديكتاتوريين الذين قص علينا التاريخ حياتهم الخاصة والعامة، مثل تضييع أموال الأمة في سبيل شهواتهم وملاذهم، إلى مرض التظاهر بالعظمة والقوة، إلى الترفع والتكبر عن شعوبهم - كأنهم خلقوا من عنصر آخر خاص بهم - إلى احتقار الشعوب في كرامتها وقد أحاطوا أنفسهم بهالة من التقديس، والألقاب الفخمة

(1) سورة النور الآية 63.

ص: 191

- وهي لا تساوي فحمة - والهيمنة المصطنعة المكشوفة، إلى كثير من الصفات التي صيرتهم ملوكيين أكثر من الملوك.

قلت فيما سبق - قريبا - أن البعض من المسؤولين في بعض الشعوب الإسلامية لم يكونوا ممن يحمون الإسلام أو يدافعون عنه عدوان المعتدين، فكيف نفهم؟ وماذا نقول؟ فيمن ادعى لنفسه أنه أدرك - بعلو تفكيره - ما فات علم الخالق، وما سطره في الشريعة الإسلامية وأمر عباده المؤمنين به أن يتبعوه ويعملوا به، وذلك فيما يخص المرأة المسلمة وغيرها مما سنتعرض له في هذه الدراسة للمزدكية وفرعها الاشتراكية، فتدارك ذلك بتشريعه، وإزال عن المرأة كل غبن أو حيف وانحطاط جاءها من الشريعة الإسلامية، بل ذهب بعيدا في تحديه وإبطاله لأحكام الإسلام والقرآن، وعد ذلك منه إصلاحا، فقد أبطل ما شرعه القرآن بنصوص آياته الصريحة.

هذا ما قاله - وفعله - الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، فقد أكثر من من اعتداآته على الإسلام والقرآن حتى تجاوز حدود البشر، ودخله الغرور والعجب إلى أن رفع شخصه الخيالي فوق مقام الرسالة المحمدية.

وإني أضع بين يدي القراء ما صرح به لمراسل صحيفة (لوموند) الفرنسية الذائعة الصيت، وكثيرة الانتثار، فقد نشرت هذه الصحيفة تصريح الرئيس التونسي في عددها الصادر بتاريخ (26 ماي 1969) في (لوموند الديبلوماسي) تحت عنوان:

حديث مع الرئيس حبيب بورقيبة

أجراه معه الصحافي الفرنسي الشهير "جان لاكوتور"

وسأعقب عليه بما أراه لازما، فإليكم ترجمة ما به الحاجة من ذلك التصريح:

(إن الأمر الهام الآخر الذي عالجناه يتعلق بالمرأة عموما، الساكنة منها في الريف أو في المدينة، وعملنا هذا من أجل المرأة، لأننا نعتقد أن المرأة كائن بشري (ومن قال له أنها حيوان أو جماد).

إنكم تعلمون كيف كانت معتبرة من قبل في عهد الانحطاط، كما أن وضعيتها التي تجعل منها كائنا منحطا كانت تعززها الاعتبارات الدينية.

ص: 192

إن الدين والقرآن قد وضعا المرأة في منزلة سفلى، وفي مستوى أدنى، فهي أقل ذكاء، وحقها في الإرث أقل من حق الرجل، ووظيفتها الوحيدة هي إنجاب الأولاد.

ولقد أقدمت على هذا الإصلاح منذ بداية الاستقلال، ويرجع تاريخ القانون الذي يغير حالة المرأة، والزواج، والذي يحرم تعدد الزوجات إلى يوم "13 أوت 1956" أي أربعة أشهر بعد الاستقلال، واعتمدت في هذا على السمعة التي تم الحصول عليها أثناء الكفاح ضد السيطرة الأجنبية، وأردت أن أعمل كل هذا من بين الأعمال التي شرعنا في تحقيقها آنذاك، وليس من السهل القيام بشيء يخالف ويتعارض مع القرآن، وإني متيقن بأن عددا كبيرا من البلاد الإسلامية متفقة معنا، غير أنها لا تجرؤ على الإعلان بذلك.

وهناك إصلاح آخر لم تقس أبعاده كما ينبغي، وهو إغلاق جامعة الزيتونة، تلك الجامعة التي تكون أناسا هم من القرون الوسطى، ويوجد نفس الوضع في المغرب وفي مصر، يجب قبل كل شيء الذهاب إلى المدرسة، ومن شاء التخصص في علم التوحيد - الدين - فله ذلك بعد أن يحصل على شهادة البكالوريا كجميع الناس - وهذا شيء مشترك - لا بواسطة تعليم ديركليني (مكان في فرنسا) وفي عهد أبلارد (عالم ديني عاش في فرنسا من (1079 إلى 1142) وهذا في القرن العشرين). انتهى ما به الحاجة من هذا التصريح.

والذي يتأمل في هذا التصريح البورقيبي الخطير يدرك ما يرمي إليه صاحبه، فقد أظهر بصراحة تامة لا تقبل التأويل ما هي قيمة الشريعة الإسلامية في نظره، وما هي منزلة القرآن في قلبه.؟؟

لا أقول أنه لا يفهم ما يقول في الجملة - ولعله يضحك علي أنا ويقول لي أنك لم تفهم مرادي، كعادته مع كل من لم يتبعه على ضلاله - فالرجل الذي يقول: أن الدين، والقرآن قد وضعا المرأة في منزلة سفلى وفي أدنى مستوى (وهو خلاف ما في الدين والقرآن) هو متعمد ما قاله، - وحاش الدين والقرآن من ذلك - إنما الأمر مقصود منه لاعتبارات شتى، فهو يرى أن دراسته للحقوق - أو للعقوق - رفعته إلى مكان أرفع من مكان الشرائع

ص: 193

السماوية - خصوصا وأن محمدا صلى الله عليه وسلم المشرع بعد الله - ليس عنده "شهادة الحقوق"مثل التي عنده هو - فهو يرغب في الإتيان بشريعة أحسن وأليق بالبشر من شريعة الله، فجاء بـ (المزدكية).

وتعقيبنا على هذا التصريح نوجزه فيما يلي:

1 -

قوله أن الدين والقرآن قد وضعا المرأة في منزلة سفلى الخ. نقول حاش لله وحاش للدين والقرآن أن يكون منهما هذا القصد السيء الذي أبداه هو فمن درس التاريخ القديم - لما قبل الإسلام - علم أن الإسلام والقرآن قد رفعا منزلة المرأة إلى أعلى مراتب الاحترام والكرامة، هذا إذا درس التاريخ بنزاهة وبدون روح التعصب الممقوت، وما قاله بورقيبة هو قول قديم مشهور لخصوم وأعداء الإسلام، فما هو إلا تابع لهم وسائر في ركبهم - لا أكثر ولا أقل - فإذا ظلم رجل مسلم امرأة مسلمة فليس معنى هذا أن الإعلام هو الذي ظلمها، والظالمون من هذا الصنف كثيرون، وإن لم يعترفوا بذلك، فليتفطن لهذه الأقوال بعض الغافلين.

2 -

فها بورقيبة شهد على نفسه بأنه خالف القرآن وكفر به - ويا ويله من ذلك - وعارضه بتشريع آخر، في منعه من تعدد الزوجات، وفي الإرث حسبما جاء في القرآن، حيث سوى المرأة بالرجل في الإرث

أما تعدد الزوجات الذي أباحه القرآن وحرمه بورقيبة فهو فيه تابع للأروبيين الذين يقتصرون على زوجة واحدة في الظاهر، أما في غير ذلك فالعدد لا يحلمه إلا علام الغيوب، فالإسلام طاهر يحب الطهر للمسلمين الصادقين في إسلامهم أما الخبائث فقد حرمها الله عليهم، وهذه الدعاية لا تروج إلا على البسطاء، إن الإسلام نهى أتباعه عن تعدد الزوجات بمجرد الخوف من عدم العدل، وذلك في قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (1) بهذا نطق القرآن، إن هذه الرخصة - رخصة التعدد - قل من يعمل بها شأنها شأن الرخص، غير أن الأروبيين ومن كان على شاكلتهم من بعض المفتونين بهم يظنون أن التعدد سيئة قبيحة في هذا العصر أساء بها الإسلام إلى المرأة، وهي حسنة من حسنات الإسلام لو كانوا يفقهون معنى العفة والتطهر، إن المطلوب من حكومات

(1) سورة النساء الآية 3.

ص: 194

الشعوب الإسلامية أن تعمل على تطبيق أحكامه الطاهرة المطهرة لا على إلغائها.

من أجل أن بعض المسلمين لم يعملوا بوصاياه. والموضوع درسه علماء الإسلام الناصحون وكفى.

وأما الإرث، أو تسوية المرأة بالرجل فيه. فالذي يدقق النظر في أحكام الشريعة الإسلامية ويبتعد عن السطحيات وسوء القصد يعترف بأن الإسلام أعطى للمرأة في الإرث ما يفوق ما يأخذه الرجل، ذلك أن الرجل مطالب بالنفقة على زوجه وأولاده وغيرهما، وهذا بخلاف المرأة، فإن نفقتها واجبة على زوجها، فما تأخذه المرأة توفره وتذخره لنفسها، وما يأخذه الرجل ينفقه على من ذكرنا، فأي الوارثين أكثر نصيبا من أخيه؟ الرجل الذي ينفق نصيبه أم المرأة التي تدخر نصيبها؟ لكن لا يستبعد ممن تربى في أحضان فرنسا ولم يذق للإسلام طعما أن يصدر منه هذا وأكبر منه، ومن جهل شيئا عاداه.

