الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في أحكام الحجر
إن الإسلام جاء لحفظ الأموال وحفظ حقوق الناس، ولذلك شرع الحجر على من يستحقه؛ حفاظا على أموال الناس وحقوقهم..
والحجر لغة: المنع، ومنه سمي الحرام حجرًا؛ لأنه ممنوع منه، قال تعالى:{وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} ؛ أي: حراما محرما.
وسمي أيضا العقل حجرًا، قال تعالى:{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ، أي: عقل؛ لأن العقل يمنع صاحبه من تعاطي ما يقبح وتضر عاقبته.
ومعنى الحجر في الشرع: منع إنسان من تصرفه في ماله.
ودليله من القرآن الكريم: قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ، فدلت الآيتان على الحجر على السفيه واليتيم في ماله؛ لئلا يفسده ويضيعه، وأنه لا يدفع إليه إلا بعد تحقيق رشده فيه.
وقد حجر النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة لأجل قضاء ما عليه من الديون.
والحجر نوعان:
النوع الأول: حجر على الإنسان لأجل حظ غيره؛ كالحجر على المفلس لحظ الغرماء، والحجر على المريض بالوصية بما زاد على ثلث لحظ الورثة.
النوع الثاني: حجر على الإنسان لأجل مصلحته هو؛ لئلا يضيع ماله ويفسده؛ كالحجر على الصغير والسفيه والمجنون؛ بدليل قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم} ، قيل: المراد الأولاد والنساء، فلا يعطيهم ماله تبذيرًا، وقيل: المراد السفهاء والصغار والمجانين، لا يعطون أموالهم، لئلا يفسدوها، وأضافها إلى المخاطبين؛ لأنهم الناظرون عليها والحافظون لها.
النوع الأول: على الإنسان لحظ غيره:
والمراد هنا الحجر على المفلس هو من عليه دين حال لا يتسع له ماله الموجود، فيمنع من التصرف في ماله؛ لئلا يضر بأصحاب الديون.
أما المدين المعسر الذي على وفاء شيء من دينه؛ فإنه لا يطالب به، ويجب إنظاره؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة} .
وفي فضل إنظار المعسر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يظله الله في ظله؛ فلييسر على معسر". وأفضل من الإنظار إبراء المعسر من دينه؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُم} .
أما من له قدرة على وفاء دينه؛ فإنه لا يجوز الحجر عليه؛ لعدم الحاجة إلى ذلك، لكن يؤمر بوفاء ديونه إذا طالب الغرماء بذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مطل الغني ظلم"؛ أي: مطل القادر على وفاء دينه ظلم؛ لأنه منع أداء ما وجب عليه أداؤه من حقوق الناس، فإن امتنع من تسديد ديونه؛ فإنه يسجن.
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "ومن كان قادرًا على وفاء دينه، وامتنع؛ أجبر على وفائه بالضرب والحبس، نص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم"، قال:"ولا أعلم فيه نزاعا" انتهى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وعرضه: شكواه، وعقوبته: حبسه، فالمماطل بقضاء ما عليه من الحق يستحق العقوبة بالحبس والتعزير، ويكرر عليه
ذلك حتى يوفي ما عليه، فإن أصر على المماطلة؛ فإن الحاكم يتدخل فيبيع ماله ويسدد منه ديونه؛ لأن الحاكم يقوم مقام الممتنع، ولأجل إزالة الضرر عن الدائنين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار".
ومما مر يتضح أن المدين له حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون الدين مؤجلاً عليه؛ فهذا لا يطالب بالدين حتى يحل، ولا يلزمه أداؤه قبل حلوله، وإذا كان ما لديه من المال أقل مما عليه من الدين المؤجل؛ فإنه لا يحجر عليه من أجل ذلك، ولا يمنع من التصرف في ماله.
الحالة الثانية: أن يكون الدين حالا؛ فللمدين حينئذ حالتان:
الأولى: أن يكون ماله أكثر من الدين الذي عليه؛ فهذا لا يحجر عليه في ماله، ولكن يؤمر برفاء الدين إذا طالب بذلك دائنه، فإن امتنع؛ حبس وعزر حتى يوفي دينه، فإن صبر على الحبس والتعزير، وامتنع من تسديد الدين؛ فإن الحاكم يتدخل ويوفي دينه من ماله ويبيع ما يحتاج إلى بيع من أجل ذلك.
