الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في ميراث الحمل
قد يكون من جملة الورثة حمل، ومعلوم حينئذ ما يحصل من الإشكال الناشىء عن جهالة الحالة التي يكون عليها من حياة أو موت وتعدد وانفراد وأنوثة وذكورة، والحكم يختلف غالبا باختلاف تلك الاحتمالات، من هنا اهتم العلماء رحمهم الله بشأنه، فعقدوا له بابا خاصا في كتب المواريث.
والحمل ما يحمل في البطن من الولد، والمراد به هنا ما في بطن الآدمية إذا توفى المورث وهي حامل به، وكان يرث أو يحجب بكل تقدير، أو يرث أو يحجب في بعض التقادير، إذا انفصل حيّا.
والحمل الذي يرث بالإجماع هو الذي يتحقق فيه شرطان
الشرط الأول: وجوده في الرحم حين موت المورث، ولو نطفة
الشرط الثاني: انفصاله حيّا حياة مستقرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استهل المولود؛ ورث"، رواه أبو داود، ونقل عن ابن حبان تصحيحه،
ومعنى استهلال المولود بكاؤه عند ولادته برفع صوته، وقيل: معنى الاستهلال أن يوجد منه دليل الحياة من بكاء أو عطاس أو حركة، ولا يختص بالبكاء؛ فالاستهلال بعد الولادة دليل على انفصاله حيّا حياة مستقرة، وبه يتحقق الشرط الثاني.
أما الشرط الأول وهو وجوده في الرحم حين موت المورث؛ فيستدل على تحققه بأن تلده في المدة المحددة للحمل، ولها أقل ولها أكثر بحسب الأحوال، وذلك أن للحمل المولود بعد وفاة المورث ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تلده حيّا قبل مضي زمن أقل مدة الحمل من موت المورث؛ ففي هذه الحالة يرث مطلقا؛ لأن حياته بعد الولادة في هذه المدة دليل على انه كان موجودًا قبل موت المورث، وأقل مدة الحمل ستة أشهر بإجماع العلماء؛ لقوله تعالى:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} ، مع قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن} ، فإذا طرح الحولان وهما أربعة وعشرون شهرًا من ثلاثين شهرًا؛ بقى ستة أشهر، وهي أقل مدة الحمل.
الحالة الثانية: أن تلده بعد مضي زمن أكثر مدة الحمل من موت المورث؛ ففي هذه الحالة لا يرث؛ لأن ولادته بعد هذه المدة تدل على حدوثه بعد موت المورث.
واختلف العلماء في تحديد أكثر مدة الحمل على ثلاثة أقوال:
الأول: أن أكثر مدة الحمل سنتان؛ لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "لا يبقى الود في بطن أمه أكثر من سنتين"، ومثل هذا لا مجال للاجتهاد فيه؛ فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
الثاني: أن أكثر مدة الحمل أربع سنين؛ لأن ما لا نص فيه يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد بقاء الحمل في بطن أمه إلى أربع سنين.
الثالث: أن أكثر مدة الحمل سنين.
وأرجح الأقوال والله أعلم أن أكثر مدة الحمل أربع سنين؛ لأنه لم يثبت بالتحديد دليل، فيرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد أربع سنين، والله أعلم.
الحالة الثالثة: أن تلده فيما فوق الحد الأدنى لمدة الحمل ودون الحد الأعلى لها؛ ففي هذه الحالة: إن كانت تحت زوج أو سيد يطؤها في هذه المدة؛ فإن الحمل لا يرث من الميت؛ لأنه غير متحقق الوجود حين موت المورث؛ لاحتمال أن يكون من وطء حادث بعد موت المورث، وإن كانت لا توطأ في هذه المدة لعدم الزوج أو السيد أو غيبتهما أو تركهما الوطء عجزًا أو امتناعا؛ فإن الحمل يرث؛ لأنه متحقق الوجود.
هذا وقد اتفق العلماء على أن المولود إذا استهل بعد ولادته؛ فقد تحققت ولادته حيّا حياة مستقرة، واختلفوا فيما سوى الاستهلال؛ كالحركة والرضاع والتنفس؛ فمن العلماء من يقتصر على الاستهلال ولا
يلحق به غيره من هذه الأمور، ومنهم من يعمم فيلحق بالاستهلال كل ما دل على حياة المولود، وهذا هو الأرجح؛ لأن الاستهلال لا يقتصر تفسيره على الصراخ فقط، بل يشمل الحركة ونحوها عند بعض العلماء، وحتى لو اقتصر تفسير الاستهلال على الصوت والصراخ؛ فإن ذلك لا يمنع الاستدلال بالعلامات الأخرى. والله أعلم.