3 -

وأما قوله: أنه متيقن بأن عددا كبيرا من البلاد الإسلامية متفقة معه، غير أنها لا تجرؤ على الإعلان بذلك، فهذا منه بعيد عن الواقع، وقد أظهر بهذا جرأته على إلغاء أحكام القرآن، في حين يعترف بأنه فعل شيئا خطيرا، وذلك حين قال: - وليس من السهل القيام بشيء يخالف ويتعارض مع القرآن - وهنا ومن خلال تصريحه بأنه تعمد إلغاء أحكام القرآن ظهرت نيته السيئة نحو القرآن، وأراد أن يثبت بأنه ليس وحده في هذا غير أن الجرأة التي يفتخر بها هو تعوز غيره، ولهذا لم يقم - واحد - من هذه البلدان بمثل ما قام به هو، والمتتبع لتصريحات بورقيبة يرى أن هذا المخلوق معجب بنفسه كثيرا إلى حد الغرور المفرط، وقد أداه هذا إلى احتقار غيره من الملوك والرؤساء في البلاد الإسلامية، ويرى أن سياسته وتسيير دفة الحكومة في بلده "تونس" لا يصلح لها أحد إلا هو، وأنه هو وحده الذي حارب الاستعمار الفرنسي، وأنه هو الذي جاء بالاستقلال لبلده، هل يصدق الناس أن بورقيبة هو الذي جاء بالاستقلال لتونس؟ فهو كثير المن والامتنان على الأمة التونسية بهذا، فكأنه لم يدخل تونسي واحد السجن غير بورقيبة، ولم ينف غيره، وهذا منه احتقار للأمة يأسرها، والواقع الذي سجله التاريخ العدل خلاف هذه الدعوى الباطلة منه، فقد حارب الشعب التونسي في جميع الميادين سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية

ص: 195

الخ

وقد مات من الشعب التونسي شباب لتحرر بلادهم لا ليترأس بورقيبة وينكر فضلهم، ولا يعرف لأحد سواه بالنضال والتضحية.

والذي يعرفه المتتبعون لحركات الشعوب التحريرية أن تونس لم تنل استقلالها الكامل إلا بعد أن قامت الثورة التحريرية في الجزائر واشتد ساعدها، أما قبل ذلك فقد رضيت تونس - بزعامة بورقيبة - بشبه الاستقلال الداخلي، وكلنا يعرف مدى أهمية المعاهدة التي عقدت بين فرنسا وتونس في جوان - يونيو - سنة 1955، تلك المعاهدة التي وقعت من طرف الطاهر ابن عمار عن تونس ومعه المنجي سليم، وعن فرنسا ادقار فور وبيير جولي.

وكان الطاهر بن عمار يتردد على بورقيبة في السجن ويأخذ رأيه في كل شيء ولا يوافق على بند من بنودها إلا بعد أن يوافق عليه بورقيبة أولا، فوقعت بأمر ورضى بورقيبة تلك المعاهدة التي قيدت تونس بقيود لم تكن موجودة في معاهدة الحماية التي عقدت سنة 1881 مما أثار سخط الشعب التونسي، وخاصة الحرار منه الذين قالوا لا نرضى إلا بالاستقلال التام، وخاصة بعد أن قامت الجزائر تحارب إلى جنب تونس، ولا ننسى المعارضة التي كانت ضد بورقيبة وكيف قضى على المعارضين ليخلو له الجو وحده.

والتاريخ لا يحابي، فإنه لولا حرب التحرير الجزائرية لما نالت تونس استقلالها، وهذا ينكره بورقيبة، ويعترف به الرجل الحر العظيم في كرامته وهمته المرحوم المنعم ملك المغرب محمد الخامس، فقد صرح غير ما مرة بأن استقلال المغرب لا يعد شيئا ولا يتم إلا إذا استقلت الجزائر، لأنه يعرف أن فرنسا سترجع عما أعطته للمغرب إذا قضت على حرب التحرير الجزائرية.

فالجميع يعرف أن فرنسا لم تستعمر مستعمراتها في إفريقيا إلا بعد أن استولت على الجزائر ووطدت أقدامها فيها، فهي قد أخذت كل الأقطار الإفريقية لما أخذت الجزائر، وخرجت منها بسبب حرب الجزائر لأن الجزائر لا تعرف ولا تعترف بسياسة المراحل، و (صل على من علمك)، وقد أطلت في سرد هذه الحقائق التاريخية لأنبه على أن هذا الرجل مفتون بحب شخصه، ويريد أن يكون قدوة في سياسته ومواقفه حتى في الأمور الدينية، قد واتاه الحظ في حرب الجزائر، فالواجب عليه ألا يغفل عن هذا.

4 -

وأما فخره بإغلاق الجامعة الزيتونية - الجامعة الدينية العظيمة ذات

ص: 196

التاريخ المشرق، في المغرب والمشرق - الذي عده إصلاحا، فكل العقلاء يرون فيه عملا بعيدا عن الإصلاح، بل هو هدم وتخريب لركن عظيم من أركان الدين الإسلامي في الشمال الإفريقي.

ذلك أن هذه الجامعة قد أمدت بعض بلدان الشمال الإفريقي، وخاصة تونس في الدرجة الأولى، والجزائر في الدرجة الثانية، وكذلك ليبيا، أمدتها بعلماء أفذاذ جهابذة كبار نالوا شهرة عالمية لا تنكر في الدين واللغة العربية والأدب، كالإمام ابن عرفة صاحب الحدود الفقهية وغيره ممن لا يتسع المقام لسرد أسمائهم، وكان فضلها علينا - معشر الجزائريين - عظيما، فالكثير من علماء الجزائر في القرن العشرين تخرجوا منها مباشرة أو بواسطة من تخرج منها، فكيف يعد إغلاقها وتعطيلها إصلاحا؟ وكيف ساغ له - لو كان فيه بقية من حياء - أن يقارن بين بيت من بيوت الله أعد لعبادة الله وحده تقام فيه الصلوات وتدرس فيه علوم الدين الإسلامي من فقه وتوحيد وتفسير لكلام الله وغير ذلك، يقارن بينها وبين - ديركليني - أين يعبد الصليب ويعصى الله فيه، فهل من يقول هذا له عقل الإنسان؟ ثم كيف يتهم الجامعة الزيتونية بأنها تخرج وتكون أناسا من القرون الوسطى؟ إنما بغض الإسلام، وكراهية الدين هما كل الأسباب في هذا وفي غيره، وعلى الفرض والتقدير أن البعض من علمائها حاد عن السبيل السوي، فما هو جرمها هي في والواقع الذي سجله التاريخ المنصف أن رجالها هم الذين علموا الكثيرين ممن يوجهون إليها الآن معاول الهدم والتخريب والنقد السمج البارد، وهم الذين كان تعلمهم في المدارس الاستعمارية، فهم نسخة من المستعمر الحقود على الإسلام والقرآن بالخصوص.

فبورقيبة أبطل التعليم الديني وغيره في الجامعة الزيتونية وصيرها كالمتحف يغشاها السواح الأجانب بكثرة، لأنهم يأتون معهم بالعملة الصعبة، فهو قد باعها بالعملة الصعبة.

كل من عرف تونس في عهدها القديم - قبل الاستقلال - رأى إلى جانب كل باب من أبواب مساجدها "لافتة" كتبت باللغات الفرنسية، الإنجليزية وغيرهما عليها هذه العبارة:(ممنوع الدخول إلى المسجد على غير المسلمين) أما في العهد الجديد فقد نزعت منها تلك اللافتات، وصار دخول غير

ص: 197

المسلمين إلى بيوت الله الطاهرة مباحا للمشركين والمجنبين وغيرهم ممن لا يجوز لهم دخول المساجد لما قلناه سابقا، وقد زرت تونس في صيف 1966 فأحزنني ما رأيته في جامع الزيتونة من فراغ وهجر وغشيان السواح الأجانب له، فكأن الجامع صار متحفا من المتاحف بعد أن كان تلقى فيه الدروس الدينية من علماء زينوا تونس للقاصدين، وأشاعوا لها ذكرا حسنا في الأولين، وفي جميع البلدان، وكان حيثما تنقل الزائر بين عرصاته إلا ووجد أمامها شيخا جليلا يحيط به تلاميذه يسمعون إليه بانتباه ما يلقيه عليهم من الدروس، وما بقي للإسلام ذكر في الشمال الإفريقي - بعد استيلاء فرنسا عليه - إلا بفضل تلكم المساجد والمعاهد الدينية.

