الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبواب
باب في أحكام الصلح
الصلح في اللغة: قطع المنازعة، ومعناه في الشرع: أنه معاقده يتوصل بها إلى إصلاح بين متخاصمين.
وهو من أكبر العقود فائدة، ولذلك حسن فيه استعمال شيء من الكذب إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
والدليل على مشروعية الصلح: الكتاب، والسنة، والإجماع:
قال الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، وقال {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين؛ إلا صلحا أحل
حراما أو حرم حلالاً"، صححه الترمذي، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم بالإصلاح بين الناس.
والصلح الجائز هو الذي أمر الله به ورسوله، وهو ما يقصد به رضى الله تعالى ثم رضى الخصمين.
ولا بد أن يكون من يقوم بالإصلاح بين الناس عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدًا للعدل، ودرجة المصلح بين الناس أفضل من درجة الصائم القائم، أما إذا خلا الصلح من العدل؛ صار ظلما وهضما للحق، كأن يصلح بين قادر ظالم وضعيف مظلوم بما يرضى به القادر ويمكنه من الظلم ويهضم به حق الضعيف ولا يمكنه من أخذ حقه، والصلح إنما يكون في حقوق المخلوقين التي لبعضهم على بعض مما يقبل الإسقام والمعاوضة، أما حقوق الله تعالى؛ كالحدود والزكاة؛ مدخل للصلح فيها؛ لآن الصلح فيها هو أداؤها كاملة.
والصلح بين الناس يتناول خمسة أنواع:
النوع الأول: الصلح بين المسلمين أهل الحرب.
النوع الثاني: صلح بين أهل العدل وأهل البغي من المسلمين.
النوع الثالث: صلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما.
النوع الرابع: إصلاح بين متخاصمين في غير المال.
النوع الخامس: إصلاح بين متخاصمين في الأموال، وهو المراد هنا.
وهذا النوع من الصلح ينقسم إلى قسمين:
الأول: صلح عن إقرار.
والثاني: صلح عن إنكار.
1والصلح عن الإقرار نوعان:
نوع يقع على جنس الحق، ونوع يقع على غير جنسه.
فالذي يقع على جنسه مثل ما إذا أقر له بدين معلوم أو بعين مالية في يده، فصالحه على أخذ بعض الدين وإسقاط بقيته، أو على هبة بعض العين وأخذ البعض الآخر.
وهذا النوع من الصلح يصح إذا لم يكن مشروطا في الإقرار، كأن يقول من عليه الحق: أقر لك بشرط أن تعطيني أو تعوضني كذا، أو يقول صاحب الحق: أبرأتك أو وهبتك بشرط أن تعطيني كذا، فإن هذا الصلح مشروطا على نحو ما ذكرنا؛ لم لأن صاحب الحق له المطالبة بجميع الحق.
ويشترط لصحة هذا النوع من الصلح أيضا: أن لا يمنعه حقه بدونه؛ لأن ذلك أكل لمال الغير بالباطل، وهو محرم، ولأن من عليه الحق يجب دفعه لصاحبه بدون قيد ولا شرط.
ويشترط أيضا لهذا النوع من الصلح: أن يكون صاحب الحق ممن يصح تبرعه، فإن كان ممن لا يصح تبرعه؛ لم يصح؛ كما لو كان
وليا لمال يتيم أو مجنون؛ لأن هذا تبرع، وهو لا يملكه.
والحاصل؛ أنه يجوز المصالحة عن الحق الثابت بشيء من جنسه، شريطة أن لا يمتنع من عليه الحق من أدائه بدون هذا الصلح، وشريطة أن يكون صاحب الحق ممن يصح تبرعه، فإذا توفر ذلك؛ جازت هذه المصالحة؛ لأنها تكون حينئذ من باب التبرع، والإنسان لا يمنع من إسقاط بعض حقه؛ كما لا يمنع من استيفائه كله، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كَلَّمَ غرماء جابر رضي الله عنه ليضعوا عنه.
النوع الثاني من نوعي الصلح عن الإقرار: أن يصالح عن الحق بغير جنسه؛ كما لو اعترف له بدين أو عين، ثم تصالحا على أن يأخذ عن ذلك عوضا من غير جنسه، فإن صالحه عن نقد بنقد آخر من جنسه؛ فهذا صرف تجري عليه أحكام الصرف، وإن صالح عن النقد بغير نقد؛ اعتبر ذلك بيعا تجري عليه أحكام البيع، وإن صالح عنه بمنفعة كسكنى داره؛ اعتبر ذلك إجارة تجري عليها أحكام الأجرة، وإن صالحه عن غير النقد بمال آخر؛ فهو بيع.