كيفي توريث الحمل
إذا كان في الورثة حمل، وطلبوا القسمة قبل وضعه ومعرفة حالته من حيث الإرث وعدمه؛ فالذي ينبغي في هذه الحالة الانتظار حتى يعرف مصير الحمل، خروجا من الخلاف، ولتكون القسمة مرة واحدة.
فإن لم يرض الورثة بالتأخير والانتظار إلى وضع الحمل؛ فهل يمكَّنون من القسمة؟، اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك على قولين:
القول الأول: أنهم لا يمكَّنون وذلك؛ لشك في شأن الحمل، وجهالة حالته وتعدد الاحتمالات في شأنه تعددًا يترتب عليه اختلاف كبير في مقدار إرثه وإرث من معه.
القول الثاني: أن الورثة يمكنون من طلبهم، ولا يجبرون على الانتظار؛ لأن فيه إضرارًا بهم؛ إذ ربما يكون بعضهم فقراء، ومدة الحمل قد تطول، والحمل يحتاط له، فيوقف له ما يضمن سلامة نصيبه؛ فلا داعي لتأخير.
وهذا هو القول الراجح فيما يظهر، لكن اختلف أصحاب هذا القول في المقدار الذي يوقف له؛ لأن الحمل في البطن لا يعلم حقيقته إلا الله،
تتجاذبه احتمالات كثيرة؛ من حياته وموته، وتعدده وانفراده، وذكوريته وأنوثيته، ولا شك أن هذه الاحتمالات المتعددة تؤثر على مقدار إرثه وإرث من معه؛ لذلك اختلفوا في المقدار الذي يوقف للحمل على أقوال:
القول الأول: أنه لا ضبط لعدد الحمل؛ لأنه لا يعلم أكثر عدد ما تحمل به المرأة من الأجنة، لكن ينظر في حالة الورثة الذين يرثون مع الحمل؛ فمن يرث في بعض التقادير دون بعض، أو كان نصيبه غير مقدر؛ كالعاصب؛ فهذا لا يعطى شيئا، ومن يرث في جميع التقادير متفاضلاً؛ فإنه يعطى الأنقص، ومن لا يختلف نصيبه في جميع التقادير؛ فإنه يعطى نصيبه كاملاً، ثم يوقف الباقي بعد هذه الاعتبارات؛ إلا أن ينكشف أمر الحمل.
والقول الثاني: أنه يعامل الحمل بالأحظ، ويعامل الورثة مع بالأضر، فيوقف للحمل الأكثر من ميراث ذكرين أو أنثيين، ويعطى الوارث معه اليقين من تصيبه، فإذا ولد الحمل، وتبين أمره؛ أخذ من الموقوف ما يستحقه ورد الباقي إن كان أكثر من نصيبه أو أخذه كاملاً إن كان قدر نصبيه، وإن كان أنقص من نصيبه؛ رجع على الورثة بما نقص.
القول الثالث: أنه يوقف للحمل حظ ابن واحد أو بنت واحدة أيهما أكثر؛ لأن الغالب المعتاد أن لا تلد الأنثى أكثر من واحد في بطن واحد، فينبني الحكم على الغالب، ويأخذ القاضي من الورثة كفيلاً بالزيادة على نصيب الواحد؛ لأن الحمل عاجز عن النظر لنفسه، فينظر له القاضي احتياطا.
والراجح من هذه الأقوال ما كان فيه الاحتياط أكثر، وهو القول الثاني؛ لأن ولادة الاثنين في بطن واحد كثيرة الوقوع، وما زاد على الاثنين نادر، وأخذ الكفيل كما في القول الثالث قد يتعذر، وحتى
لو وجد الكفيل؛ فقد يعتريه ما يعتريه، فيعجز عن التحمل، فيضيع حق الحمل إذا تبين أكثر من واحد.
فعلى القول المرجح يجعل للحمل ستة تقادير؛ لأنه إما أن ينفصل حيّا حياة مستقرة، وإما ينفصل ميتا، وإذا انفصل حيّا حياة مستقرة، فإما أن يكون ذكرًا فقط أو أنثى فقط، أو ذكرًا وأنثى، أو ذكرين، أو أنثيين؛ فهذه ستة مقادير، يجعل لكل تقدير مسألة، وتُجرى عليها العملية الحسابية، وينظر في أحوال الورثة: فمن كان يرث في جميع المسائل متساويا؛ أعطيته نصيبه كاملاً، ومن كان يرث فيها متفاضلاً؛ أعطيته الأنقص، ومن كان يرث في بعضها دون بعض؛ لم تعطه شيئا ويوقف الباقي إلى أن يتضح حال الحمل كما سبق، والله أعلم.