الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في أحكام الإجارة
هذا العقد يتكرر في حياة الناس في مختلف مصالحهم وتعاملهم اليومي والشهري والسنوين فهو جدير بالتعرف على أحكام؛ إذ ما من تعامل يجري بين الناس في مختلف الأمكنة والأزمان؛ إلا وهو محكوم بشرعية الإسلام وفق ضوابط شرعية ترعى المصالح وترفع المضار.
والإجارة مشتقة من الأجر، وهو العوض، قال تعالى:{َوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} .
وهي شرعا: عقد على منفعة مباحة من عين معينة أو موصوفة الذمة مدة معلومة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم.
وهذا التعريف مشتمل على غالب شروط صحة الإجارة وأنواعها:
فقولهم: "عقد على منفعة": يخرج به العقد على الرقبة؛ فلا يسمى إجارة، وإنما يسمى بيعا.
وقولهم: "مباحة": يخرج به العقد على المنفعة المحرمة؛ كالزنى.
وقولهم: "معلومة": يخرج به المنفعة المجهولة؛ فلا يصح العقد عليها.
وقولهم: " من عين معينة أو موصوفة في الذمة، أو عمل معلومة": يؤخذ منه أن الإجارة على نوعين:
النوع الأول: أن يكون الإجارة على منفعة عين معينة أو عين موصوفة.
مثال المعينة: آجرتك هذه الدار. ومثال الوصوفة: آجرتك بعيرًا صفته كذا للحمل أو الركوب.
النوع الثاني: أن يكون الإجارة على أداء عمل معلوم؛ كأن يحمله إلى موضع كذا، أو يبني له جدارًا.
قولهم: "مدة معلومة"؛ أي: يشترط أن يكون الإجارة على المنفعة لمدة محدودة؛ كيوم أو شهر.
وقولهم: "بعوض معلوم"؛ معناه: أنه لا بد أن يكون مقدار الإجارة معلوما.
وبهذا يتضح أن مجمل شروط صحة الإجارة بنوعها: أن يكون عقد الإجارة على المنفعة لا على العين، وأن تكون المنفعة مباحة، وأن تكون معلوم، وإذا كانت الإجارة على عين غير معينة؛ فلابد أن تكون مما ينضبط بالوصف، وأن تكون مدة الإجارة معلومة، وأن يكون العوض في الإجارة معلوما أيضا.
والإجارة الصحيحة جائزة في الكتاب والسنة والإجماع:
قال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، وقال تعالى:{َوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} .
وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدله الطريق في سفره للهجرة.
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على جوازها.
والحاجة تدعو إليها؛ لأن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان.
ويصح استئجار الآدمي لعمل معلوم؛ خياطة ثوب، وبناء جدار، أو ليدله على طريق؛ كما ثبت في "صحيح البخاري" عن عائشة رضي الله عنها في حديث الهجرة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر هو وأبو بكر رضي الله عنه عبد الله ابن أريقط الليثي، وكان هاديا خرٍّيتا"، والخريت هو الماهر بالدلالة.
ولا يجوز تأجير الدور والدكاكين والمحت للمعاصي؛ كبيع الخمر، وبيع المواد المحرمة؛ كبيع الدخان والتصوير؛ لأن ذلك إعانة على المعصية.
ويجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره لآخر يقوم مقامه في استيفاء المنفعة؛ لأنها مملوكة له، فجاز له أن يستوفيها بنفسه وبنائبه، لكن بشرط أن يكون المستأجر الثاني مثل المستأجر الأول في استيفاء المنفعة أو دونه، لا أكثر منه شررًا؛ كما لو استأجر دارًا للسكنى؛ جاز أن يؤجرها لغيره للسكنى أو دونها، ولا يجوز أن يؤجرها لمن يجعل فيها مصنعا أو معملاً.
لا تصح الإجارة على أعمال العبادة والقربة، كالحج، والأذان؛
لأن هذه الأعمال يتقرب بها إلى الله، وأخذ الأجرة عليها يخرجها عن ذلك ويجوز أخذ رزق من بيت المال على الأعمال التي يتعدى نفعها؛ كالحج والأذان والإمامة وتعليم القرآن والفقه والقضاء والفتيا؛ لأن ذلك ليس معاوضة، وإنما هو إعانة الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة، ولا يخل بالإخلاص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والفقهاء متفقون على الفرق بين الاستئجار على القرب وربين رزق أهلها؛ فرزق المقاتلة والقضاة والمؤذنين والأئمة جائز بلا نزاع، وأما الاستئجار؛ فلا يجوز عند أكثرهم".