2 الصلح عن إنكار، ومعناه: أن يدعي شخص على آخر بعين
له عنده، أو بدين في ذمته له، فيسكت المدعى عليه وهو يجهل المدعى به، ثم يصالح المدعى عن دعواه بمال حال أو مؤجل، فيصح في هذه الحالة في قول أكثر أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"الصلح جائز بين المسلمين؛ إلا صلحا حرم حلالاً، أو أحل حراما"، رواه أبو داود والترمذي وقال:"حسن صحيح"، وصححه الحاكم.
وقد كتب بهذا الحديث عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما، فصلح الاحتجاج به لهذه الاعتبارات.
وفائدة هذا النوع من الصلح للمدعى عليه: أنه يفتدي به نفسه من الدعوى واليمين، وفائدته للمدعي إراحته من تكليف إقامة البينة وتفادي تأخير حقه الذي يدعيه.
والصلح عن الإنكار يكون في حق حكم البيع؛ لأنه يعتقدة عوضا عن ماله، فلزمه حكم اعتقاده، فكأن المدعي عليه اشتراه منه، فتدخله أحكام البيع من جهته؛ كالرد بالعيب، والأخذ بالشفعة إذا كان مما تدخله الشفعة.
وحكم هذا الصلح في حق المدعي عليه: أنه إبراء عن الدعوى؛ لأنه دفع المال افتداء ليمينه وإزالة للضرر عنه وقطعا للخصومة وصيانة لنفسه عن التبذل والمخاصمات؛ لأن ذوي النفوس الشريفة يأنفون من ذلك،
ويصعب عليهم، فيدفعون المال للإبراء من ذلك، فلو وجد فيما صالح به عيبا؛ لم يستحق رده به، ولا يؤخذ بالشفعة؛ لأنه لا يعتقده عوضا عن شيء، وإن كذب أحد المتصالحين في الصلح عن الإنكار؛ كأن يكذب المدعي، فيدعي شيئا يعلم أنه ليس له، أو يكذب المنكر في إنكاره ما ادعي به عليه، وهو يعلم أنه عليه، ويعلم بكذب المنكر في إنكاره، إذا حصل شيء من هذا الكذب من جانب المدعي أو المنكر؛ فالصلح باطل في حق الكاذب منهما باطنا؛ لأنه عالم بالحق، قادر على إيصاله لمستحقه، وغير معتقد أنه محق في تصرفه؛ فما أخذه بموجب هذا الصلح حرام عليه؛ لأنه أخذه ظلما وعدمانا، لا عوضا عن حق يعلمه، وقد قال الله تعالى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، وإن كان هذا الصلح فيما يظهر للناس صحيح؛ لأنهم لا يعلمون باطن الحال، ولكن ذلك لا يغير من الحقيقة شيئا عند من لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ فعلى المسلم أن يبتعد عن مثل هذا التصرف السيئ والاحتيال الباطل.
ومن مسائل الصلح عن الإنكار: أنه صالح عن المنكر أجنبي بغير أذنه؛ صح الصلح في ذلك؛ لأن الأجنبي يقصد بذلك إبراء المدعي عليه وقطع الخصومة عنه؛ فهو كما لو عنه دينه، لكن لا يطالبه بشيء مما دفع؛ لأنه لا يستحق الرجوع عليه به؛ لأنه متبرع.
ويصح الصلح عن الحق المجهول، سواء كان لكل منهما على الآخر أو كان لأحدهما، إذا كان هذا المجهول يتعذر علمه؛ كحساب
بينهما مضى عليه زمن طويل، ولا علم لكل منهما عما عليه لصاحبه؛ لقول صلى الله عليه وسلم لرجلين اختصما في مواريث درست بينهما:"استهما، وتواخيا الحق، وليحلل أحدكما صاحبه"، رواه أبو داود وغيره.
ولأنه إسقاط حق، فصح في المجهول للحاجة، ولئلا يفضي إلى ضياع المال أو بقاء شغل الذمة، وأمره صلى الله عليه وسلم بتحليل كل منهما لصاحبه يدل على أخذ الحيطة لبراءة الذمة وعلى عظم حق المخلوق.
ويصح الصلح عن القصاص بالدية المحددة شرعا أو قل أو كثر، ولأن المال غير متعين؛ فلا يقع العوض في مقابلته.
ولا يصح الصلح عن الحدود؛ لأنها شرعت للزجر، ولأنها حق لله تعالى وحق للمجتمع؛ فالصلح عنها يبطلها، ويحرم المجتمع من فائدتها، ويفسح المجال للمفسدين والعابثين.