الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في أحكام الديات
الديات: جمع دية، وهي المال المؤدى إلى مجني عليه أو وليه بسبب جناية، يقال: وديت القتيل: إذا أعطيت ديته، فالدية مصدر ودي، والهاء فيها بدل من الواو التي حذفت؛ مثل: عدة وصلة من الوعد والوصل.
والدليل على وجوب الدية: الكتاب والسنة، والإجماع.
قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} الآية.
وفي الحديث الصحيح: "من قتل له قتيل؛ فهو بخير النظرين: إما أن يفدي، وإما أن يقتل"، رواه الجماعة.
فتجب الدية على كل من أتلف إنسانا بمباشرة؛ كما لو ضربه أو دهسه بسيارة، أو قتله بتسبب؛ كمن حفر بئرًا في طريق أو وضع فيه حجرًا فتلف بسبب ذلك إنسان، سواء كان التالف مسلما أو ذميا أو مستأمنا أو مخادنا؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِه} .
فإن كانت الجناية التي تلف بسببها المجني عليه عمدًا محضا؛ فإن الدية تجب كلها في مال الجاني حالة؛ لأن الأصل يقتضي أن بدل المتلف يجب على متلفه.
قال الموفق ابن قدامة: "أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل، لا تحملها العاقلة، وهذا يقتضيه الأصل، قال تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} انتهى.
وإنما خولف هذا الأصل في دية الخطأ لكثرة الخطأ؛ فإن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة؛ فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل تخفيفا عنه؛ لأنه معذور، والعامد لا عذر له؛ فلا يستحق التخفيف عنهن ولأنه قد وجب عليه القصاص، فإذا عفي عنه؛ فإنه تحمل الدية؛ فداء نفسه، وتجب عليه الدية حالة كسائر بدل المتلفات.
وأما دية القتل شبه العمد ودية القتل الخطأ؛ فإنهما يكونان على عاقلة القاتل؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها"، متفق عليه، فدل الحديث على أن دية شبه العمد تتحملها عاقلة القاتل.
وأما دية الخطأ؛ فقال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل
العلم أنها على العاقلة"، وقال الموفق: "لا نعلم خلافا أنها على العاقلة"، وكذا دية ما يجري مجرى الخطأ؛ كانقلاب النائم على إنسان فيقتله، وحفر البئر تعديا فيقع فيها إنسان فيموت.
وما ترتب على الفعل المأذون به شرعا من تلف؛ فهو غير مضمون؛ كما لو أدب الرجل ولده أو زوجته، أو أدب سلطان أحدًا من رعيته، ولم يسرف واحد من هؤلاء في التأديب، ومات المؤدَّب، لم يجب شيء على المؤدب؛ لأنه فعل ما له فعله شرعا، ولم يتعدَّ فيه، فإن أسرف في التأديب فزاد فوق المعتاد، فتلف المؤدَّب؛ ضمنه لتعديه بالإسراف.
وإن كان التأديب لامرأة حامل، فأسقطت حملها بسببه وجب على المؤدب ضمان الحمل بغرة عبد أو أمة؛ لما في "الصحيحين":"أنه صلى الله عليه وسلم في قضى إملاص المرأة بعبد أو أمة"، وهو قول أكثر أهل العلم.
ومن أوقع حاملاً فأسقطت جنينها بسبب ذلك؛ كما لو طلبها سلطان، أو استعدى عليها رجل بالشرط؛ وجب ضمان الجنين على من أفزعها؛ لهلاكه بسببه؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه: "أنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها، فقالت: يا ويلها! ما لها ولعمر؟، فبينما هي
في الطريق؛ إذ فزعت، فضربها الطلق، فألقت ولدًا فصاح صيحتين ثم مات. فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: ليس عليك شيء. فقال علي: إن كانوا قالوا في هواك؛ فلم ينصحوا لك، إن ديته عليك؛ لأنك أفزعتها فألقته".
ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرًا أو يصعد شجرة ونحوها، ففعل، وهلك بسبب نزوله أو صعوده؛ لم يضمنه الآمر؛ لأنه لم يجن ولم يتعد عليه في ذلك.
فإن كان المأمور غير مكلف؛ ضمنه الآمر؛ لأنه تسبب في إتلافه.
ولو استأجر شخصا لنزول البئر وصعود الشجرة فمات بسبب ذلك؛ لم يضمنه المستأجر؛ لأنه لم يجن ولم يتعد.
ومن دعا من يحفر له بئرًا بداره، فمات بهدمه لم يلقه عليه أحد؛ فهو هدر؛ لعدم التعدي عليه.
ومن ذلك ندرك مدى اهتمام الإسلام بحفظ الأرواح وحقن دماء الأبرياء.
لكن في وقتنا هذا كثر التهاون بهذه المسؤولية على أيدي أولئك الذين يتهورون في قيادة السيارات، فيعرضون أرواحهم وأرواح غيرهم للهلاك وكم هلك بسبب ذلك من الأرواح البريئة المحرمة فقد تذهب الجماعة بأسرها أو العائلة بأكملها على يد طائش متهور لا يقدر المسؤولية ولا ينظر في العواقب، وقد يكون السبب في ذلك آباء هؤلاء الأطفال
المتهورين، حين يشترون لهم السيارات الفارهة، ويسلمونها لهم؛ ليزهقوا بها الأرواح البريئة؛ إنهم بذلك يسلمونهم سلاحا فتاكا يعبثون به ويحصدون به الأنفس ويروِّعون به الآمنين.
فيجب على هؤلاء أن يتقوا الله في أولادهم وفي أرواح المسلمين، ويجب على ولاة الأمور وفقهم الله أن يأخذوا على يد الجميع بما يضمن سلامة الجميع واستتباب الأمن؛ فإن الله يزع بالسلطان ملا يزع بالقرآن.