فالرئيس بورقيبة يفتخر بأنه أغلق الجامعة الزيتونية وأبطل عملها، ويزيد فيقول على عمله هذا - الذي عده إصلاحا -:(لم تقس أبعاده كما ينبغي)، ولعله كان ينتظر من أمثاله الشكر على فعله هذا والتنويه بشجاعته - النادرة - على ما أقدم عليه، أو لعله كان ينتظر من الملك الحسن الثاني ملك المغرب أن يقتدي به فيبادر إلى إغلاق جامعة القرويين بفاس وإلى جمال عبد الناصر فيصنع صنيعه ويسارع إلى إغلاق الجامعة الأزهرية بمصر، فلم يفعلا مثل فعله لأنهما أعقل من أن يرتكبا جريمة حرمان المسلمين من نور مصباحين كانا يضيئان الطريق للمسلمين قرونا طويلة. فيطغى عليهما الغرور والخرق فيفعلا فعله الشنيع. لأنه قصدهما بقوله: ويوجد نفس الوضع في المغرب وفي مصر. ترى ماذا كان يقول لو أقدمت دولة الحماية - فرنسا - في عهدها على إغلاقها يوم كانت تحكم تونس، هل يشكرها على صنيعها ويعتبره إصلاحا يقيس هو أبعاده كما ينبغي؟ أنا أعتقد - جازما - أن فرنسا لو فعلت ذلك - وهي أعقل من أن تفعله - لملأ بورقيبة الدنيا صراخا وعويلا واحتجاجا على عملها ذلك، ولعده جرما لا يغتفر - والحق إلى جانبه في ذلك - من فرنسا عدوة الله والدين، ولو فعلت فرنسا ذلك لعده أيضا انتهاكا لحرمة الدين، وخرقا لتعهداتها باحترام شعائر الإسلام وشعور المسلمين والمقدسات الإسلامية، أنا لا أحب فرنسا ولا أدافع عنها، لكنه الواقع الذي لا ينكره إلا الأغبياء، وما قلت هذا إلا للمقارنة بين عهد الحماية، وبين عهد الحرية والاستقلال، إذن فما باله فعل ذلك؟ حقا لقد صدق القائل في قوله:

ص: 198

يقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

أما قوله: (تلك الجامعة التي تكون أناسا من القرون الوسطى) فهو اتهام لها بأنها لا تخرج إلا الجامدين أمثال رجال القرون الوسطى، فلهذا لا يسايرون رجال العصر الحاضر الحديث، عصر الإلحاد والكفر والزندقة والفجور الخ، كل هذه النعوت التي تقال - اليوم - في رجال الدين هي شنشنة عرفناها من قبل، يتهم بها ربائب الاستعمار الذين رضعوا لبن أمهم فرنسا ولغتها الأعجمية - رجال الدين - وتخلقوا بأخلاقها الفاجرة الإلحادية، فهذا الاتهام قديم، وهذه النعوت الاستعمارية متأصلة في الكثيرين من المدرسيين ضد الزيتونيين، نعرف هذا من قبل ولا نجهله، هذه النعوت كانت تثيرها وتغذيها فرنسا - لمصلحتها - حتى لا يتحد الزيتونيون والمدرسيون ضدها.

والتاريخ شاهد عدل، والواقع لا ينكره عاقل منصف وهو: أن الجامعة الزيتونية كونت رجالا أبطالا كانوا في الطليعة، لهم مواقفهم المشرفة في العلم، والدين، والسياسة، والزعامة أيضا، وكل زعماء السياسة في القديم تغذوا من الزيتونة المباركة، كما أن خريجي الجامعة الزيتونية كانوا - دائما - في طليعة الأحداث السياسية والمظاهرات التي كان يقوم بها رجال السياسة للمطالبة بالحقوق الوطنية، كانت أكثريتها العظمى من التلامذة الزيتونيين، نظرا للروح الوطنية التي يتحلى بها الزيتونيون، نتيجة ما يتلقونه من التعليم، فيكونون في الصفوف الأولى منها، فمظاهرة المرسى - مثلا - في عام 1922 عندما تنازل المرحوم (الناصر باي) عن كرسي العرش التونسي غضبا على فرنسا التي لم تف بوعودها، تلك المظاهرة معروفة غير خافية عن الوطنيين التونسيين الصادقين لا المحترفين، فقد ذهب المتظاهرون وفيهم الكثيرون من أساتذة الزيتونة وطلابها من تونس إلى المرسى - مقر سكنى الباي - مشيا على الأقدام، والمسافة بينهما في حدود العشرين ميلا، ومن ورائهم خيول جيش الاستعمار الفرنسي تدوسهم بسنابكها والجنود فوق متونها، ذهبوا إلى (الباي) ليطلبوا منه الرجوع عن تنازله.

وكذلك المظاهرات المتعددة التي نظمت بمناسبة تنصيب وإقامة تمثال الداعية المسيحي الكاردينال "لافيجري" في أول مدخل المدينة العربية وفي النهج

ص: 199

المؤدي إلى جامع الزيتونة بعد باب البحر مباشرة، وهو واقف على قاعدته وبيده كتاب الإنجيل، وقد عد الوطنيون هذا العمل عملا موجها ضد الإسلام وبالقرب من أحد معاقله الكبيرة، فدعوا إلى المظاهرة، وطاف دعاتها على مدارس سكنى الطلبة الكثيرة طالبين منهم المشاركة فيها، فلبى طلبة الزيتونة الدعوة مسرعين، وفيهم الكثيرون من دعاتها، وقد نالهم من عصي البوليس الفرنسي وسجنه الشيء الكثير، ولم يكن من بين المتظاهرين طلبة المدرسة الصادقية، ولا العلوية، ولا ترشيح المعلمين، وهي المدارس ذات التعليم المزدوج اللغتين، كل ذلك راجع إلى الروح التي يتحلى بها الطالب الزيتوني، وكنت - وأنا جزائري - ممن شارك في بعضها، وأنا أعجب كيف ينسى هذا ولا يعده من نفحات أو نفخات الزيتونة المباركة؟؟

ومنها مظاهرة وقعت في إحدى الليالي - من أجل وضع الكاردينال لافيجري على قاعدته - ابتدأت سيرها من قرب جامع الزيتونة، وبالأحرى من مدارجه وما حولها، وفي المقدمة الطلبة الزيتونيون، وكان من قادتها صديقي المرحوم الشيخ العربي القروي وغيره، وذلك سنة 1926 والمسيرة تنشد:

تونسي وحسبي أنني تونسي

حزبها الحر حزبي حزبها الوطني

للشاعر المرحوم محمد الشاذلي خزندار فيما أظن، بأصوات عالية، وذهبت إلى القصبة - مقر الحكومة التونسية - مارة بمحافظة الشرطة، ثم فرقها البوليس الفرنسي بعد أن أسمعت صوتها لمن يهمه ذلك.

والمعروف لدى الأوساط التونسية ذات الخبرة السياسية: أن حكام فرنسا في تونس قالوا: (كنا نظن أن جامع الزيتونة يعلم كيفية الاستنجاء والوضوء والصلاة لا غير، فإذا بالأمر على خلاف ذلك، فالعلة كلها خرجت لنا من جامع الزيتونة) هذا ما قاله المقيم العام وغيره.

هذه هي الجامعة الزيتونية كما عرفتها من سنة (1341 هـ - 1922 م) وهذه هي آثارها في الميادين كلها سواء منها العلمي، أو الوطني، أو السياسي،

ص: 200

فإغلاقها والافتخار به وطمس معالمها والتنقيص من قيمة أعمالها ونتائجها على هذه السورة لا يدل على بعد النظر، سواء للماضي أو للحاضر، إذ معظم قادة تونس وزعمائها الصادقين كانوا يمتون إلى الزيتونة بسبب أو أسباب، والتوفيق من الله وحده وهو الواحد القهار.

5 -

أما دعواه - وغيره في هذه الدعوى كثيرون - التي ادعاها فيما يخص تحرير المرأة المسلمة من القيود التي فرضتها عليها الشريعة الإسلامية في قوله: (إنكم تعلمون كيف كانت معتبرة من قبل في عهد الانحطاط، كما أن وضعيتها التي تجعل منها كائنا منحطا كانت تعززها الاعتبارات الدينية

) أي الاعتبارات الدينية التي عززت أسباب انحطاط المرأة المسلمة؟؟ هل منعها من غشيان الاجتماعات العامة أين لا يوجد فيها إلا الشيطان وأعوانه وأين يوجد الخمر والفجور الخ

وذلك صونا لحرمتها وكرامتها وعرضها وشرفها؟؟؟ أم ماذا تريد؟؟ إن ما تدعو إليه الآن دعا إليه (مزدك) المجوسي منذ خمسة عشر قرنا قبلك، حقا إنه بعث وتجديد للفرقة المزدكية الغابرة.

ثم هذه دعوى ادعاها هذا الرجل، والواقع لا يقره على دعواه، ويقول له: إن الأمر عكس ما ذهبت إليه، فقد كانت المرأة المسلمة في الماضي حرة، سيدة في بيتها، عزيزة، مكرمة، مصونة في محيطها الإسلامي، فدعوتها أنت للسفور والخروج من محيطها العزيز، ورميت بها وسط مجتمع لا أخلاق له، فانغمست في حماة الرذائل - وذلك ما يرغب فيه الشيطان وأعوانه - فانقلبت أمة كالإماء اللائي كن في العهد البائد مبتذلة ابتذال الإماء المملوكات للشهوات، فهل بهذا تفخر؟ وهل يعد هذا عند العقلاء تحريرا أو تغريرا واستعبادا؟؟ الجواب يعرفه من كان له عقل راجح وضمير حي ولا يسير مع الأهواء والشهوات النفسية (ما لجرح بميت إيلام) لم تمته الشهوات - وما أكثرها - في وقت الشهوات، هذا ما نراه الآن، فقد صارت المرأة - آلة - حرب تحارب بواسطتها الشريعة الإسلامية، فكل من أراد أن يتهجم على الشريعة الإسلامية رفع المرأة في يده مثل آلة الحرب واقتحم الميدان صارخا: هذا المظلوم، انصروه، ردوا إليه حقوقه، فقد ظلمته الشريعة الإسلامية انظروا إليه نظرة عطف، ارحموه، تعالوا إلى نصرته وإلى تحريره من قيود العبودية الخ

والواقع أن ذلك الحماس كله للمرأة له دوافع منهال الخفي ومنها الظاهر، منها أن تمسك بالداعي

ص: 201

الكرسي الجالس عليه - وكان قد اغتصبه - حتى لا يزلق به فيسقط على الأرض، تلك أفكار من تعلم في غير مدارس الإسلام، وبالتأمل يظهر أن ذلك كله دعوة أو عودة للمزدكية. أما الدوافع الخفية فلا تخفى على ذوي الألباب وهي دواء الشيطان الخبيثة وما جر إليها، فهذه الدعوة لا تخلو أن تكون دعوة شيطانية، ذلك أن الإسلام أراد للمرأة الصيانة وأراد لها الشيطان أن تكون عونا له على إفساد دين المؤمنين عليهم، وفعلا فقد رأى الناس كيف لعبت المرأة بعقول ضعاف الإيمان أو منكريه، فصاروا أطوع لها من الخاتم في أصبعها تدير الرجل إلى حيث تريد.

