الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في الصداق في النكاح
الصداق مأخوذ من الصدق؛ لأنه يشعر برغبة الزوج في الزوجة، وهو عوض يسمى في عقد النكاح أو بعده.
أما حكمه: فهو واجب، ودليله الكتاب والسنة والإجماع.
ولفعله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن يخلي النكاح من صداق، وقال:"التمس ولو خاتما من حديد".
وأجمع أهل العلم على مشروعيته.
أما مقداره: فلا يتقدر أقله ولا أكثره بحد معين؛ فكل ما صح أن يكون ثمنا أو أجرة؛ صح أن يكون صداقا، وإن قل أو أكثر؛ إلا أنه ينبغي الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ بأن يكون في حدود اربع مئة درهم، وهي صداق بنات النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الصداق المقدم إذا كثر وهو قادر على ذلك؛ لم يكره؛ إلا أن يقترن بذلك ما يوجب الكراهة من معنى المباهاة ونحو ذلك، فأما إن كان عاجزاً عن ذلك؛ فأما إن كثر، وهو مؤخر في ذمته؛ فينبغي أن يكره؛ لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة" انتهى كلامة.
والخلاصة: أن كثرة الصداق لا تكره إذا لم تبلغ حد المباهاة والإسراف، ولم تثقل كاهل الزوج؛ بحيث تحوجه إلى الاستعانة بغيره عن طريق المسألة ونحوها، ولم تشغل ذمته بالدين، وهي ضوابط قيمة تكفل المصلحة وتدفع المضرة.
ويتبين من خلال ما سبق أن ما وصل إليه الناس في قضية المهور من المغالاة الباهظة التي لا يراعي فيها جانب الزوج الفقير والتي أصبحت صعبة المرتقى في طريق الزواج؛ أن هذه المغالاة لا شك في كراهتها أو تحريمها، خصوصا وأنه يكون إلى جانبها تكاليف أخرى؛ من شراء الأقمشة الغالية الثمن، والمصاغات الباهظة، والحفلات والولائم المشتملة على الإسراف والتبذير وإهدار الأطعمة واللحوم في غير مصلحة تعود إلى الزوجين؛ لا شك أن كل ذلك من الآصار والأغلال والتقاليد السيئة التي يجب محاربتها والقضاء عليها وتنقية طريق الزواج من عراقيلها.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: "أعظم النساء بركة
أيسرهن مؤنة"، رواه أحمد والبيهقي والحاكم وغيرهم.
وقال عمر بن الخاب رضي الله عنه: "ألا لا تغالوا في صدق النساء؛ فإنه لو كان مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله؛ كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته، اكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في قلبه، وحتى يقول: كلفت فيك علق القربة" أخرجه النسائي وأبو داود.
ومنه تعلم أن كثرة الصداق قد تكون سببا في بغض الزوج لزوجته حينما يتذكر ضخامة صداقها، ولهذا كان أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة؛ كما في حديث عائشة؛ فتيسير الصداق يسبب البركة في الزوجة ويزرع لها المحبة في قبل الزوج.
والحكمة في مشروعية الصداق: أن فيه معاوضة عن الاستمتاع، وفيه تعزيز لجانب الزوجة وتقدير لمكانتها في حق الزوج.
وتستحب تسميته الصداق، وتحديده في العقد؛ لقطع النزاع.
ويجوز أن يسمى ويحدد بعد العقد؛ لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا} ؛ فدلت الآية على أن فرض الصداق قد يتأخر عن العقد.
وأما نوعية الصداق: فكما يفهم أن كل ما جاز أن يكون ثمنا في بيع أو أجرة في إجارة وقيمة لشيء؛ جاز أن يكون صداقا، سواء كان من عين أو دين معجل أو مؤجل أو منفعة معلومة، وهذا مما يدل على أنه مطلوب تيسير الصداق، وحسب الظروف والأحوال، تيسير الزواج الذي يتعلق به مصالح عظيمة للأفراد والمجتمعات.
