الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في أحكام الوصايا
الوصية لغة: مأخوذة من وصيت الشيء إذا وصلته، سميت بذلك لأنها وصل لها كان في الحياة بما بعد الموت؛ لأن الموصي بعض التصرف الجائز في حياته ليستمر بعد موته.
والوصية في اصطلاح الفقهاء: هي الأمر بالتصرف بعد الموت، أو بعبارة أخرى: هي التبرع بالمال بعد الموت.
والدليل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} .
وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم".
وأجمع العلماء على جوازها.
والوصية تارة تكون واجبة وتارة مستحبة:
فتجب الوصية بما وما عليه من الحقوق التي ليس فيها إثبات لئلا تضيع، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين؛ إلا ووصيته مكتوبة عنده"، فإذا كان عنده ودائع للناس أو في ذمته حقوق لهم؛ وجب عليه أن يكتبها ويبينها.
تكون الوصية مستحبة بأن يوصي بشيء من ماله في سبل البر والإحسان ليصل إليه ثوابه بعد وفاته؛ فقد أذن له الشارع بالتصرف عند الموت بثلث المال، وهذا من لطف الله بعباده؛ لتكثير الأعمال الصالحة لهم.
وتصح الوصية حتى من الصبي العاقل كما تصح منه الصلاة، وثبت بالإشهاد وبالكتابة المعروفة بخط الموصي.
ومن أحكام الوصية: أنها تجوز بحدود ثلث المال فأقل، وبعض العلماء يستحب أن لا تبلغ الثلث؛ فقد ورد عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم:
فقد قال أبو بكر رضي الله عنه: "رضيت بما رضي الله به لنفسه"، يعني: في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} .
وقال علي رضي الله عنه: " لأن أوصى بالخمس أحب إلى من أوصي بالربع".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث، والثلث كثير".
ولا يجوز الوصية بأكثر من الثلث لمن له وارث؛ إلا بإجازة الورثة؛ لأن ما زاد على ثلث حق لهم، فإذا أجازوا الزيادة عليه؛ صح ذلك، وتعتبر إجازتهم لها بعد الموت.
ومن أحكام الوصايا أنها لا تصح لأحد من الورثة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث"، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وله شواهد، وقال الشيخ تقي الدين:"اتفقت الأمة عليه".
وذكر الشافعي أنه متواتر، فقال:"وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث"، ويأثرونه عمن لقوه من أهل العلم؛ إلا إذا أجاز الورثة الوصية للوارث؛ فإنما تصح؛ لأن الحق لهم، وتعتبر صحة إجازتهم الوصية بالزيادة على الثلث لغير الوارث وإجازتهم الوصية للوارث إذا
كانت الإجازة صادرة منهم في مرض موت الموصي أو بعد وفاته..".
ومن أحكام الوصية: أنها إنما تستحب في حق من له مال كثير ووارثه غير محتاج؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} ، والخير هو المال الكثير عرفا؛ فتكره وصية من ماله قليل ووارثه محتاج؛ لأنه يكون بذلك قد عدل عن أقاربه المحاويج إلى الأجانب، ولقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص:"ما من مال أعظم أجرًا من مال يتركه الرجل لولده ويغنيهم به عن الناس"، وقال علي لرجل:"إنما تركت شيئا يسيرًا؛ فدعه لورثتك"، وكان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يوصوا.
وإذا كان قصد المورث المُضارَّة بالوارث ومضايقته؛ فإن ذلك يحرم ويأثم به؛ لقوله تعالى: {غَيْرَ مُضَار} .
وفي الحديث: "إن الرجل ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره الموت، فيُضارُّ في الوصية، فتجب له النار"،وقال ابن عباس: "الإضرار في
الوصية من الكبائر".
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "قوله {غَيْرَ مُضَار} ؛ أي: يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار؛ كأن يقر بشيء ليس عليه، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الضرار بالورثة، أو يوصي لوارث مطلقا أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجزه الورثة، وهذا القيد أعني قوله: {غَيْرَ مُضَار} راجع إلى الوصية والدَّين المذكورين؛ فهو قيد لهما، فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته؛ فهو باطل مردود، لا ينفذ منه شيء، لا الثلث ولا دونه" انتهى كلام الشوكاني رحمه الله.
ومن أحكام الوصايا: جواز الوصية بكل المال لمن لا وارث له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"، وورد جواز ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه،
وقال به جمع من العلماء؛ لأن المنع من الوصية بما زاد عن الثلث لأجل حق الورثة، فإذا عدموا؛ زال المانع؛ لأنه لم يتعلق به حق وارث ولا غريم؛ فأشبه ما لو تصدق بماله في حال صحته.
قال الإمام ابن القيم: "الصحيح أن ذلك له؛ لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث إذا كان له ورثة، فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله.." انتهى كلام ابن القيم.
