الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في أحكام القسامة
القسامة لغة: اسم مصدر، من قولهم: أقسم إقساما وقسامة؛ أي: حلف حلفا، والمراد بها هنا الأيمان؛ أي: أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم.
وتشرع القسامة في القتيل إذا وجد ولم يعلم قاتله واتهم به شخص.
والدليل عليها السنة والإجماع.
ففي "الصحيحين" عن سهل بن أبي حثمة؛ أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه، فأتى يهود، فقال: أنتم قتلتموه. فقالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ". وفي رواية: "تأتون بالبينة؟ ". قالوا: ما لنا بينة. فقال: "أتحلفون؟ ". قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟! فقال: "تبرئكم يهود بخمسين يمينا". فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟، فوداه بمئة من الإبل.
فدل ذلك على مشروعية القسامة، وأنها أصل من أصول الشرع، مستقل بنفسه، وقاعدة من قواعد الأحكام، فتخصص بها الأدلة العامة.
وأما شروط القسامة:
فمن أهمها: وجود اللوث، وهو العداوة الظاهرة بين القتيل والمتهم بقتله؛ كالقبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله من أجله؛ فللأولياء حينئذ أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله، وإن كانوا غائبين.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن اللوث لا يختص بالعدواة، بل يتناول كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى؛ كتفرق جماعة عن قتيل، وشهادة من لا يثنب القتل بشهادتهم
…
ونحو ذلك.
قال أحمد: "أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان قم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا كان مثل المدعى عليه يفعل مثل هذا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على ذلك: "فذكر أمورًا أربعة: اللطخ: وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة، والسبب البين كالتفرق عن قتيل، والعداوة، وكون المطلوب من المعروفين بالقتل، وهذا هو الصواب".
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وهذا من أحسن الاستشهاد؛ فإنه اعتماد على ظاهر الأمارات المغلبة على الظن صدق المدعى، فيجوز له أن
يحلف بناء على ذلك، ويجوز للحاكم بل يجب عليه أن يثبت له حق القصاص أو الدية، ومع علمه أنه لم ير ولم يشهد
…
" انتهى.
لكن لا ينبغي للأولياء أن يحلفوا إلا بعد الاستيثاق من غلبة الظن، وينبغي للحاكم أن يعظم ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة من العقوبة.
ومن شروط القسامة: أن يكون المدعى عليه القتل فيها مكلفا؛ فلا يصح الدعوى فيها على صغير ول مجنون.
ومن شروطها: إمكان القتل من المدعى عليه، فإن لم يمكن منه القتل؛ لعبده عن مكان الحادث وقت وقوعه؛ لم تسمع الدعوى عليه.
وصفة القسمة: أنها إذا توفرت شروط إقامتها؛ يبدأ بالمدعين، فيحلفون خمسين يمينا توزع عليهم على قدر إرثهم من القتيل: أن فلانا هو الذي قتله، ويكون ذلك بحضور المدعى عليه. فإن أبى الورثة أن يحلفوا، أو امتنعوا من تكميل الخمسين يمينا؛ فإنه يحلف المدعى عليه خمسين يمينا إذا رضي المدعون بأيمانه، فإذا حلف برئ، وإن لم يرض المدعون بتحليف المدعى عليه؛ فدى الإمام القتيل من بيت المال؛ لأن الأنصار لما امتنعوا من قبول أيمان اليهود؛ فدى النبي صلى الله عليه وسلم القتيل من بيت المال، ولأنه يبق سيبل لإثبات الدم على المدعى عليه، فوجب الغرم من بيت المال؛ لئلا يضيع دم المعموم هدرًا بلا مبرر لإهداره.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك يثبت في القسامة إذا توفرت شروطها وحلف أولياء القتيل خمسين يمينا، والصحيح أنها إذا توفرت شروط القصاص بعد توفر شروط القسامة وتمامها إنما يثبت بها القصاص على المدعى عليه؛ لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "يحلف خمسون منكم على رجل
منهم، فيدفع إليكم برمته"، وفي لفظ لمسلم: "ويسلم إليكم"، فتقوم القسامة مقام البينة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله عن ثبوت الحكم بالقسامة: "وليس إعطاء بمجرد الدعوى، وإنما هو بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقه، فوق تغليب الشاهدين، وهو اللوث والعداوة الظاهرة والقرينة الظاهرة؛ فقوى الشارع هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء المقتول الذين يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولو يعطى أناس بدعواهم" لا يعارض القسامة بوجه؛ فإنما نفى الإعطاء بدعوى مجردة
…
" انتهى.
قال الفقهاء رحمهم الله: ومن مات في زحمة جمعة أو طواف؛ فإنه تدفع ديته من بيت المال؛ لما روي عن عمر وعلي: "أنه قتل رجل في زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر، فقال: بينتكم على قاتله. فقال علي: يا أمير المؤمنين! لا يطل دم امرئ مسلم، إن علمت قاتله، وإلا فأعط ديته من بيت المال"