وهذه بعض المسائل الهامة التي تتعلق بالصداق:
أولاً: إن الصداق ملك للمرأة، ليس لوليها منه شيء؛ إلا ما سمحت به له عن طيب نفس، لقوله تعالى:{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنّ} ، ولأبيها خاصة أن يأخذ من صداقها، ولو لم تأذن؛ ما لا يضرها ولا تحتاج إليه؛ لقولهصلى الله عليه وسلم:"أنت ومالك لأبيك".
ثانيًا: يبدأ تملك المرأة لصداقها من العقد؛ كما في البيع، ويتقرر كاملاً بالوطء، أو الخلوة بها، وبموت أحدهما.
ثالثا: إذ أطلقها قبل الدخول أو الخلوة، وقد سمى لها صداقا؛ فلها نصفه؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ؛ أي: لكم ولهن، فاقتضى أن النصف له والنصف لها بمجرد الطلاق، وأيهما عقا لصاحبه عن نصيبه منه وهو جائز التصرف؛ صح عفوه؛ لقوله تعالى:{إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} ، ثم رغَّب في العفو، فقال تعالى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ؛
أي: لا ينس الزوجان التفضل من كل واحد منهما على الآخر، ومن جملة ذلك أن تتفضل المرأة بالعفو عن النصف، أو يتفضل الرجل عليها بإكمال المهر، وهو إرشاد للرجال والنساء من الأزواج إلى ترك التقصي من بعضهم على بعض والمسامحة فيما لأحدهما على الآخر؛ للوصلة التي قد وقعت بينهما.
رابعا: كل ما قبض بسبب النكاح ككسوة لأبيها أو أخيها فهو من المهر.
خامسا: إذا أصدقها مالاً مغصوبا أو محرما؛ صح النكاح، ووجب لها مهر المثل بدل الصداق المحرم.
سادسا: إذا عقد النكاح ولم يجعل للمرأة مهراً؛ صح النكاح، ويسمى ذلك بالتفويض، ويقدر لها مهر المثل؛ لقوله تعالى:{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي: أو ما لم تفرضوا لهن فريضة، ولحديث ابن مسعود في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل لها حتى مات، فقال رضي الله عنه:"لها صداق نسائها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث"، وقال:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق بمثل ما قضيت"، رواه الترمذي وغيره وصححه.
وقد يكون التفويض لمقدار المهر معناه أن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي، فيصح العقد في هذه الحالة، ويقدر لها مهر المثل، والذي يقدر مهر المثل هو الحاكم، فيقدره بمهر مثلها من نسائها؛ أي: قرابتها ممن يماثلها؛ كأمها وخالتها وعمتها، فيعتبر الحاكم بمن يساويها منهن القربى فالقربى في مال وجمال وعقل وأدب وسن وبكارة وثيوبة
…
فإن لم يكن لها أقارب؛ ففيمن يشبهها من نساء بلدها.
وإن فارقها قبل الدخول بطلاق؛ فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره؛ لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ، والمر يقتضي الوجوب، وأداء الواجب إحسان.
وإن كانت المفارقة بموت أحدهما قبل الدخول؛ تقرر لها مهر المثل، وورثة الآخر؛ لأن ترك تسميته الصداق لا يقدح في صحة النكاح، ولحديث ابن مسعود الذي سبق ذكره.
وإذا حصل الدخول أو الخلوة؛ تقرر لها مهر المثل؛ لما روى أحمد وغيره من قضاء الخلفاء الراشدين: "أن من أغلق بابا أو أرخى سترًا؛ فقد وجب المهر".
وإن حصلت الفرقة من قبلها قبل الدخول؛ فليس لها شيء؛ كما لو ارتدت أو فسخت النكاح بسبب وجود عيب في الزوج.
سابعاً: للمرأة قبل الدخول منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال؛ لأنها لو سلمت نفسها، ثم أرادت التراجع حتى تقبضه؛ لم يمكنها ذلك، فإن كان الصداق مؤجلاً؛ فليس لها منع نفسها؛ لأنها رضيت بتأخيره، وكذا لو سلمت نفسها، ثم أرادت الامتناع حتى تقبض صداقها؛ فليس لها ذلك.