الثانية: أن يكون ماله أقل مما عليه من الدين الحال؛ فهذا يحجر عليه التصرف في ماله إذا طالب غرماؤه بذلك؛ لئلا يضربهم؛ لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ماله"، رواه الدارقطني والحاكم وصححه. وقال ابن الصلاح:"إنه حديث ثابت".
وإذا حجر عليه في هذه الحالة؛ فإنه يعلن عنه، وظهر للناس أنه محجور عليه؛ لئلا يغتروا به ويتعاملوا معه، فتضيع أموالهم.
ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام:
الحكم الأول: أنه يتعلق حق الغرماء بماله الموجود قبل الحجر، وبماله الحادث بعد الحجر؛ بإرث أو أرش جناية أو هبة أو وصية أو غير ذلك، فيلحقه الحجر كالموجود قبل الحجر؛ فلا ينفذ تصرف المحجور عليه في ماله بعد الحجر بأي نوع من أنواع التصرف، ولا يصح إقراره لأحد على شيء من ماله؛ لأن حقوق الغرماء متعلقة بأعيانه، فلم يقبل الإقرار عليه، وحتى قبل الحجر عليه يحرم عليه التصرف في ماله تصرفا يضر بغرمائه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إذا استغرقت الديون ماله؛ لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون، سواء حجر عليه الحاكم أولم يحجر عليه، هذا مذهب مالك واختيار شيخنا [يريد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله] ، قال: "وهو الصحيح، وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده؛ لأن حق الغرماء قد تعلق بماله، ولهذا يحجر الحاكم عليه، ولولا تعلق حق الغرماء بماله؛ لم يسع الحاكم الحجر عليه، فصار كالمريض مرض الموت، وفي تمكين هذا المدين من التبرع إبطال حقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا؛ فإنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق وسد الطريق المفضية إلى إضاعتها" انتهى كلامه رحمه الله.
الحكم الثاني: أن من وجد عين ماله الذي باعه عليه أو أقرضه إياه أو أجره إياه قبل الحجر عليه؛ فله أن يرجع به ويسحبه من عند المفلس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك متعاه عند إنسان أفلس؛ فهو أحق به"، متفق عليه.
وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله أنه يشترط لرجوع من وجد ماله عند المفلس المحجور عليه ستة شروط:
الشرط الأول: كون المفلس حيا إلى أن يأخذ ماله منه؛ لما رواه أبو داود؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فإن مات؛ فصاحب المتاع أسوة الغرماء".
الشرط الثاني: بقاء ثمنها كله في ذمة المفلس، فإن قبض صاحب المتاع شيئا من ثمنه؛ لم يستحق الرجوع به.
الشرط الثالث: بقاء العين كلها في ملك المفلس، فإن وجد بعضها فقط؛ لم يرجع به؛ لأنه لم يجد عين ماله، وإنما وجد بعضها.
الشرط الرابع: تكون السلعة بحالها، لم يتغيّر شيء من صفاتها.
الشرط الخامس: كون السلعة لم يتعلق بها حق الغير؛ بأن لا يكون المفلس قد رهنها ونحو ذلك.
الشرط السادس: كون السلعة لم تزد زيادة متصلة كالسمن، فإذا توافرت هذه الشروط؛ جاز لصاحب السلعة أن يسحبها إذا ظهر إفلاس من هي عنده؛ للحديث السابق.
الحكم الثالث: انقطاع المطالبة عنه بعد الحجر عليه إلى أن ينفك عنه الحجر، فمن باعه أو أقرضه شيئا خلال هذه الفترة؛ طالبه به بعد فك الحجر عنه.
الحكم الرابع: أن الحاكم يبيع ماله، ويقسم ثمنه بقدر ديون غرمائه الحالَّة؛ لأن هذا هو المقصود من الحجر عليه، وفي تأخير ذلك مطل وظلم لهم، ويترك الحاكم للمفلس ما يحتاج إليه من مسكن ومؤنة ونحو ذلك.