ومن أحكام الوصايا: أنه إذا لم يف ثلث مال الموصي بها، ولم تُجِز الورثة الزيادة على الثلث؛ فإن النقص يدخل على الجميع بالقسط فيتحاصَّون، ولا فرق بين متقدمها ومتأخرها؛ لأنها كلها تبرع بعد الموت، فوجبت دفعة واحدة، تساوى أصحابها في الأصل وتفاوتوا في المقدار، فوجبت المحُاصَّة؛ كمسائل العول في الفرائض إذا زادت على أصل المسألة.
مثال ذلك: أو أوصى لشخص بمئة ريال، ولآخر بمئة ريال، ولثالث بخمسين ريالاً، ولرابع بثلاثين ريالاً، وثلث ماله مئة ريال فقط، ومجموع الوصايا ثلاث مئة ريال، فإذا نسبت مبلغ الثلث إلى مبلغ مجموع الوصايا؛ بلغ ثلثه، فيعطي كل واحد ثلث ما أوصى له به فقط.
ومن أحكام الوصايا: أن الاعتبار بصحتها وعدم صحتها بحالة الموت، فلو أوصى لوارث، فصار عند الموت غير وارث؛ كأخ حجب بابن تجدَّد؛ صحت الوصية اعتبارًا بحال الموت؛ لأنه الحال الذي يحصل
به الانتقال إلى الوارث والموصى له، وبعكس ذلك، لو أوصى لغير وارث، فصار عند الموت وارثا؛ فإنها لا تصح الوصية؛ كما لو أوصى لأخيه مع وجود ابنه حال الوصية، ثم مات ابنه؛ فإنها تبطل الوصية إن لم تجزها الورثة؛ لأن أخاه صار عند الموت وارثا.
ويترتب على هذا الحكم أيضا أنه لا يصح قبول الوصية ولا يملك الموصى له العين الموصى بها إلا بعد موت الموصي؛ لأن ذلك وقت ثبوت حقه، ولا يصح القبول قبل موت الموصي.
قال الموفق: "لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن اعتبار الوصية بالموت، وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء كالمساكين أو من لا يمكن حصرهم كبني تميم أو على مصلحة كالمساجد؛ لم تفتقر إلى قبول، ولزمت بمجرد الموت، أما إذا كانت على معين؛ فإنها تلزم بالقبول بعد الموت".
ومن أحكام الوصية: أنه يجوز للموصي الرجوع فيها ونقضها أو الرجوع في بعضها؛ لقول عمر: "يغير الرجل ما شاء في وصيته"، وهذا متفق عليه بين أهل العلم، فإذا قال: رجعت في وصيتي، أو: أبطلتها.. ونحو ذلك؛ بطلت؛ لما سبق من أن الاعتبار بحالة موت الموصي من حيث القبول ولزوم الوصية؛ فكذلك للموصي أن يرجع عنها في حياته، فلو قال: إن أقدم زيد؛ فله ما وصيت به لعمرو.
فقدم زيد في حياة الموصي؛ فالوصية له، ويكون الموصي بذلك قد رجع عن الوصية لعمرو، وإن لم يقدم زيد إلا بعد وفاة الموصي؛ فالوصية لعمرو؛ لأنه لما مات الموصي قبل قدومه استقرت الوصية للأول وهو عمرو.
ومن أحكام الوصية: أنه يخرج الواجب في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية كالزكاة والحج والنذور والكفارات أولاً، وإن لم يوص به؛ لقوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .
ولقول علي رضي الله عنه: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية" رواه الترمذي وأحمد وغيره، فدل على تقديم الدين على الوصية، وفي "الصحيح":"اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء"، فيبدأ بالدين ثم الوصية، ثم الإرث؛ بالإجماع.
والحكمة في تقديم ذكر الوصية على الدين في الآية الكريمة، وإن كانت تتأخر عنه في التنفيذ: أنها لما أشبهت الميراث في كونها بلا عوض؛ كان في إخراجها مشقة على الوارث، فقدمت في الذكر؛ حثا على إخراجها، واهتماما بها، وجيء بكلمة "أو" التي للتسوية، فيستويان في الاهتمام، وإن كان الدين مقدما عليها.
ومن هنا؛ فإن أمر الوصية مهم، حيث نوه الله بشأنها في كتابه
الكريم، وقدمها في الذكر على غيرها؛ اهتماما بها، وحثا على تنفيذها، ما دامت تتمشى على الوجه المشروع، وقد توعد الله من تساهل بشأنها أو غيَّر فيها وبدل من غير مسوٍّغ شرعي، فقال سبحانه:{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قال الإمام الشوكاني في تفسيره: "والتبديل التغيير، وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق التي لا جنف فيها ولا مضارة، وأنه يبوء بالإثم، وليس على الموصي من ذلك شيء؛ فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به.." انتهى.
