الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الإسلام دين ونظام حياة
.
إذا قلنا أن الإسلام دين ونظام حياة فهو كذلك، ذلك أن ما في الإسلام من تشريع وأحكام يتناول حياة المسلم في جميع أطوارها، فقد أتاح للمسلم الفرصة لينظم حياته تنظيما صالحا يعود عليه وعلى من يساكنه بالسعادة والراحة فقد رسم له الإسلام ما يجب له وما يجب عليه في حياته الأولى هذه، إذ أمره بأن يكون موحدا لخالقه بحق، لتتحقق بذلك عبوديته - مطيعا لربه الذي لا رب - بحق - غيره، فتكون عقيدته مبنية أساسا على التوحيد، وكذلك عبادته وطاعته فهي لله وحده؟ كما نظم له حياته مع من يعاشره فوق هذه الأرض، بأحكام تجعل منه المواطن الحر الصالح للحياة مع غيره بسلام وطمأنينة ووئام، وتلك هي عين السعادة والراحة.
والدين ضروري للبشر - خلافا للجهلة وأشباههم من الملاحدة - لأنه لازم للإنسان، إذ هو فطرة الله التي فطره عليها، فلزمه ذلك، فالذين يحاولون أن يستغنوا عن الدين هم قوم أرادوا أن يخرجوا عن الفطرة، ويتركوا الحق والواقع، ويتبعوا الباطل والهوى، كما جاء في الحديث النبوي الشريف:((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه)). (1)
فالدين الحق السماوي من الله، والإنسان مخلوق لله، وهو أعلم بعبده منه هو بنفسه.
فالأديان السماوية إنما جاءت لتربية الإنسان وتأديبه وتهذيبه - والإنسان لا يستغني عن التأديب والتهذيب كيفما كان - فيها المأمور به المشتمل على ما يزكي النفس البشرية، ويرتفع بها من حيوانيتها البهيمية إلى الإنسانية العاقلة، وفيها المنهي عنه الذي لا يتفق مع إنسانيته المكرمة بالعقل والإدراك.
فالذين أنكروا الدين، ورأوه غير لازم لحياة الإنسان هم قوم من الجهل والغباوة بمكان
…
ولو كانوا من أعلم الناس ببعض طرق الحياة، بل ولو كانوا من مخترعي ما يحتار فيه العقل البشري، فهم أجهل الناس بحقيقة أنفسهم؟ فجهل الإنسان بحقيقة نفسه جعله ينكر وجود خالقه، وما تبع
(1) أخرجه الطبراني وغيره.
ذلك الاعتراف بالموجود من طاعة وتعظيم وغيرهما، لهذا جاءت الأديان السماوية لتعرف الإنسان المغرور المخدوع بالمظاهر، تعرفه من هو؟ وكيف جاء إلى هذه الحياة؟ وما هي المهمة التي جاء من أجلها؟ فمن تدبر الآيات الكونية، أو تدبر الآيات القرآنية اهتدى إلى حقيقة نفسه وسر وجوده مثل قول الله:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (1) وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِالخ
…
} (2)
فالذي أنكر الدين أنكر الديان - وهو الله تعالى - والمنكر للدين منكر لوجود الخالق الصانع لهذا العالم، ذلك أنه لا يمكن وجود مصنوع بدون صانع، وهل يتصور الإنسان العاقل المميز وجود شيء مصنوع من غير صانع أوجده؟ فهل يصدق الإنسان العاقل بوجود دار - مثلا - عالية متقنة البناء، ذات طبقات متعددة رافعة رأسها، من الإتقان على جانب كبير، هذه الدار وهي على ما وصفنا وجدت بدون مهندس وضع تصميمها، وبغير بنائين مهرة بنوها، وصنعة ماهرين صاغوها ذلك الصوغ العجيب، في شكل جذاب خلاب، كما وجدت أبوابها وشبابيكها بلا نجار أو نجارين عارفين مهرة صنعوا أبوابها حسب التصميم والذوق السليم، هل يوجد هذا كله من تلقاء ذاته؟ هذا أمر مستحيل لا يصدقه عقل مدرك
…
؟؟؟؟
أن العاقل المدرك إذا وجهت إليه هذه الأسئلة فإنه يبادر بالجواب الصحيح بالبداهة بأن ذلك لا يكون، - وهو وجود الشيء من غير موجد له - أبدا، لأنه مشاهد محسوس، يدرك بالبداهة، فكيف ينكر ذلك قوم أعماهم الجهل عن رؤية وتأمل صنعة الصانع الحكيم، الخالق العليم وهو رب العالمين؟
من المنكرين لوجود الخالق من قال: إن الطبيعة هي التي أوجدت هذا العالم، بمعنى أنه إذا نزل المطر نبت الزرع - مثلا - وجميع الخضر وغيرهما من تلقاء ذاته
…
فيقال لهم: (والمطر من أنزله؟ والطبيعة من أوجدها؟) أهي أوجدت ذاتها؟ وهذا أمر مستحيل عقلا، لا يصدقه إلا الأبله الغبي، ولماذا لا تعطينا هذه الطبيعة القمح - مثلا - بدون حرث الأرض، وبذر الحب، والسقي والرعاية؟ فلو اعتمد الفلاح على الطبيعة من غير عمل وعلاج
(1) الآية 85 من سورة الإسراء.