إن فتنة المرأة للرجل معروفة غير مجهولة، ولذا حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) (1).

إن دعاة حرية المرأة - بلا حدود كما هو مشاهد - إنما قاموا بذلك لا حبا في العدل - لأن العدل ضائع عندهم - وإنما لإفساد المجتمع الإسلامي النقي الطاهر، وأعانهم على ذلك ما في أيديهم من السلطة والقوة، فدل عملهم هذا على أنهم لا يريدون الخير والصلاح للأمة، ولو أرادوه لسلكوا سبيله الواضح البين، ذلك أن دعاة الاختلاط ما حملهم على ما قالوا وما فعلوا إلا سوء القصد، وإرادة الشر بالمرأة، واللبيب تكفيه الإشارة أما غيره فيقنعه مشاهدة الواقع الذي لا ينكره إلا معاند بليد.

إن الإسلام الطاهر لا يأمر بما يجر إلى الشر والرذيلة، فقد رأينا الشرع الإسلامي يحمي المرأة حتى في أماكن العبادة خوفا من الفتنة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فصفوف المصلين في المساجد مرتبة حسب هذا المقصد الشريف، فصفوف الرجال مقدمة على صفوف النساء لا للتفضيل كما يفهم المنحرفون بل للوقاية من الفتنة مراعاة لهذا المعنى، أما على طريقة الشيطان فصفوف النساء في المقدمة، فقد تجلس المرأة وأكثر بدنها عار.

وهذا عار، وحتى في الطواف بالبيت العتيق يأمر الإسلام بعدم الزحام والاختلاط هناك، فقد روى ابن الحاج في المدخل في صلاة العيدين حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((باعدوا بين أنفاس الرجال والنساء)).

(1) رواه الأئمة البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وغيرهم عن أسامة.

ص: 202

وذكره ابن جماعة في منسكه دليلا لقولهم: لا تدنو النساء من البيت في الطواف مخافة اختلاطهن بالرجال إن كانوا، كل هذا حفاظا على حرمة المرأة وشرفها، وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما في الجابية فقال فيما قال عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان))، رواه الترمذي بسند صحيح.

تلك دعوة الإسلام إلى التطهر والتعفف، لا دعوة المزدكية إلى الخبث والفساد وإفساد عضو له قيمته في المجتمع الإسلامي، فدعوة الاختلاط والتبرج ما هي إلا تغرير بالمرأة وتحقير لشأنها.

الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة يعتدي على عظمة القرآن ومقام الرسالة المحمدية.

وأخيرا - لا آخرا - فقد طلع الرئيس التونسي "الحبيب بورقيبة" على المسلمين بما لا قبل لهم به إلا بما صدر ويصدر من أعداء الله وأعداء الأديان، وخصوم الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فقد تطاول إلى مقدسات المسلمين، ونال منها بالاحتقار والتنقيص من مرتبتها - جهلا وغرورا - ورماها بما لم يقع إلا من أكبر الملحدين الكافرين أعداء الإسلام - العظيم - فكيف بذلك إذا صدر من رجل يتولى رئاسة حكومة لشعب مسلم عريق في الإسلام، فقد أطلق لسانه في القرآن الكريم المحفوظ ممن أنزله على رسوله الأمين.

فقد خطب في جمع من المدرسين والمربين التونسيين المجتمعان بمناسبة انعقاد "الملتقى الدولي حول الثقافة الذاتية والوعي القومي" في شهر مارس - آذار - 1974، في تونس، وأظهر لهم هذه المرة ما يكنه في قلبه للقرآن العظيم وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم من احتقار واستخفاف، دل على ما في قلبه، والمسائل التي تعرض لها في خطابه ذلك نشرتها صحيفة "الشهاب" اللبنانية المجاهدة الصادرة في 24 ربيع الأول 1394 هـ الموافق لـ 15 أفريل - نيسان - 1974 م تحت عدد - الواحد والعشرين، السنة السابعة - والشهاب نقلتها عن جريدة "الصباح" التونسية اليومية الصادرة في: 20 و 21 من الشهر المذكور، والبعض سمع منه مباشرة، وهذه هي المسائل التي تعرض لها في خطابه ذاك، قال الرئيس التونسي بورقيبة:

ص: 203

1 -

إن في القرآن تناقضا لم يعد يقبله العقل (!!!) بين: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

2 -

الرسول محمد (هكذا) كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عبر الصحراء العربية، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن، مثال ذلك عصا موسى، وهذا شيء لا يقبله العقل بعد اكتشاف "باستور"، وقصة أصحاب الكهف.

3 -

إن المسلمين وصلوا إلى تأليه محمد، فهم دائما يكررون (محمد صلى الله عليه وسلم، الله يصلي على محمد

وهذا تأليه لمحمد!!!

4 -

الفطر في نهار رمضان عمدا وبدون عذر شرعي مقبول، إذا كان في الفطر مصلحة الدولة!!!

5 -

الرسول محمد أقرب العرب على الشرك!!!

هذه هي أهم المسائل التي أوردها في خطابه ذاك، وسنتعرض لها بالرد عليه فيما يخص هذه المسائل التي طرق أبوابها لأن كلامه فيها خطير جدا، ونذكر في خلال ذلك بعض الأحكام التي صدرت من العلماء على من تجرأ على النيل من منزلة القرآن، أو النبي صلى الله عليه وسلم، كما نذكر بعض الفتاوى التي أفتى بها علماء الإسلام - يوم كانوا أقوياء لا تأخذهم في قول الحق لومة لائم - في أمثاله من العابثين بالكتب السماوية، والشرائع الإلهية.

إن كل من يفكر قليلا ويعرف حقيقة هذا الرجل الذي يتلون كما تتلون الحرباء لا يستغرب ما صدر منه، كما يدرك أنه وجد الميدان أمامه خاليا ممن يناقضه ويناقشه، فأخذ يسيء لا إلى التونسيين فحسب بل إلى كل المسلمين عامة في مشارق الأرض ومغاربها. وإلا فما حمله على أن يقول ما قال، ويزيد على قوله ذاك رغبته - أوامره - إلى المسلمين والمربين التونسيين أن ينقلوا آراءه تلك!!! إلى الناشئة المتعلمة، فما حمله على هذا إلا إرادة الشر بالناشئة المسلمة، لينشئها - المجاهد الأكبر - نشأة إلحادية مذبذبة كافرة منكرة لما كان عليه آباؤها.

ص: 204

إن علماء الإسلام في كل قطر من الأقطار الإسلامية مطالبون بالوقوف في وجه هذا الرجل الذي اعتدى على حرمات الإسلام، فيردون عليه الرد المقنع على هذه المفتريات التي صدرت منه، لأنه اعتدى اعتداء علنيا وصريحا على دينهم وقرآنهم ورسولهم، ولا يسكت عنه إلا من رضي بقوله، أولئك هم العلماء العدول الذين حملوا أمانة العلم والدين، وهم المعنيون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)) قال القرطبي في مقدمة تفسيره: أخرجه أبو عمر وغيره، ولا يعد موقفهم منه وردهم عليه تدخلا في شؤون غيرهم - كما هي النزعة السياسية - بل ذلك واجب ديني عليهم، وإلا يفعلوا يكونوا من الهالكين، ذلك أنهم لم يتدخلوا في شؤونه الخاصة به أو في تسيير حكومة شعبه كما شاء وأراد، ولا في تبذير أموال الشعب التونسي في إنشاء قصوره وقبوره وغير ذلك، فلا يعد هذا من ذلك القبيل، لأنه خرج عن حدوده الخاصة به ومد يده - القصيرة - إلى ما في قلوب المسلمين، لينتزع منها ما عقدته العقيدة الإسلامية من ضروب الإيمان، فهو قد اعتدى، والمعتدي لا حرمة له، خصوصا واعتداؤه كان على الدين الذي هو حق للمسلمين كلهم وخاص بهم، وما دفعه إلى ذلك إلا الحمق والخرق والجهل.

ذكر المفسرون أنه كان في مكة امرأة حمقاء خرقاء لديها صوف كثير، ولم تكن تحسن صنعته، فكانت تعمل الشيء ثم يستولى عليها حمقها وخرقها فتنقضه وتحله وتعيده صوفا كما كان، فضرب الله بها المثل في القرآن حتى لا يفعل المسلمون مثل فعلها في نقض العهود وغيرها، قال الله جل من قائل:

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} سورة النحل الآية 92 - كما ضربت العرب بخرقها وحمقها المثل فقالوا: (خرقاء وجدت صوفا) فهذا المثل العربي ينطبق تمام الانطباق على الرئيس التونسي لما بينهما من التشابه، كلاهما وجد شيئا لم يحسن استعماله.