ومن أحكام الوصية: صحتها لكل شخص يصح تملكه، سواء كان مسلما أو كافرًا؛ لقوله تعالى:{إِلاّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} ، قال محمد بن الحنفية:"هو وصية المسلم لليهودي والنصراني".
وقد كسا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخا له وهو مشرك.
وأسماء وصلت أمها وهي راغبة عن الإسلام.
وصفية أم المؤمنين أوصت بثلثها لأخ لها يهودي.
ولقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
وإنما تصح وصية المسلم للكافر المعين كما ورد، وأما الكافر غير المعين؛ فلا تصح الوصية له؛ كما لو أوصى لليهود أو النصارى أو فقرائهم، وكذا لا تصح الوصية للكافر المعين بما لا يجوز تمليكه إياه وتمكينه منه؛ كالمصحف، والعبد المسلم، أو السلاح.
وتصح الوصية لحملٍ تحقق وجوده قبل صدور الوصية، ويعرف ذلك بأن تضعه أمه قبل تمام ستة أشهر من صدور الوصية إذا كان لها زوج أو سيد، أو تضعه لأقل من أربع سنين إن لم تكن ذات زوج أو سيد؛ لأن مثل هذا الحمل يرث؛ فالوصية له تصح من باب أولى، وإن وضعته ميتا بطلت الوصية.
ولا تصح الوصية لحمل غير موجود حينها؛ كما لو قال أوصيت لمن تحمل به هذه المرأة؛ لأنها وصية لمعدوم.
وإذا أوصى بمبلغ كبير من المال يُحَجُّ به عنه؛ فإنه يصرف منه حجة بعد أخرى حتى ينفد، وإن كان المبلغ قليلاً؛ حُجَّ به من حيث بلغ، وإن نص على أن المبلغ الكثير كله يصرف في حجة واحدة؛ صرف في حجة واحدة؛ لأنه قصد بذلك نفع من يحج، ولا يصح حج الموصي أو الوارث عنه في تلك الصور؛ لأن الموصي قصد غيرهما في الظاهر.
ولا تصح الوصية لمن لا يصح تمليك؛ كالجني، والبهيمة، والميت.
ولا تصح الوصية على جهة معصية؛ كالوصية للكنائس ومعابد الكفرة والمشركين، وكالوصية لعمارة الأضرحة وإسراجها أو لسدنتها، سواء كان الموصي مسلما أو كافرًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لو حبس الذمي من مال نفسه شيئا على معابدهم؛ لم يجز للمسلمين الحكم بصحته؛ لأنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، ومما أنزل الله أن لا يتعاونوا على شيء من الكفر والفسوق والعصيان؛ فكيف يعاونون بالحبس على المواضع التي يكفر فيها؟! ".
ولا تصح الوصية على طباعة الكتب المنسوخة؛ كالتوراة والإنجيل أو طباعة الكتب المنحرفة؛ ككتب الزندقة والإلحاد.
ومن أحكام الوصية: أنه يشترط أن يكون الموصى به مالاً أو منفعة مباحة، ولو كان مما يعجز عن تسليمه؛ كالطير في الهواء، والحمل الذي في البطن، واللبن الذي في الضرع، أو كان معدوما؛ كما لو أوصى بما يحمل حيوانه أو شجرته أبدًا أو مدة معينة كسنة، فإن حصل شيء من المعدوم؛ فهو للموصى له، وإن لم يحصل شيء؛ بطلت الوصية؛ لأنها لم تصادف محلاًّ.
وتصح الوصية بالمجهول؛ كما لو أوصى بعبد أو شاة، ويعطى الموصى له حينئذ ما يقع عليه الاسم حقيقة أو عرفا.
ومن أحكام الوصايا: أنه لو أوصى بثلث ماله، فاستحدث مالاً بعد الوصية؛ دخل الوصية؛ لأن الثلث إنما يعتبر عند الموت في المال الموجود حينئذٍ.
ومن أحكام الوصايا: أنه لو أوصى لشخص بشيء معين من ماله، فتلف ذلك المعين قبل موت الموصي أو بعده؛ بطلت الوصية؛ لزوال حق الموصى له بتلف ما أوصي له به.
ومن أحكام الوصايا: أنه إذا لم يحدد مقدار الموصى به، كما لو أوصى بسهم من ماله؛ فإنه يفسر بالسدس؛ لأن السهم في كلام العرب هو السدس، وبه قال على وابن مسعود، ولأن السدس أقل سهم مفروض، فتنصرف الوصية إليه، وإن أوصى بشيء من ماله، ولي يبين مقداره؛ فإن الوارث يعطي الموصى له ما شاء مما يتمول؛ لأن الشيء لا حد له في اللغة ولا في الشرع، فيصدق على أقل شيء يُتَمَوَّل، وما يُتَموَّل لا يحصل به المقصود، والله أعلم.