أما الدين المؤجل؛ فلا يحل بالإفلاس، ولا يزاحم الديون الحالة؛ لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط؛ كسائر حقوقه، ويبقى في ذمة المفلس، ثم بعد توزيع ماله على أصحاب الديون الحالة، فإن سددها ولم يبق منها شيء؛ انفك عنه الحجر بلا حكم الحاكم؛ لزوال موجبه، وإن بقى عليه شيء من ديونه الحالة؛ فإنه لا ينفك عنه الحجر؛ إلا بحكم الحاكم؛ لأنه هو الذي حكم بالحجر عليه؛ فهو الذي يحكم بفك الحجر عنه.
النوع الثاني من أنواع الحجر:
وهو الحجر على الإنسان لحظ نفسه بحفظ ماله وتوفيره له؛ لأن هذا الدين دين الرحمة، الذي لم يترك شيئا فيه مصلحة إلا حث على تعاطيه، ولا شيئا فيه مضرة، إلا حذر منه، ومن ذلك أنه أفسح المجال للإنسان الذي فيه أهلية للتصرف ومزاولة التجارة في حدود المباح الكسب
الطيب؛ لما في ذلك من المصلحة التي تعود على الفرد والجماعة، أما إذا كان الإنسان غير مؤهل لطلب الكسب ومزاولة التجارة؛ لصغر سنه أو سفهه أو فقدان عقله؛ فإن الإسلام يمنعه من التصرف، ويقيم وصيا يحفظ له ماله وينميه، حتى يزول عنه المانع ثم يسلم ماله موفورًا إليه.
قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} إلى قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} .
ذلكم هو ما يسمى بالحجر على الإنسان لحظ نفسه؛ لأن المصلحة في ذلك تعود عليه.
وهذا النوع من الحجر يعم الذمة والمال؛ فلا يتصرف من انطبق عليه في ماله ببيع ولا تبرع ولا غيرهما، ولا يتحمل في ذمته دينا أو ضمانا أو كفالة ونحوها؛ لأن ذلك يفضي إلى ضياع أموال الناس.
ولا يصح تصرف غير السفهاء معهم؛ بأن يعطيهم ماله بيعا أو قرضا أو وديعة أو عارية، ومن فعل ذلك؛ فإنه يسترد ما أعطاهم إن وجده باقيا بعينه، فإن تلف في أيديهم أو أتلفوه؛ فإنه يذهب هدرًا، لا يلزمهم ضمانه؛ لأنه فرط بتسليطهم عليه وتقديمه إليهم برضاه واختياره.
أما لو تعدى المحجور عليه "لصغر ونحوه" على نفس أو مال بجناية؛ فإنه يضمن، ويتحمل ما ترتب على جنايته من غرامة، لأن المجني
عليه لم يفرض ولم يأذن لهم بذلك، والقاعدة الفقهية تقول: إن ضمان الإتلاف يستوي في الأهل وغيره.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "يضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال، وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها، لو لم يضمنوا جنايات أيهديهم؛ لأتلف بعضهم أموال بعض، وداعي الخطأ وعدم القصد".
ويزول الحجر عن الصغير بأمرين:
الأمر الأول: بلوغه سن الرشد.
ويعرف ذلك بعلامات:
الأولى: إنزاله المني يقظة أو مناما، قال تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ، والحلم هو أن يرى الطفل في منامه ما ينزل به المني الدافق.
الثانية: إنبات الشعر الخشن حول قبله.
الثالثة: بلوغه خمس عشرة سنه، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:"عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"، متفق عليه، ومعنى أجازني؛ أي: أمضاني للخروج للقتال، فدل على أن بلوغ خمس عشرة سنة من الولادة يكون بلوغا، وفي رواية في تعليل منعه في
العرضة الأولى: " قال: ولم يرني بلغت".
الرابعة: وتزيد الجارية على الذكر علامة رابعة تدل على بلوغها، وهي الحيض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"، رواه الترمذي وحسنه.
الأمر الثاني من البلوغ: الرشد، وهو الصلاح في المال؛ لقوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} .