(2)
الآية 36 من سورة والذاريات.
لخسر لا محالة، فلا تنت له أرضه سوى الحشيش والشوك على أصل خلقتها.
أليس ما في هذا العالم من موجودات بكاف لمن تدبر في الدلالة على وجود الله؟ وأكبر آية في الدلالة على وجود الخالق الحكيم هي الإنسان نفسه.
ومعه هذا الكون الكبير، قال الله الخالق العليم لتعليمنا وإرشادنا - حتى لا نضل ولا نزيغ:{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (1){فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (2) فإذا أقررنا بوجود الله الله الخالق الحكيم وجبت علينا طاعته وعبادته، كما أمرنا ونهانا بما في شرعه القويم.
فالإسلام - وهو دين البشرية كلها ولا دين لها سواه - وضع للعباد منهاجا وطريقا لعبادة الله، كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك، وأمر العباد بعبادة الله وطاعته فيما أمر به ونهى عنه، ووعدهم بالثواب والجزاء على طاعته، وأوعدهم بالعقاب على معصيته، سواء أصدق الناس بهذا الوعد والوعيد أم كذبوا؟ ولكنها الحقيقة التي يجب أن تعلم وتذاع، والله سبحانه قال لرسوله:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (3).
فدين الإسلام يزكي النفس ويطهرها من الأرجاس والخبائث، كما قال الله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (4) وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (5) والله الرحيم بعباده لم يكلفهم بما فيه العنت والمشقة التي لا تتحملها النفوس البشرية ولا تطيقها، فكل تكاليف الشريعة الإسلامية - من مأمورات ومنهيات - في طوق البشر واستطاعتهم، وفي هذا يقول الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} (6).
(1) سورة والذاريات.
(2)
الآية 46 من سورة الحج.
(3)
الآية 29 من سورة الكهف.
(4)
الآيتان 9 - 10 من سورة والشمس.
(5)
الآية 18 من سورة فاطر.
(6)
الآية 78 من سورة الحج.
فإذا قيس التشريع الإسلامي بما جاء في غيره من الشرائع يلفى أن ما جاء به الإسلام ميسور وسهل على البشر، وفي حدود الاستطاعة والقدرة.
وقد حط عنا ربنا الكثير من التكاليف الشديدة والثقيلة التي كانت فرضت على من سبقنا من الأمم في دياناتها، كاليهود والنصارى، وفي هذا يقول رب العباد للعباد:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) ولكنه الضلال البشري الذي يعمي الأبصار عن رؤية الحق، والبصائر عن الانتفاع بما في هذا العالم من آيات كونية مفصحة ودالة على وجود الصانع القدير.
أما أن الإسلام دين فيه نظام الحياة فهو بين وظاهر في تشريع الأحكام، ذلك أن الإسلام نظم للمسلم حياته تنظيما دقيقا ومحكما، وأمره بالعمل بما في هذال النظام الذي وضعه رب العباد، فقد أحاط الإسلام المسلم بما شرعه له بسياج من الفضائل والمحامد بالنظر إلى المهمة التي أنيطت به، والمسؤولية التي ألقيت عليه، فتحملها كأمانة يجب عليه أن يرعاها ويحافظ عليها، فقد رسم له منهاجا بينا واضحا وأمره باتباعه والسير فيه، فأمره بما فيه خيره وسعادته، ونهاه عما فيه شره وشقاؤه، فإذا لم يمتثل لما طلب منه فقد خان العهد، ونقض الوعد، وإذا ساء حاله في حياته، فذلك يعود بالذات إلى سوء سلوكه وبعده عن منهج الإسلام الواجب اتباعه عليه، فقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على اتباع ما رسمه الله لعباده - وبلغه هو لهم - فقال:((قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) (2) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه في موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، تلك الموعظة البليغة التي أثرت فيهم حتى ذرفت منها عيونهم ووجلت منها قلوبهم بعد أن
(1) سورة الأعراف.
(2)
أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم عن العرباض.
طلبوا منه أن يعهد إليهم بشيء فقال لهم: قد تركتم الخ
…
وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)) (1).