إن نيته سيئة نحو الإسلام والمسلين، فهو يحاول أن يشككهم في دينهم وقرآنهم ورسولهم، لأنه لا يؤمن هو بذلك، بل لا يؤمن إلا بما قاله أمثاله، مثل باستور ولنين اللذين استشهد بآرائهما:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} لهذا قدم رأيهما على القرآن وأحكام القرآن، وهذا من

ص: 205

علامات الزيغ كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} سورة الصف، الآية 5، وقال:{أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} آل عمران، الآية 7، وقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} سورة الحج، الآيتان 3 - 4 لذلك فسأبين فساد ما ذهب إليه بورقيبة من تلك الأقوال الشنيعة والمنكرة في حق القرآن والرسول محمد عليه الصلاة والسلام.

1 -

قال أن في القرآن تناقضا، لم يعد يقبله العقل، بين:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} . و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

نقول له أنه لا تناقض بين ما في الآيتين لمن تدبرهما بعقل صاف من رواسب الكفر والزندقة والنفاق، ذلك أن الآية الأولى "51 من سورة التوبة" صرحت بأن كل ما يقع في هذا العالم من خير وشر، وموت وحياة، وغير هذا هو بتقدير الله وإرادته، فالجميع تحت مشيئته وإرادته، لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالي:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} ، فالله يظهر لرسوله موقف المنافقين من الدين والدعوة إليه، ومن الرسول الكريم، وبهذا فضحهم الله وكشف أمرهم ونياتهم لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بأنهم إذا ناله الخير من فتح ونصر وغيرهما اغتموا وحزنوا لذلك الخير وساءهم ما أحرز عليه الرسول والمؤمنون، وإن ناله غير ذلك مما لا يليق فرحوا به وقالوا قد أخذنا الحيطة لأنفسنا، فلم يصبنا ما أصاب المسلمين، وذلك باحترازنا عن متابعته والسير معه، فأرشده ربه بأن يقول لهم: كل ما أصابنا من فتح ونصر على الأعداء، أو غيره مما تكرهه نفوسنا فهو من الله، مقدر علينا منه، فهو مولانا ولا مولى لنا غيره، ونحن متوكلون عليه، والقضاء والقدر هو ما يسمى بالتخطيط في نظام الحكومات الآن.

أما الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى

ص: 206

يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} - الآية 11 من سورة الرعد - فهي كتلك صريحة في أن مصدر كل شيء يقع فهو من الله، إنما المسببات لا تأتي إلا بعد حصول الأسباب، فهل يحصد الناس الزرع - مثلا - بدون حرث وبذر وسقي؟

فتلك أسباب لحصاد الزرع، والواقع لا ينكره إلا معاند، فللإنسان سعي في تغيير حاله من ضيق إلى سعة، ومن عسر إلى يسر، وبالعكس، والكل مراد لله تعالى، كما قال:{وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} معناه ما تشاؤونه أنتم فهو ما شاءه الله وأراده، ولو لم يشأه لم يقع أبدا، وكم من واحد أراد شيئا وتعاطى له الأسباب القوية لإدراكه، وسعى له سعيا حثيثا ظن أنه يوصله إلى ما شاءه وأراده، ومع ذلك لم ينجح في مسعاه ولم ينل مراده وخاب، لماذا يا ترى؟ ذلك لأن الله تعالى لم يشأ وجوده، ولو شاءه لكان، فأين التناقض ها هنا بين معاني هاتين الآيتين؟ إنما عدم الفهم والغرور هو الذي يدفع بالمرء إلى أن يخرج عن حدود المعقول، فهو كما قال المتنبي:

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

ولكن تأخذ الآذان منه

على قدر القرائح والعلوم

وكما قال المعري:

والنجم تستصغر الأبصار صورته

والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

إن الاستخفاف والاستهزاء بالقرآن العظيم إلى هذا الحد لا يصدر ممن له ذوق سليم وعقل صحيح.

ذكر المفسر الكبير القرطبي في مقدمة تفسيره عند الكلام على تعظيم القرآن واحترامه - حديثا في ذلك قال: روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القرآن أفضل من كل شيء، فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن استخف بالقرآن قد استخف بحق الله تعالى الخ

) اهـ. منها ص 26.

وأذكر هنا أحد أحكام أو فتاوى العلماء الموفقين - الكثيرة - على من لم يوقر الله واستخف بحرمته وحقه على عباده، فقد حكموا على هذا المستخف بالردة والقتل، والقصة التي أذكرها هنا تبين ذلك، ذكرها الخشني صاحب

ص: 207

كتاب "قضاة قرطبة وعلماء افريقية"، كما ذكرها القاضي عياض في كتابه "المدارك" - وأذكرها هنا للموعظة والاعتبار - وقد وقعت هذه الواقعة في أيام حكم الأمير (عبد الرحمن بن الحكم) الأموي في قرطبة، وفي ولاية القاضي (محمد بن زياد اللخمي) وملخصها: أنه كان ابن أخي "عجب" حظية الأمير - الحكم - والد عبد الرحمن - المذكور - نطق بكلمة متعبثا بها في يوم غيث خفيف، فقال:(بَدَأَ الْخَرَّازُ يَرُشُّ جُلُودَهُ) فبلغ هذا القول إلى الأمير (عبد الرحمن) فأمر بحبسه، فطلبت عمة هذا العابث "عجب" من الأمير إطلاقه من سجنه، لأنها كانت "حظية" أبيه الحكم، وبهذا كانت مدلة عليه، لمكانها من أبيه، فقال لها:(نكشف أهل العلم عما يجب في لفظه، ثم يكون الفصل في أمره) فأمر - الأمير - محمد بن السليم الحاجب أن يحضر القاضي (محمد بن زياد اللخمي) وفقهاء البلد، فجمعهم في مجلس النشمة، وحضر من الفقهاء عبد الملك ابن حبيب، وأصبغ بن خليل، وعبد الأعلى بن وهب، وأبو زيد بن إبراهيم، وأبان بن عيسى بن دينار، فشاورهم الحاجب في أمره، وأخبرهم بما كان من لفظه، فتوقف عن الإشارة بسفك دمه: القاضي محمد بن زياد، وأبو زيد، وعبد الأعلى، وأبان، وأشار بقتله: عبد الملك بن حبيب، وأصبغ بن خليل، فأمرهم الحاجب محمد بن السليم أن ينصوا فتياهم على وجهها في صك ليرفعها إلى الأمير، ففعلوا، فلما تصفح الأمير قولهم استحسن قول عبد الملك بن حبيب، وأصبغ بن خليل ورأى ما رأيا من قتله، وأمر حسان الفتى فخرج إليهم، فقال لمحمد بن السليم: قد فهم الأمير ما أفتى به القوم في أمر هذا الفاسق، وهو يقول للقاضي: اذهب فقد عزلناك، ثم بين الأمير عيوب الفقهاء الآخرين، ثم قال حسان الفتى - فتى الأمير - لصاحب المدينة: الأمير يأمرك أن تخرج الساعة مع هذين الشيخين: عبد الملك بن حبيب، وأصبغ بن خليل، فتأمر لهما بأربعين غلاما - من الغلمان - ينفذون لهما في هذا الفاسق ما رأياه. فخرج عبد الملك وهو يقول:(سب رب عبدناه إن لم ننتصر له إنا لعبيد سوء) ثم أخرج المحبوس فوقفا حتى رفع في خشبه، وهو يقول لعبد الملك:(أبا مروان اتق الله في دمي فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) وعبد الملك يقول له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} حتى صلب وانصرفا اهـ. من كتاب "قضاة قرطبة" ص 90 - 91، و"تاريخ قضاة الأندلس"

ص: 208

ص 55 - 56، و "المدارك" للقاضي عياض ج 3 ص 39 - 40 بألفاظ متقاربة.

هذا هو حكم العلماء الصادقين في حق من استخف بالله، وكذلك من استخف بكلامه، وعبد الملك بن حبيب من كبار علماء المالكية، تفقه بالأندلس وسمع بها، ثم رحل فلقي أصحاب مالك، وقيل أنه أدرك مالكا في آخر حياته، روى عن عبد الملك بن الماجشون، ومطرف، وأصبغ بن الفرج وغيرهم، أما أصبغ بن خليل فهو من علماء قرطبة سمع من يحيى ابن يحيى، وأصبغ بن الفرج، وسحنون بن سيد وغيرهم. وقد رأينا كيف كان الأمير إلى جانب العلماء في الحفاظ على حق الله، فكيف الحال إذا كان الأمير هو المعتدي، (من يعلق الجرس على القط):

إذا كان رب الدار للطبل ضاربا

فلا تلم الصبيان في حالة الرقص

2 -

أما قول فخامة الرئيس: (الرسول محمد كان إنسانا بسيطا الخ)، فاسمعوا وعوا - يا مسلمون - ما قاله هذا الرجل في رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم، ذي العقل الراجح الذي لو وزنت عقول جميع الناس لكان عقله أرجحها، فقد اختاره الله لحمل الرسالة الخالدة، والله يقول:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} الآية 124 من سورة الأنعام، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} الآية 57 من سورة الأحزاب.