أحكام الموصى إليه "الناظر على الوصية وغيرها":
الموصى إليه هو المأمور بالتصرف بعد الموت في المال وغيره مما للموصي التصرف فيه حال الحياة، وتدخله النيابة؛ لأن الموصى إليه نائب عن الموصي في ذلك.
ودخول الموصى إليه في تلك النيابة وقبوله لها مندوب إليه وقربة يثاب عليها، لكن ذلك يشرع لمن عنده المقدرة على العمل ويجد من نفسه توفر الأمانة؛ لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه"، ولفعل الصحابة رضي الله عنهم؛ فقد أوصى إلى الزبير رضي الله عنه
جماعة من الصحابة، وأوصى أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما، وأوصى عمر إلى بنته حفصة رضي الله عنها ثم إلى الأكابر من ولده.
أما من لا يقوى على القيام على الوصية، أو لا يأمن نفسه على حفظها؛ فلا يجوز له الدخول في الوصاية.
ويشترط في الموصى إليه: أن يكون مسلما؛ فلا يصح الإيصاء إلى كافر.
ويشترط فيه أيضا: أن يكون مكلَّفا؛ فلا يصح الإيصاء إلى صبي، ولا إلى محنون، ولا إلى أبله؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل الولاية والتصرف، لكن يصح تعليق الإيصاء إلى صبي ببلوغه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أميركم زيد، فإن قتل؛ فجعفر".
ويصح الإيصاء إلى امرأة إذا كان فيها كفاءة للقيام بشؤون الوصية؛ لأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة رضي الله عنه ولأن المرأة من أهل الشهادة، فيصح الإيصاء إليها كالرجل.
وتصح الوصية إلى من لا يقدر على العمل، لكن عنده
تفكير سليم، ويضم إليه قادرًا أمينا يتعاون معه.
ويصح أن يوصي إلى أكثر من واحد، سواء أوصى إليهم دفعة واحدة أو أوصى إليهم واحدًا بعد واحد؛ إذ لم يعزل الأول.
وإذا أوصى إلى جماعة؛ فإنهم يشتركون في العمل، وليس أحدهم التصرف في الوصية دون الآخر، وإن مات أحدهم أو غاب؛ أقام الحاكم مقامه من يصلح.
ويصح قبول الموصى إليه الوصية في حياة الموصي وبعد موته، وله عزل نفسه متى شاء في حياة الموصي وبعد موته، وللموصي أيضا عزل الموصى إليه متى شاء؛ لأنه وكيل.
ولا يجوز للموصي إليه أن يوصي إلى غيره؛ إلا أن يُجعل ذلك إليه؛ بأن يأذن له الموصي بالإيصاء إلى غيره متى شاء؛ كأن يقول: أذنت لك أن توصي إلى من شئت.
ويشترط لصحة الإيصاء: أن يكون في تصرف معلوم؛ ليعلم الموصي إليه ما أوصى به حتى يقوم بحفظه والتصرف فيه.
ويشترط أيضا: أن يكون التصرف الموصي به مما يصح للموصي فعله؛ كقضاء دينه، وتفرقة ثلثه، والنظر لصغار..ونحو ذلك؛ لأن الموصي إليه يتصرف بالإذن، فلم يجز له التصرف إلا فيما يملكه الموصي؛ كالوكالة، ولأن الموصي أصل والوصي فرع، ولا يملك الفرع ما لا يملكه الأصل؛ فلا تصح الوصية بما لا يملكه الوصي؛ كتوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر؛ لأنه لا ولاية عليهم لغير الأب.
وتتحدد الوصية بما عينت فيه؛ فمن وصي في شيء؛ لم يكن وصيا في غيره، فلو أوصي إلى شخص في قضاء ديونه؛ لم يكن وصيا على أولاده؛ لأن تصرفه يقتصر على ما أذن له فيه كالوكيل ،
وتصح وصية الكافر إلى مسلم إذا كانت تركته من المباح، فإن كانت من المحرم كالخمر والخنزير؛ لم تصح؛ لأن المسلم لا يجوز له أن يتولى ذلك.
وإن قال الموصي للموصى إليه: ضع ثلثي حيث شئت، أو: تصدق به على من شئت؛ لم يجز للوصي أن يأخذ منه شيئا؛ لأنه لم يأذن له بذلك، ولا يجوز له أيضا أن يعطيه لولده وورثته؛ لأنه متهم في حقهم.
ومن أحكام الوصايا: أن من مات بمكان لا حاكم فيه ولا وصي؛ كمن مات في برية؛ جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته، وعمل الأصلح من بيع وغيره؛ لأنه موضع ضرورة؛ إذ في تركه إتلاف له، وحفظه من فروض الكفايات، ويكفنه ويجهزه من تركته.