وقال أيضا: "وما يؤخذ من بيت المال؛ فليس عوضا وأجرة، بل رزقا للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله؛ أثيب، وما يأخذه رزق للإعانة على الطاعة".
ما يلزم كلاً من المؤجر والمستأجر:
فيلزم المؤجر بذل كل ما يتمكن به المستأجر من الانتفاع بالمؤجَّر؛ كإصلاح السيارة المؤجرة وتهيئتها للحمل والسير، وعمارة الدار المؤجرة وإصلاح ما فسد من عمارتها وتهيئة مرافقها للانتفاع.
وعلى المستأجر عندما ينتهي أن يزيل ما حصل بفعله.
والإجارة عقد لازم من الطرفين أالمؤجر والمستأجر لأنها
نوع من البيع، فأعطيت حكمه، فليس لأحد الطرفين فسخها إلا برضى الآخر؛ إلا إذا ظهر عيب لم يعلم به المستأجر حال العقد؛ فله الفسخ.
ويلزم المؤجٍّر أن يسلم العين المؤجرة للمستأجر، ويمكَّنه من الانتفاع بها، فإن أجَّره شيئا ومنعه من الانتفاع به كل المدة أو بعضها؛ فلا شيء له من الأجرة، أو لا يستحقها كاملة؛ لأنه لم يسلم له ما تناوله عقد الإجارة، لم يستحق شيئا، وإذا مكن المستأجر من الانتفاع، لكنه تركه كل المدة أو بعضها؛ فعليه جميع الأجرة؛ لأن الإجارة عقد لازم، فيترتب مقتضاها، وهو ملك المؤجر الأجر وملك المستأجر المنافع.
وينفسخ عقد الإجارة بأمور:
أولاً: إذا تلفت العين المؤجرة: كما لو أجره دوابه فماتت، أو استأجر دارًا فانهدمت، أو أكترى أرضا لزرع فانقطع ماؤها.
ثانيا: وتنفسخ الإجارة أيضا بزوال الغرض الذي عقدت من أجله؛ كما لو استأجر طبيبا ليداويه فبرئ؛ لتعذر استيفاء المعقود عليه.
ومن استؤجر لعمل شيء فمرض؛ أقيم مقامه من ماله من يعمله نيابة عنه؛ إلا إذا اشترط مباشرته العمل بنفسه؛ لأن المقصود قد لا يحصل بعلم غيره؛ فلا يلزم حينئذ المستأجر قبول عمل غيره، لكن بخير حينئذ المستأجر بين الصبر والانتظار حتى يبرأ الأجبر وبين الفسخ لتعذر وصوله إلى حقه.
والأجير على قسمين:
خاص ومشترك، فالأجير الخاص هو: من
استؤجر مدة معلومة يستحق نفعه في جمعها لا يشاركه فيها أحد. والمشترك هو: من قد نفعه بالعمل ولا يختص به واحد بل يتقبل أعمالاً لجماعة في وقت واحد.
فالأجير الخاص لا يضمن ما جنت يده خطأ؛ كما لو انكسرت الآلة التي يعمل بها؛ لأنه نائب عن المالك، لم يضمن؛ كالوكيل، وإن تعدى أو فرط؛ ضمن ما تلف.
أما الأجير المشترك؛ فإنه يضمن ما تلف بفعله؛ لأنه لا يستحق إلا بالعمل؛ فعمله مضمون عليه، وما تولد عن المضمون فهو مضمون.
وتجب أجرة الأجير بالعقد، ولا يملك المطالبة بها إلا بعدما يسلم العمل الذي في ذمته، أو استيفاء المنفعة، أو تسليم العين المؤجرة ومضي المدة مع عدم المانع؛ لأن الأجير إنما يوفي أجره إذا قضى عمله أم ما في حكمه، ولأن الأجرة عوض؛ فلا تستحق إلا بتسلم المعوض.
هذا، ويجب على الأجير إتقان العمل وإتمامه، ويحرم عليه الغش في العمل والخيانة فيه، كما علي أيضا مواصلة العمل في المدة التي استؤجر فيها، ولا يفوت شيئا منها بغير عمل، وأن يتقي الله أداء ما عليه.
ويجب على المستأجر إعطاء أجرته كاملة عندما ينهي عمله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه".
وعن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا، فاستوفى منه العمل، ولم يعطه أجره"، رواه البخاري وغيره.
فعمل الأجير أمانة في ذمته، يجب عليه مراعاتها بإتقان العمل وإتمامه والنصح فيه، وأجر الأجير دين في ذمة المستأجر، وحق واجب عليه، يجب عليه أداؤه من غير مماطلة ولا نقص. والله تعالي أعلم