الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في أحكام شركة المضاربة
شركة المضاربة سميت بذلك أخذًا من الضرب في الأرض، وهو السفر للتجارة، قال الله تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ؛ أي: يطلبون رزق الله في المتاجر والمكاسب.
ومعنى المضاربة شرعا: دفع مال معلوم لمن يتجر به ببعض ربحه.
وهذا النوع من التعامل جائز بالإجماع، وكان موجودًا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره، وروى عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وغيرهم، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عن الجميع.
والحكمة تقتضي جواز المضاربة بالمال؛ لأن الناس بحاجة إليها؛ لأن الدراهم والدنانير لا تنمو إلا بالتقليب والتجارة.
قال العلامة ابن القيم: "المضارب أمين وأجير ووكيل وشريك، فأمين إذا قبض المال، ووكيل إذا تصرف فيه، وأجير فيما يباشره بنفسه من العمل، وشريك إذا ظهر فيه الربح، ويشترط لصحة المضاربة تقدير نصيب العامل؛ لأنه يستحقه بالشرط".
وقال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على
رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوما جزءًا من أجزاء، فلو سمى له كل الربح أو دراهم معلومة أو جزءًا مجهولاً؛ فسدت" انتهى.
وتعيين مقدار نصيب العامل من الربح يرجع إليهما: فلو قال رب المال للعامل: اتجر به والربح بيننا؛ صال لكل منهما نصف الربح؛ لأنه إضافة إليهما إضافة واحدة لا مرجح لأحدهما على الآخر فيها، فاقتضى ذلك التسوية في الاستحقاق؛ كما لو قال: هذه الدار بيني وبينك؛ فإنها تكون بينهما نصفين وإن قال رب المال للعامل: اتجر به ولي ثلاثة أرباع ربحه أو ثلثه، أو قال له: اتجر به ولك ثلاثة أرباع ربحه أو ثلثه؛ صح ذلك؛ لأنه متى علم نصيب أحدهما؛ أخذه، والباقي للآخر؛ لأن الربح مستحق لهما، فإذا قدر نصيب أحدهما منه؛ فالباقي للآخر بمفهوم اللفظ، وإن اختلفا لمن الجزء المشروط؛ فهو للعامل، قليلاً كان أو كثيرا؛ لأنه يستحقه بالعمل، وهو يقل ويكثر؛ فقد يشترط له جزء قليل لسهولة العمل، وقد يشترط له جزء كثير لصعوبة العمل، وقد يختلف التقدير لاختلاف العاملين في الحذق وعدمه، وإنما تقدر حصة العامل بالشرط؛ بخلاف رب المال؛ فإنه يستحقه بماله لا بالشرط.
وإذا فسدت المضاربة؛ فربحها يكون لرب المال؛ لأنه نماء ماله، ويكون للعامل أجره مثله؛ لأنه إنما يستحق بالشرط، وقد فسد الشرط تبعا لفساد المضاربة.
وتصح المضاربة مؤقتة بوقت محدد؛ بأن يقول رب المال: ضاربتك على هذه الدراهم لمدة سنة.
وتصح المضاربة معلقة بشرط؛ كأن يقول صاحب المال: إذا جاء شهر كذا؛ فضارب بهذا المال، أو يقول: إذا قضت مالي من زيد؛ فهو معك مضاربة؛ لأن المضاربة إذن في التصرف، فيجوز تعليقه على شرط مستقبل.
ولا يجوز للعامل أن يأخذ من شخص آخر إذا كان ذلك يضر بالمضارب الأول إلا بإذنه، وذلك كأن يكون المال الثاني كثيراً يستوعب وقت العامل فيشغله عن التجارة بمال الأول، أو يكون مال المضارب الأول كثيرًا يستوعب وقته ومتى اشتغل عنه بغيره تعطلت بعض تصرفاته فيه، فإن أذن الأول أو لم يكن عليه ضرر؛ جاز للعامل أن يضارب لآخر.
وإن ضارب العامل لآخر مع ضرر الأول بدون إذنه؛ فإن العامل يرد حصته من ربحه في مضاربته مع الثاني في شركته مع المضارب الأول، فيدفع لرب المضاربة الثانية نصيبه من الربح، ويؤخذ نصيب العامل، ويضم لربح المضاربة الأولى، ويقسم بينه وبين صاحبها على ما شرطاه؛ لأن منفعة العامل المبذولة في المضاربة الثانية قد استحقت في المضاربة الأولى.
ولا ينفق العامل من مال المضاربة لا لسفر ولا لغيره> إلا إذا اشترط على صاحب المال ذلك؛ لأنه يعمل في المال بجزء من ربحه؛ فلا يستحق زيادة عليه إلا بشرط؛ إلا أن يكون هناك عادة في مثل هذا فيعمل بها.
ولا يقسم الربح في المضاربة قبل إنهاء العقد بينهما إلا بتراضيهما؛ لأن الربح وقاية لرأس المال، ولا يؤمن أن يقع خسارة في بعض المعاملة، فتجبر من الربح، وإذا قسم الربح مع بقاء عقد المضاربة؛ لم يبق رصيد يجبر منه الخسران؛ فالربح وقاية لرأس المال، لا يستحق العامل منه شيئا إلا بعد كمال رأس المال.
والعامل أمين يجب عليه أن يتقي الله فيما ولي عليه، ويُقبل قوله فيما يدعيه من تلف أو خسران، ويصدَّق فيما يذكر أنه اشتراه لنفسه لا للمضاربة أو اشتراه للمضاربة لا لنفسه؛ لأنه مؤتمن على ذلك، والله أعلم.