فهو هنا قد احتقر الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، ووسمه بالبساطة، فهو لم يقصد البساطة في المعيشة، أو في اللباس، أو غير ذلك من المظاهر الخارجية للرسول، إنما أراد بساطة عقله الكبير، ليعلو هو عليه، لأنه اتهمه بنقل الخرافات العربية إلى القرآن، تلك الخرافات التي كان تلقاها من العرب البسطاء أمثاله، والتي كانت سائدة في ذلك الوقت، مثل عصا موسى وأصحاب الكهف.

فهو يرمي الرسول - من غير حياء - محمدا - الصادق المصدوق - بالتزوير والكذب عن الناس - نعوذ بالله من ذلك - حيث أدخل في القرآن ما ليس منه، ومتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسافر كثيرا عبر الصحراء، كما قال؟ فهو لا يسافر إلا من أجل نشر العقيدة الإسلامية،

ص: 209

فالرجل جاهل بالسيرة النبوية، وتلك الكلمات التي قالها تلقفها من بعض الأفواه المتزلفة عنده، أما سفر الرسول قبل الرسالة فقليل.

إن القرآن كلام الله - لا كلام محمد ولا كلام غيره - الله أنزله عليه، والله تولى حفظه وصونه من التحريف والتزييف والزيادة والنقصان، وهذا قول الله فيه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الآية 9 من سورة الحجر، وقوله أيضا:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} من سورة فصلت، فهذه الآيات الثلاث جاءت بعد قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} الآية 40.

إن الكتب السماوية السابقة النزول على القرآن، قد أوكل الله حفظها إلى علماء الأمة في ذلك الزمان، كالتوراة والإنجيل، فلم يحفظوها من التحريف والزيادة والنقصان، ولهذا عاتبهم ربهم بقوله:{بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} الآية 44 من سورة المائدة، فالله جعل التوراة والإنجيل عندهم وديعة وطلب منم حفظهما والعمل بهما، فضيعوهما وحرفوهما، أما القرآن فقد تولى الله جل جلاله حفظه من التحريف والتزييف، ومن كل تغيير.

وكم حاول أعداء القرآن وخصوم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدلوا منه حرفا واحدا فلم يفلحوا، وباءت جميع محاولاتهم بالفشل والخيبة، مثل ذلك اليهودي الذي عرض عليه الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد الإسلام لما رأى فيه من الاستعداد للإيمان فتمسك بدينه وأبى وامتنع أولا، ثم أسلم بعد الامتحان.

روى البيهقي بسنده إلى يحيى بن أكثم قال: دخل يهودي على المأمون - في يوم يجتمع فيه للنظر - والمأمون إذ ذاك أمير - فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، فدعاه المأمون إلى الإسلام فأبى، ثم بعد سنة جاء مسلما فتكلم في الفقه فأحسن الكلام، فسأله المأمون ما سبب إسلامه؟ فقال: انصرفت من عندك فامتحنت هذه الأديان، فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها "البيعة" - معبد اليهود والنصارى -

ص: 210

فاشتريت مني، وعمدت إلي الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ، فزدت ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها إلى الوراقين فتصفحوها فوجدوا فيها الزيادة والنقصان فرموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي) والقصة معروفة ومذكورة في عدة كتب منها تفسير القرطبي عند تفسيره لهذه الآية:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

وفي كتاب "تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه" للسيد محمد طاهر الكردي، قال يحيى بن أكثم: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان ابن عيينة، فذكرت له الخبر، فقال مصداق هذا في كتاب الله عز وجل، قال قلت: في أي موضع؟ قال: في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} فجعل حفظه إليهم فضاع، وقال عز وجل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع اهـ. تفسير القرطبي ج 10 ص 6. ومثل ذلك - أيضا - قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} قال قتادة: يعلمون أنه كلام الرحمن، فالقرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الباقية والخالدة، أيده الله بها، فهي كسائر معجزات الرسل، وتزيد عليها بالبقاء والخلود حتى قيام الساعة.

أبعد هذا لحفظ من الله للقرآن، والامتحان من الناس له يدعي دعي بما لم يكن، ولن يكون أبدا؟؟؟؟

إن من مزايا القرآن على غيره من الكتب السماوية أنه محفوظ في صدور المسلمين، ولم تكن التوراة ولا الإنجيل محفوظة في صدور اليهود والنصارى إلى اليوم، ولا يقرؤونها إلا نظرا، قال الله تعالى مصداقا لذلك:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} من سورة العنكبوت.

أما عصا موسى التي لم يقبل عقله "النير" وجودها وحسبها - خرافة - فهي معجزة أيد الله بها رسوله موسى عليه السلام كباقي المعجزات التي أيد الله بها رسله الكرام، وكانت من نوع ما كان متعارفا في ذلك الزمن

ص: 211

من السحر والشعوذة، فجاء موسى بالعصا فأبطلت سحرهم وشعوذتهم حتى قيل في ذلك:

إذا جاء موسى وألقى العصا

فقد بطل السحر والساحر

ومن السذاجة في التفكير بل والبلاهة أن تقاس معجزات الرسل - أو تنكر وتكفر - بآراء البشر واكتشافاتهم - كيفما كانوا - كما ادعى هذا المدعي، إذ قدم رأي "باستور" العالم الفرنسي على قول الله خالق باستور الذي ركب فيه العقل والإدراك، ورحم الله محيي الدين بن عربي في قوله الحكيم:

ومن لم يكن يستنشق الريح لم يكن

يرى الفضل للمسك الفتيق على الزبل

فباستور لم يرد معارضة الخالق في خلقه، لهذا فلا يجوز الاستهزاء والسخرية بالرسل ولا بالمعجزات التي خصهم الله بها تصديقا لهم، وهي الأمور الخارقة للعادة، ومنكرها كافر بالله، ومن أجل هذه العقيدة في المسلمين أنكر الخليفة العباسي هارون الرشيد على أبي نواس الشاعر المعروف قوله:

فإن يك باقي سحر فرعون فيكم

فإن عصا موسى بكف خصيب

وقال له: يا ابن اللختاء أنت المستخف بعصا موسى نبي الله حين تقول: فإن بك الخ وأمر بإخراجه من معسكره من ليلته.

أما قصة أصحاب الكهف التي أنكرها فخامة الرئيس الجليل فإن فيها العبرة البالغة لذوي العقول النيرة، فإن من فر وهرب بدينه وعقيدته إلى الله حماه الله، خصوصا وقوم زمانهم أنكروا البعث والحياة بعد الموت، فأراهم الله - وهو القادر على كل شيء - قدرته الباهرة فيهم. في إحيائهم وإماتتهم، فالاعتراض على هذا قدح في قدرة الله تعالى على كل شيء، وبالأحرى في ذلك نسبة العجز إلى الله تعالى، وهذا وحده كاف في الحكم على قائله بالردة والكفر وما يتبع ذلك من أحكام.

3 -

قال المجاهد الأكبر: إن المسلمين وصلوا إلى تأليه الرسول محمد، فهم دائما يكررون:"محمد صلى الله عليه وسلم" الخ

وهذا تأليه لمحمد

ويعلم الله أني حين قرأت هذه الجملة قلت في نفسي: إن المجاهد

ص: 212

الأكبر - أصابه الخرف - فلم يعد يصلح لأي شيء وما بقي إلا أن يحجر عليه، فلم تبق فيه صلاحية للتصرف في شؤونه الخاصة، فضلا عن شؤون شعب كامل مسلم، إن بقي في مكانه فهو سائر به إلى الكفر والنفاق، كما سار به إلى الإفلاس الخلقي وما في كلمة الإفلاس من معان، إذ هو قابض على الشعب التونسي بيد من حديد بواسطة من باعوا ضمائرهم وعقولهم لرجل، هذه آثار تصرفاته، فلا يترك الواحد منهم يناقشه في أبسط الأمور، فضلا عن عظائمها، فدل بهذا على جهله بسيرة أفضل الخلق أخلاقا، وفيه نزل القرآن تزكية لأخلاقه الحميدة في قوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وهنا يظهر الفرق بين من يزكيه الخالق العالم بالسرائر وبين من يزكيه الشيطان.