فإذا لم يؤد المسلم فروضه الدينية كلها من صلاة وصيام وغيرهما، وإذا لم يهجر ما حرمه عليه ربه في شرعه، ففيم يظهر إسلامه؟ وإذا لم تطبق حكومات الشعوب الإسلامية قوانين الإسلام فيما يحدث بين المسلمين من خصام ومخالفات ونزاع فكيف ساغ لها أن تجعل مادة في دساتيرها تنص على أن الإسلام دين الدولة؟ في حين أن الإسلام بعيد - ومبعد - تطبيقه في المجتمع الإسلامي، في الأسر والعائلات، وفي الأسواق والمنتديات وفي المحافل ومحاكم القضاة، وما وضعت تلك المادة في الدستور إلا للتلهية أو السخرية بالإسلام، لأن الإسلام كل لا يقبل التجزئة والتقسيم، فإما أن يؤخذ كله أو يترك كله. وما نسمعه أو نقرأه عن وجود مادة في دستور أية دولة من دول الشعوب الإسلامية تنص على أن الإسلام هو دين الدولة من غير عمل بالقوانين الإسلامية. أو بعبارة أوضح من غير تطبيق لما جاء في الشريعة الإسلامية - فكله تضليل وتغطية لا حقيقة عن أعين الشعوب الإسلامية، التي لن ترضى - أبدا - أن تنسلخ أو تسلخ عن دينها الإسلام الذي رضيه لها ربها دينا قيما.
فإذا سكتت الشعوب المسلمة عما تراه يخرج بها شيئا فشيئا عن دينها ولم تطالب حكوماتها بتطبيق أحكام الإسلام، وسكتت - أيضا - عما ترى من مخالفات صريحة لنصوص الشريعة الإسلامية - عملا وتطبيقا - فكأنها رضيت بذلك السكوت عما يجري في مجتمعها، فإنها تتحمل - هي الأخرى - قسطها من تبعات ضياع الإسلام في أرضها، وسيأتيها يوم لا تستطيع فيه الكلام، فتكون بسكوتها شريكة لحكوماتها في إهمال أحكام الإسلام، ويكون الجميع مسؤولين عن ضياع الإسلام - لا قدر الله - في أوطانه، وهي ساكتة كأن الأمر لا يعنيها ولا يهمها، إذ من المعروف أن الشعوب الحية - اليقظة - مراقبة دائما وباستمرار لحكوماتها وحارسة لها خوفا من الانحراف والانجراف إلى مهاوي الهلاك والخسران، وإذا جاء ذلك فعلى الجميع.
(1) رواه الحاكم عن أبي هريرة.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات المؤكدة على كل مسلم وشعب فيه قابلية لذلك، ولولاهما لما بقي من الدين شيء، فليس في قلب كل مسلم حب واحترام ومكانة للإسلام، وتقدير لشعور غيره.
ولو كان هذا لما رأينا الخمور - المنهي عنها شرعا - تباع وتشترى وتصنع وتشرب - علنا وأمام أعين المؤمنين - كما يشرب الماء أو الحليب، ونرى المسلم يحملها إلى بيته كما يصل الحليب أو الزيت أو غيرهما من المباحات شرعا، الجائز استعمالا.
إن الإسلام لما بين لنا نظام حياتنا، وحدد لنا الحدود، وأوضح لنا المناهج لكل ذلك، في كل ما له صلة وارتباط بحياتنا - كأفراد وجماعات - لم يهمل أي شيء في هذه الحياة؟ أما ما عساه أن يحدث بحسب الظروف والأحوال فهو موكول إلى أولي الرأي والشأن في جماعة المسلمين، - ومن الخطإ - المتعمد - أن يقول الملاحدة: إن الإسلام لم تكن فيه الأحكام الكافية لكل حادثة ونازلة، والذي جرى به العمل في كل أنحاء العالم أن كل القوانين المدنية معرضة للتبديل والتغيير والنسخ والإبطال.
أما الإسلام فأحكامه وقوانينه لا تبدل ولا تغير، فإذا لم يكن نص صريح في نازلة من النوازل فالاجتهاد من العلماء الراسخين في العلم يوجد لها حكما مماثلا لها من الشبيه والمثيل في النصوص الواضحة، وهذا ما جرى للمتقدمين من سلفنا الصالح، فقد قاسوا الفروع على الأصول والأشباه على النظائر من غير أن يحتاجوا إلى جلب أحكام ليست في شريعتهم يتعاملون بمقتضاها.
إننا نجد في السنة النبوية - مثلا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الصحابي العالم بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن أميرا وحاكما، وكان على جانب كبير من معرفة الشريعة وأحكامها، ويكفي شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، فقد ورد في حديث أنس - المرفوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)) وجاء فيه: ((وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)) (1)
(1) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن جابر وأنس.