الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في حد السرقة
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً".
وأجمع المسلمون على وجوب قطع يد السارق في الجملة.
والسارق عنصر فاسد في المجتمع، إذا ترك؛ سرى فساده في جسم الأمة؛ فلا بد من حسمه بتطبيق الحد المناسب لردعه، ومن ثم شرع الله سبحانه وتعالى قطع يده، تلك اليد الظالمة التي امتدت إلى ما لا يجوز لها الامتداد إليه، تلك اليد التي تهدم ولا تبني، تأخذ ولا تعطي.
والسرقة هي: أخذ مال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه، إذا كان هذا الآخذ ملتزما لأحكام الإسلام، وكان المال المأخوذ بلغ النصاب، وقد أخذه من حرز مثله، وكان مالك المال المأخوذ معصوما، ولا شبهة للآخذ منه.
فلا بد أن يستجمع السارق والمسروق منه والمال المسروق
وكيفية السرقة أوصافا محددة تضمنها هذا التعريف متى اختل وصف منها؛ انتفى القطع، وهذه الأوصاف هي:
أن يكون الأخذ على وجه الخفية، فإن لم يكن على وجه الخفية؛ فلا قطع؛ كما لو انتهب المال على وجه الغلبة والقهر على مرأى من الناس، أو اغتصبه؛ لأن صاحب المال حينئذ يمكنه طلب النجدة والأخذ على يد الغاشم والغاصب.
قال الإمام ابن القيم: "إنما قطع السارق دون المنتهب والمغتصب؛ لأنه لا يمكن التحرز منه؛ فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز ويكسر القفل، فلو لم يشرع قطعه؛ لشرق الناس بعضهم بعضا، وعظم الضرر، واشتدت المحنة" انتهى.
وقال صاحب "الإفصاح": "اتفقوا على أن المختلس والمنتهب والغاصب على عظم جنايتهم وآثامهم لا قطع على واحد منهم، ويسوع كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة الرادعة".
ومن الأوصاف التي توجب القطع في السرقة: أن يكون المسروق مالاً محترما؛ لأن ما ليس بمال لا حرمة له؛ كآلة اللهو والخمر والخنزير والميتة، وما كان مالاً، لكنه غير محترم، لكون مالكه كافرًا حربيا؛ فلا قطع فيه؛ لأن الكافر الحربي حلال الدم والمال.
ومن الأوصاف التي يجب توافرها في القطع في السرقة: أن يكون
المسروق نصابا، وهو ثلاثة دراهم إسلامية، أو أربع دينار إسلامي، أو ما يقابل أحدهما من النقود الأخرى، أو أقيام العروض المسروقة في كل زمان بحسبه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقطع اليد إلا في ربع دينا فصاعدا"، رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم.
وفي تخصيص القطع بهذا القدر حكمة ظاهرة؛ فإن هذا القدر يكفي المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالبا؛ فانظر كيف تقطع اليد في سرقة ربع دينار مع أن ديتها لو جنى عليها خمس مئة دينار؛ لأنها لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت، ولهذا لما اعترض بعض الملاحدة وهو المعري بقوله:
يدُ بخمس مئين عسجد وُدِيَت
…
ما بالُها قُطعت في رُبُع دينار
أجابه بعض العلماء بقوله:
عزُ الأمانة أغلاها وأرخصها......ذُلَّ الخيانةُ فافهم حكمة الباري
ومن الأوصاف التي يجب توافرها للقطع في السرقة: أن يأخذ المسروق من حرزه، وحرز المال: ما العادة حفظه فيه؛ لأن الحرز معناه الحفظ، والحرز يختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه؛ فالأموال الثمينة حرزها في الدور والدكاكين والأبنية الحصينة وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة، وما دون ذلك حرزن بحسبه على
عادة البلد، فإن سرقه من غير حرز، كما لو وجد بابا مفتوحا، أو حرزًا معتوكا، فأخذه منه؛ فلا قطع عليه
ولا بد أن تنتفي الشبهة عن السارق فيما أخذ، فإن كان له شبهة يظنها تسوِّغ له الأخذ؛ لم يقطع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم"؛ فلا قطع عليه بسرقته من مال أبيه ولا بسرقته من مال ولده؛ لأن نفقة كل منهما تجب من مال الآخر، وذلك شبهة تدرأ عنه الحد، وهكذا كل من له استحقاق في مال؛ فأخذ منه؛ فلا قطع عليه، لكن يحرم عليه هذا الفعل، ويؤدب عليه، ويرد ما أخذ.
ولا بد من توافر ما سبق من الصفات من ثبوت السرقة: إما بشهادة عدلين يصفان كيفية السرقة وحرزها وقدر المسروق وجنسه؛ لتزول الاحتمالات والشبهات، وإما بإقرار السارق مرتين على نفسه بالسرقة؛ لما روى أبو داود؛ أنه صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف، فقال له:"ما أخالك سرقت" قال: بلى. فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا؛؛ فأمر به، فقطع.
ولا بد في إقراره أن يصف السرقة؛ ليندفع احتمال أنه يظن القطع فيما لا قطع فيه، وليعلم توافر شروط أو عدم توافرها.
ولا بد أن يطالب المسروق منه بماله، فلو لم يطالب؛ لم يجب القطع لأن المال يباح بإباحة صاحبه وبذله له، فإذا لم يطالب؛ احتمل أنه سمح به له، وذلك شبهة تدرأ الحد.
وإذا وجب القطع لتكامل شروطه؛ قطعت يده اليمنى؛ لقراءة ابن مسعود في قوله تعالى: {فاقطعوا أيمانهما} ، ومحل القطع من مفصل الكف؛ لأن اليد آلة السرقة، فعوقب بإعدام آلتها، واقتصر القطع على الكف؛ لأن اليد إذا أطلقت؛ انصرفت إليه، وبعد قطعها يعمل لها ما يحسم الدم ويندمل به الجرح من أنواع العلاج المناسبة في كل زمان بحسبه.