فهو قد فهم من إكثار المسلمين من الصلاة عليه امتثالا لأمر مولاهم أنهم ألهوه وجعلوه إلها يعبدونه - والإله هو المعبود - فمن أين جاءه هذا الفهم الجديد؟ وما الصلاة عليه إلا من باب التعظيم والاحترام والأدب لرسول أحبه الله واختاره للرسالة العامة الدائمة إلى قيام الساعة، وأيضا فإن الخالق قد صلى عليه تعظيما لقدره العالي عنده، وأمر ملائكته بالصلاة عليه، كما أمر أمته المسلمة بالصلاة عليه، وذلك هو قوله تعالى في سورة الأحزاب:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} الآية 56 منها. فصلاة الله تعالى ثناء عليه عند الملائكة ليعظموه، وصلاة الملائكة دعاء له، وقيل غير هذا. وهل صلاة الله وملائكته على عباده المؤمنين عبادة لهم؟ وذلك في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} الآية 43 من سورة الأحزاب هذا لا يقوله عاقل، فصلاة الله على عباده المؤمنين ذكره لهم، فالواجب عليهم أن يذكروه ولا ينسوه، كما في قوله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} فذكر العبد لله عبادة، ودليل على أن العبد قلبه معلق بربه، وذكر الله لعباده تكريم لهم وتذكير حتى لا ينسوه، كما قال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الآية 19 من سورة الحشر. فهل قال محمد صلى الله عليه وسلم لأمته اعبدوني؟ بل قال لأتباعه: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد قولوا عبد الله ورسوله)) أخرجه البخاري عن عمر،

ص: 213

هذا قوله لأتباعه، لا كما قلت أنت للتونسيين: عظموني - كما في الأمسيات الشعرية - ومن لم يفعل صار مغضوبا عليه، مثل: المجاهد الأكبر، - ولا جهاد ولا مجاهد - وسيد الأسياد؟ وغير هذا من الألقاب الفارغة الخالية من المعاني والتي مل الناس سماعها، ومن لم يقل ويفعل ناله من التوبيخ ما ينال المجرمين، فالرجل مصاب بداء (الغيرة) التي تكون في النساء - عادة - فقد تتبعنا حياته ومواقفه من الأحرار والزعماء الصادقين فوجدناه سار في هذا الطريق - الغيرة - إلى أبعد غاية، فهو يعمل - دائما - على إبعادهم من كل ميدان، حتى لا يزاحموه، ولم ننس مواقفه

مع الزعيم الإسلامي الخالد المرحوم الشيخ عبد العزيز الثعالبي رحمه الله حين رجوعه من منفاه في صيف 1937 وكيف عمل على إبعاده من الميدان السياسي بأساليب المراوغة والتزوير، والشيخ الثعالبي ذلكم الرجل العظيم هو الذي أنشأ حزب الدستور التونسي سنة 1922، ثم نفته فرنسا فطاف جميع بلدان الشرق الإسلامي، ولم يرفع عنه حجر العودة إلى مسقط رأسه إلا في سنة 1937م، فلما عاد وجد بورقيبة عمل على تقسيم الحزب إلى قسمين، القديم والجديد، فاستقل بالجديد وتزعم حركته واستعملها لنفسه، وعند الله تجتمع الخصوم، وهل نسينا كذلك الزعيم المحبوب في أمته (صالح بن يوسف) وكيف تم القضاء عليه للاستراحة منه.

فإذا كان هذا هو مرضه - وهو الواقع - علمنا سبب غيرته من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لأن المسلمين لا يذكرونه إلا بالتعظيم والاحترام، وعنوان ذلك الصلاة والسلام عليه، وإذا لم تكن الغيرة هي الدافعة له على ما قال فما له ولمقام الرسالة المحمدية الذي لا مطمع فيه لبشر كائنا من كان، فهو هبة من الله لا من العباد؟

نعود بالله من هذا التعدي والجهل بحقيقة الرسالة والرسل.

ومن افتتانه بحب شخصه أن فرض على الأمة التونسية أن تحتفل بذكرى ميلاده كل سنة يوم 3 أوت، وتعطل فيه الأعمال الإدارية والتعليم وغير ذلك، (ذكرى ميلاد فخامة الرئيس) كما هو مطبوع في اليوميات، يوم واحد كذكرى مولد صاحب الرسالة العامة صلى الله عليه وسلم، كما رأيناه فرض على أمته أن لا تنسى (الاجحار) التي أدخل إليها أيام النضال

ص: 214

التونسي السياسي، فقد صير تلك (الجحران) مزارات تزار في الأعياد الوطنية والمناسبات كما تزار مقامات وأضرحة الأولياء ومقامات العظماء، وحجزها لتبقى - كديار الآثار - دليلا على أن الزعيم الجليل قد أدخله المستعمر الغاشم إلى هذه (الزنزانة) أو إلى هذا البرج، أو إلى هذا السجن أو إلى هذا المعتقل الخ

هذا له فقط لا يشاركه فيه أحد، كأن أفراد الشعب التونسي لم يسجن أي واحد منهم، أو لم ينف غيره، فهو وحده المناضل والمحرر للأمة التونسية من ربقة الاستعمار الفرنسي، وهل سمعتم أن فردا واحدا حرر أمة من عدوها؟ وهل سمعتم بأن أحد القادة أو الزعماء هيأ في حياته تمثاله الذي سينصب له على قاعدته إذا مات؟ وذهب إلى إيطاليا ووقف على صنعه بنفسه؟ وهل سمعتم بمن أوجد قصرا ليكون له قبرا إذا مات وأنفق عليه من المال ما لا يعلمه إلا علام الغيوب؟ وكان محلى بكل أنواع الزينة والتحلية، ولعله يموت في البحر فيبتلعه الحوت، أو لعل التونسيين إذا مات أحرقوه بالنار ليتخلصوا من هيكله، والمعروف عند جميع الأمم أن مثل هذا يترك للأمة، فهي التي تكرم قادتها بعد موتهم بما تراه لائقا بأعمالهم التي قدموها لها في حياتهم النضالية.

هذا قليل من كثير مما يقوم به فخامة المجاهد الأكبر أطال الله حياته الغالية.

ولا زلنا نذكر موقفه من خطباء الجمعة، فقد مر عليه وقت يخطب فيه كل يوم خميس خطبة سياسية ويفرض على خطباء المساجد أن يأخذوا موضوع خطبهم من خطبته، أي عاقل يفعل هذا ويضيق على الخطباء ميدانهم الفسيح؟ ويحجر على عقولهم هذا التحجير؟

4 -

وتكلم عن فطر الرسول صلى الله عليه وسلم وفطر أصحابه في نهار رمضان لما قربوا من مكة في غزوة الفتح، فإنه صلى الله عليه وسلم كان في عبادة عظيمة وشاقة وهي - الجهاد - في سبيل الله، ولهذا أمر أصحابه بالفطر ليتقووا به على الصمود أمام الأعداء المشركين، فالرئيس الجليل قد اكتشف شيئا كان المشائخ لا يذكرونه في أحاديثهم وهو موجود في السيرة، فهو أراد من هذا أن يبرر انتهاكه لحرمة شهر رمضان، حيث أفطر أمام جمع من الصحافيين الأجانب عن الإسلام، وأوجب على التونسيين أن يفطروا - مثله - وأمر المقاهي أن تفتح أبوابها وإلا عوقب أصحابها، كل ذلك ليتقووا بالفطر على كثرة الإنتاج!!! كي يلتحق ركبه - المتخلف -

ص: 215

بركب الأغنياء كأمريكا - مثلا - فإذا صنع الحذاء حذاء أو بلغة، أو بنى البناء بيتا أو غيرهما فإن ميزانية الدولة ترتفع ودخلها يزداد إلى أن يصل إلى مراتب الدول العظمى، التي تعد ميزانيتها آلاف الآلاف من الدولارات، على حساب الإسلام والصيام.

وهنا قال الزعيم في الرسول: (وبذلك قدم مصلحة الدولة على العبادات ..) وكما قلنا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في عبادة الجهاد الشاقة، فهو لم يخرج من عبادة الصيام إلا للدخول في عبادة الجهاد لا إلى الزيادة في صندوق الدولة - هكذا - كما فهم هذا المجتهد العصري الحاذق.

وقال: إنه لما كان قاصدا مكة لفتحها أدركهم شهر رمضان الخ والواقع أنه خرج من المدينة في شهر رمضان لا أنه أدركه شهر رمضان في الطريق، إذ كان خروجه منها لعشر مضين منه، فكيف يقول إنه أدركهم رمضان في الطريق.

إن تكلم المرء بشيء لا يعرفه قد يجعله يفضح نفسه بنفسه، فقد تكلم المجاهد الأكبر بكلام أراد أن يعير به الرسول صلى الله عليه وسلم وينسبه إلى الجهل بالحياة ووسائل الانتصار على العدو، وكأنه يرمي بهذا إلى أن يفضل فخامته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يصلح إلا للدين ونشره، فقد ذكر نزوله بالجيش في مكان غير لائق بالنزول فيه في غزوة بدر، ولما أشار عليه أصحابه بالارتحال عنه - كما هو معلوم - قال لهم الرسول حسب قول بورقيبة -:(أنتم أدرى بأمور دنياكم) والصواب غير ما ذكر، فهو لم يقل لهم هذه الكلمة، إنما أخذ برأي من أشار عليه في موضع النزول، وانتقل منه إلى مكان آخر لائق بالنصر والغلبة والحرب، فبورقيبة يريد أن يظهر الرسول بمظهر الجاهل بأساليب الحرب والنصر، والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم دل بهذا على أنه على جانب عظيم من لين الجانب والأخلاق العالية والنزول عند رأي أصحابه إذا بانت له فيه المصلحة، فهو كما قال الله فيه:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وهل يقبل بورقيبة من أي كان أن يرد عليه أمرا رآه لائقا؟ فالمعروف عنه أنه لا يقبل من أي كان أن يعارضه ولو فيما فيه مصلحة الأمة.

ص: 216

إن المشير عليه بعدم صلاحية مكان النزول بذلك الموضع إنما هو (الحباب ابن المنذر فقط) ولما علم الرسول صدقه استحسن رأيه وقال له: ((لقد أشرت بالرأي)) ولم يتمسك برأيه صلى الله عليه وسلم. أما قول بورقيبة:

أن الرسول قال لهم: (أنتم أدرى بأمور دنياكم) فهذه العبارة لم تخرج من فم الرسول، إنما الجهل بالسيرة النبوية يرمي بصاحبه من شاهق، فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما قال:((أنتم أعلم بأمر دنياكم) كما جاء في حديث عائشة عند مسلم، لكن في مناسبة أخرى غير غزوة بدر كما قال الزعيم، فهي في تأبير النخيل - تلقيحه - فإنه حين قدم إلى المدينة - مهاجرا - وجد أهلها يلقحون النخل، فقال لهم:((لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا))، وفي رواية ((لصلح))، فتركوا التلقيح فلم يصلح التمر وخرج - شيصا - فلما رآه غير صالح سألهم عن سببه، فقالوا له: كنا نلقحه وقلت لنا ما قلت فتركنا التلقيح فخرج كما ترى، عند ذلك أقرهم على عملهم الأول وقال لهم:((أنتم أعلم بأمر دنياكم))، هذا هو الصواب يا بورقيبة.

