الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة ورجوع الشهود
كتاب القاضي إلى القاضي قد تدعو الحاجة إليه؛ فإن من له حق في غير بلده لا يمكنه إثياته والطلب به إلا عن طريق إثباته عند قاضي ذلك البلد والكتابة بذلك إليه؛ لاستكمال بقية الإجراءات الحكمية؛ إذ يتعذر السفر بالشهود، وربما كانوا معروفين في بلد دون بلد، فيتعذر إثبات الحق بدون كتاب القاضي إلى قاض آخر.
وقد أجمعت الأمة على قبول كتاب القاضي إلى القاضي لأثبات الحقوق وتنفيذها، وقد كتب سليمان عليه السلام إلى بلقيس، وكتب النبي محمد صلى الله عليه وسل إلى النجاسي وإلى قيصر وإلى كسرى يدعوهم إلى الإسلام، وكاتب صلى الله عليه وسل عماله وسعاته، فدل ذلك على مشروعية العمل به.
ويقبل في كل حق لآدمي، ولا يقبل في حدود الله؛ كحد الزنى وشرب الخمر؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على الستر والدرء بالشبهات.
كتاب القاضي إلى القاضي على نوعين:
النوع الأول: يكون فيما حكم به القاضي الكاتب لينفذه القاضي المكتوب إليه، وهذا يقبل، ولو كان كل من الكاتب والمكتوب إليه في بلد واحد؛ لأن حكم الحاكم يجب إمضاؤه على كل حال، إلا؛ تعطلت الأحكام، وكثرت الخصومات.
والنوع الثاني: أن يكتب القاضي فيما ثبت عنده إلى قاض آخر ليحكم به، ويشترط لقبول هذا النوع أم يكون بين الكاتب زالمكتوب إليه مسافة قصر فأكثر؛ لأنه نقل شهادة إلى المكتوب إليه، فلم يجز مع القرب.
وصورة الثبوت أن يقول: ثبت عندي أن لفلان على فلان كذا وكذا.
والثبوت ليس بحكم، بل خبر بالثبوت.
قال الشيخ: "ويجوز نقله إلى مسافة قصر فأكثر، ولو كان الذي ثبت عنده لا يرى جواز الحكم به؛ لأن الذي ثبت عنده ذلك الشيء يخبر بثبوت ذلك عنده، وللحاكم الذي اتصل به ذلك الثبوت الحكم به إذا كان يرى حجته، ويجوز أن يكون القاضي المكتوب إليه غير معين، كأن يقول: إلى كل من يصل إليه كتابي من قضاة المسلمين؛ من غير تعيين، ويلزم من وصل إليه قبوله؛ لأنه كتاب حاكم من محل ولايته وصل إلى حاكم، فلزم قبوله، كما لو كتب إلى معين".
ويشترط لقبول كتاب إلى القاضي القاضي أن يشهد به القاضي
الكاتب شاهدين عدلين يضبطان معناه وما يتلعق به من الحكم. هذا قول، والقول الآخر: يجوز العمل بكتاب القاضي إلى القاضي إذا عرف خطه، وإن لم يشهد، وهو رواية عن الإمام أحمد، وفي وقتنا هذا يمكن أن يكتفي بختم المحكمة الرسمي عن الإشهاد.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "أجمع الصحابة على العمل بالكتاب، وكذا الخلفاء بعدهم، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب، فإن لم يعمل بما فيها؛ تعطلت الشريعة".
وقال: "ولم يزل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم لبعض، ولا يشهدون حاملها على ما فيها، ولا يقرؤونه عليه، وهذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن".
قال: "والقصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف وتيقن؛ كان كنسبة اللفظ إليه، وقد جعل الله في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره؛ كتميز صورته وصورته، والناس يشهدون شهادة ولا يستريبون فيها على أن هذا فه خط فلان".
وقال الشيخ تقي الدين: "ومن عرف خطه بإقرار أو إنشاء أو عقد أو شهادة؛ عمل به
…
" انتهى.
وأما الشهادة على الشهادة؛ فهي أن يقول شخص لآخر: اشهد على شهادتي بكذا، أو اشهد أني أشهد بكذا، ونحو ذلك؛ ففيها معنى النيابة، ويسمى الشاهد الأصلي شاهد الأصل، والنائب عنه شاهد الفرع.
قال أبو عبيد: "أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال".
وسئل الإمام أحمد عن الشهادة على الشهادة؟ فقال: "هي جائزة".
ولأن الحاجة داعية إليها؛ لأنها لو لم تقبل؛ لتعطلت الشهادة على الوقوف وما يتأخر إثباته عند الحاكم أو ماتت شهوده، وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة؛ فوجب قبولها كشهادة الأصل.
ويشترط لقبول الشهادة على الشهادة شروط:
أولاً: أن يأذن شاهد الأصل لشاهد الفرع؛ لأنها في معنى النيابة، ولا ينوب عنه إلا بإذنه.
ثانيا: أن يكون فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وهو حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى.
ثالثا: أن تتعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو خوف من سلطان أوغيره.
رابعا: أن يستمر عذر شاهد الأصل إلى الحكم.
خامسا: دوام عدالة شاهد الأصل وشاهد الفرع إلى صدور الحكم.
سادسا: أن يعين شاهد الفرع شاهد الأصل الذي تحمل عنه الشهادة.
وأما الرجوع عن الشهادة:
فإنه إذا رجع شهود المال بعد الحكم؛ فإنه لا ينقض؛ لأنه قد
تم، ووجب المشهود به للمشود له، وهما متهمان بإرادة نقض الحكم، فينفذ الحكم، ويلزمهم الضمان؛ بأن يضمنوا المال الذي شهدوا به؛ لأنهم أخرجوه من يد مالكه بغير حق، وحالوا بينه وبينه.
وإن حكم القاضي بشاهد ويمين، ثم رجع الشاهد؛ غرم المال كله؛ لأنه حجة للدعوى، واليمين قول الخصم، وقول الخصم ليس مقبولاً على خصمه، وإنما هو شرط للحكم.
وإن رجع الشهود عن الشهادة قبل الحكم؛ ألغي، ولا حكم ولا ضمان، والله أعلم.