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

قال لهم ذلك ليبرهن لهم على بشريته، كما قال لأصحابه مرة أخرى:

((إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر)) أخرجه مسلم عن رافع بن خديج لنفس الغرض.

5 -

ثم اتهم بورقيبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بأنه أقر أصحابه على الشرك - عياذا بالله - فقال: (وحتى يوحد الرسول كلمة العرب ولا ينفرهم من دعوته اضطر إلى قبول كثير من طقوسهم التي لا تختلف في الحقيقة كثيرا عن عبادة الأصنام، مثل التمسح بالحجر الأسود ورجم الشيطان).

هل يقول مثل هذا القول رجل له مسكة من عقل يتدبر بها، فيما يقول، فيتهم الرسول الذي جاء بالتوحيد الخالص لله سبحانه وتعالى يتهمه بأنه أقر أصحابه على الشرك، - كما يفعل رجال السياسة في سبيل مصلحتهم - من أجل تقبيل الحجر الأسود - لا التمسح به - أو رجم الشيطان - كما قال - أن الرسول ربى أصحابه على التوحيد لا الشرك، ألم يبلغك قول عمر بن

ص: 217

الخطاب رضي الله عنه عندما جاء لتقبيل الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) أخرجه البخاري ومسلم، وهذا من بورقيبة احتقار واستخفاف - كعادته - بالحجر الأسود، فظنه حجرا كسائر الأحجار التي كانت تعظم وتعبد في الجاهلية من دون الله.

إن الحجر الاسود وردت في فضله أحاديث متعددة الطرق والأسانيد يقوي بعضها بعضا وتثبت أنه من أحجار الجنة - لمن يؤمن بها - منها الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وابن عدي، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو:(الحجر الأسود من الجنة، وكان أشد بياضا من الثلج، حتى سودته خطايا أهل الشرك)، والحكمة في رؤيته أو تقبيله أو لمسه أنه يذكر بالجنة ويشوق إليها وإلى نعيمها وما فيها، لا أن ذلك عبادة له، كما هو أيضا من بقايا البيت الذي بناه إبراهيم إمام الموحدين، إذ لم يبق منه غيره، وأنبه إلى شيء فطري في الإنسان لا يستطيع نكرانه أحد، ذلك أنه لو فرضنا أن شخصا تغيب عن بلده مدة طويلة فاشتاق إلى رؤية أهله وأبناء عشيرته، فإنه إذا رآى - والحال هذه - إنسانا قدم من بلده فإن نفسه تحن إلى رؤية هذا الوافد من بلده كي يسأله عن أبناء العشيرة والأقارب، هذا مثل فقط، ذلك أن الحجر الأسود ورؤيته تذكر بالجنة وما فيها، فهو حقيقة يبعث في الإنسان حب الجنة، وهي لا تنال إلا بالأعمال الصالحة، فيكون ما ذكر سببا في الإكثار من الطاعات لله - لا للشيطان - وهو المطلوب من المسلم، والله يفضل بعض الأشياء على بعض، كتفضيل المساجد على غيرها من بقاع الأرض.

أما رجم الشيطان الذي ذكره الرئيس الجليل بورقيبة وحسبه من الشرك الذي أقر الرسول عليه أمته، ففهمه هذا دليل على خلو قلبه من الإيمان بما جاء به الرسول صل الله عليه وصلم، وهو شرع الله، - فلا شيطان الآن هناك حتى يرجم - والشيطان معنا في كل وقت ليفتننا، إن الرجم بحصيات الواحدة منها مثل الفولة - وهو المعروف برمي الجمار - يذكر المسلم بأن لا ينسى الشيطان ووساوسه ونزغاته، فإنه عدوه الذي حذره منه خالقه، فعليه أن يحتاط لنفسه منه، وأن يأخذ حذره منه ما استطاع.

هذه المعاني - وغيرها كثير - هي التي تمر بخاطر الحاج في تلك الأمكنة

ص: 218

المطهرة من الشرك والخرافات، فكيف فهم بورقيبة أنها تدخل الشرك؟ ولله في خلقه شؤون.

هذا أهم ما جاء في خطاب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، ذلك الخطاب الذي لم يتورع فيه عن جرح شعور المسلمين نحو الله والرسول والقرآن، وأظهر لهم ما تكنه نفسه للدين الإسلامي وللقرآن وللرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أساء للمسلمين إساءة كبرى لا تصدر إلا من خصوم الإسلام والقرآن والرسول، والمرء إنما يؤاخذ على أقواله وأفعاله فهي المعتبرة، لذلك فإن الإسلام الذي أساء إلى أتباعه إنما يحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، وإني أرى - بناء على ما صدر منه - أن أقواله تلك التي صدرت منه باختياره وإرادته، أنه خارج من الإسلام - إن كان مسلما - مرتد عن الشريعة الإسلامية، فيحكم عليه بالردة والكفر بالله، وبالقرآن، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالإسلام، لا شك في هذا بناء على ما صرح به وما أفتى به العلماء في حق من تجرأ على مقام الربوبية أو الرسالة أو الدين أو القرآن، كما علمنا من فتوى علماء قرطبة وغيرهم، وقد ذكر العلماء في فتاويهم: أن من شتم محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل، من ذلك ما ذكره الشيخ عيسى بن مسعود الزواوي في ترجمته للإمام مالك ابن أنس رضي الله عنه المطبوعة مع ترجمة السيوطي للإمام مالك أيضا في أول المدونة ص 36 ما نصه: (قال - يريد مالكا رضي الله عنه:

من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب) هذا حكم الإمام مالك رضي الله عنه، فبورقيبة لم يشتم الرسول فقط، بل رماه بالكذب والتزوير والزيادة في القرآن مما يسمع من العرب من الخرافات، فهل يشك الآن شاك في كفره ونفاقه ومروقه من الإسلام؟؟

وجاء في فتاوى الشيخ عليش - المالكي - المصري قوله في سؤال وجه إليه: ما قولكم في من سب عزرائيل عليه السلام، ولم يعلم وجوب حرمته، فهل يعذر بجهله أم لا؟ فأجاب بقوله:(لا يعذر بجهله، ويقتل ولو تاب، قال في المجموع: وإن عاب ملكا أو نبيا ولو في بدنه قتل ولو جاء تائبا) ج 2 ص 337.

إن العلماء هم حراس هذا الدين، فمنذ تركوا حراسته وتخلوا عن مراكزهم في الحراسة - إلا من قل منهم - تسرب إلى حماه الطاهر كل

ص: 219

دعي زنديق، فمد لسانه ويده إلى جوهر حياة المسلم، وهو الإسلام ونال منه، ذلك أن العلماء مسؤولون - أمام الله - عن ضياع ما بقي من الإسلام، وعندما تركوا الذب عنه تطاولت إلى حماه الثعالب وأكثرت - من الصياح - وهم ساكتون - وخصوم الإسلام غير ساكتين - لاهون بغيره، وقد شرفهم الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال في العاملين المخلصين منهم، وهم العدول المدافعون عن الدين الحق في قوله: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله الخ

). إن الأمة الإسلامية تنتظر أقوال علمائها المخلصين في هذا الرجل الذي تجرأ هذه الجرأة الغريبة وتطاول إلى ما يعظمه المسلمون، فقال فيه ما قال. فأقواله وأفعاله وحدها كافية في الحكم عليه بالمروق من الإسلام، فإذا مات فإنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين - إذ له قبره الخاص به - لأنه نافق والنبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله عن الصلاة على المنافقين في قوله:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} سورة التوبة الآية 84. على العلماء أن يقولوا له: (إن بني عمك فيهم رماح).

والملاحظ هنا أن رؤساء الدول الإسلامية في هذا الوقت أولوا عناية خاصة بأشخاصهم فسنوا لها ولحمايتها القوانين الزاجرة والأحكام القاسية، أعدوها لكل من يتكلم في شخص رئيس الدولة أو الحكومة، من غير أن يذكروا في قوانينهم ما ينال رئيس الدولة أو الحكومة إذا خرج هو عن الطريق المستقيم، كل ذلك ليرفعوا مكانتهم عن أن تنالهم الأحكام أو العقوبات التي تنال غيرهم، فقدسوا أنفسهم تقديسا كبيرا لم يعطوا منه شيئا للرسل والخالق والأديان، إن حكم الله - لا حكم البشر - ينال كل من اعتدى وخرج عن طريق الحق والصواب، وحق الله على العلماء مقدم على حق رؤساءهم عليهم.

فهو واحد من رجلين، إما أن يكون أصابه "الخرف" وهو فساد العقل من كبر السن، فأصيب في عقله، والعقل أفضل ما في الإنسان، وهنا لم يعد صالحا لإدارة دفة الحكومة، فالواجب على شعبه إبعاده عنها، وأما أن يكون سليم العقل كامل الإدراك، وهنا يتحمل ما قال فتلقى عليه تبعات أقواله، فالحكم هنا للدين الذي يمثله العلماء. أما أن يبقى هكذا

ص: 220