ويعرف رشده بأن يمتحن، فيمنح شيئا من التصرف، فإذا تصرف مرارًا، فلم يغبن غبنا فاحشا، ولم يبذل ماله في حرام أو فيما لا فائدة فيه؛ فهذا دليل على رشده.
ويزول الحجر عن المجنون بأمرين:
الأول: زوال الجنون ورجوع العقل إليه.
والثاني: أن يكون رشيدًا كما سبق في حق الصغير إذا بلغ.
ويزول عن السفيه: بزوال السفه واتصافه بالرشد في تصرفاته المالية.
ويتولى مال كل من هؤلاء الثلاثة الصبي والمجنون والسفيه حال الحجر أبوه إذا كان عدلاً رشيد؛ لكمال شفقته، ثم من بعد الأب وصية؛ لأنه نائبة، فأشبه وكيله في حال الحياة.
ويجب على من يتولى أموالهم ممَّن ذكر أن يتصرف لهم بالأحظ لهم؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ؛ أي: لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بما فيه مصلحة وتنمية له، والآية الكريمة وإن كانت نصت على مال اليتيم؛ فإنها تتناول مال السفيه بالقياس على مال اليتيم.
وعلى ولي مال اليتيم ونحوه المحافظة عليه، وعدم إهماله والمخاطرة به أو أكله ظلما، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} .
وقد وعظ الله أولياء اليتامى بأن يتذكروا حالة أولادهم لو كانوا تحت ولاية غيرهم؛ فكما يحبون أن يحسن إلى أولادهم؛ فليحسنوا هم إلى أولاد غيرهم من اليتامى إذا كانوا تحت ولا يتهم، قال تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} .
ولما كان هؤلاء لا يستطيعون حفظ أموالهم وتصريفها بما ينميها لهم؛ أقام الله عليهم أولياء يتولون عنهم ذلك، وينظرون في مصالحهم، وأعطى هؤلاء الأولياء توجيهات يسيرون عليها حال ولا يتهم على هؤلاء، فنهى الأولياء عم إعطاء القصار أموالهم وتمكينهم منها؛ لئلا يفسدوها أويضيعوها.
قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاما} .
قال الحافظ بن كثير رحمه الله: "ينهى الله سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما؛ أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن هنا يؤخذ الحجر على السفهاء" انتهى.
وكما نهى الله عن تمكين هؤلاء القصار من أموالهم، وجعلها تحت ولاية أهل النظر والإصلاح؛ فإنه سبحانه وتعالى يحذر هؤلاء الأولياء من التصرف فيها؛ إلا بما يصلحها وينميها، فيقول سبحانه تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ؛ أي: لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بما فيه غبطة ومصلحة لليتيم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "لما أنزل الله تعالى قوله {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ؛ انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، فجعل يفضل الشيء، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {َيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} "؛ قال: "فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم".
ومن الإحسان في أموال اليتامى: إشغالها في الاتجار طلبا للربح والنمو، فلوليه الاتجار به، وله دفعه لمن يتجر به مضاربة؛ لأن عائشة
رضي الله عنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، وقال عمر رضي الله عنه:"اتجروا بأموال اليتامى كيلا تأكلها الصدقة".
كما أن ولي اليتيم ينفق عليه من ماله بالمعروف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويستحب إكرام اليتيم وإدخال السرور عليه ودفع الإهانة عنه؛ فجبر قلبه من أعظم مصالحه" انتهى.
ولولي اليتيم شراء الأضحية له من ماله إذا كان اليتيم موسرًا؛ لأنه يوم سرور وفرح، ولوليه أيضا تعليمه بالآخرة من ماله؛ لأن ذلك من مصالحه.
وإذا كان ولي اليتيم فقيرًا؛ فله أن يأكل من مال اليتيم قدر أجرته لقاء ما يقدمه من خدمة لماله، قال تعالى:{وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ؛ أي: ومن كان محتاجا إلى النفقة وهو يحفظ مال اليتيم ويتعاهده؛ {فَلْيَأْكُلْ} منه {بِالْمَعْرُوفِ} .
قال الإمام ابن كثير: "نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه، وعن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية
في والي اليتيم: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} بقدر قيامه عليه".
قال الفقهاء: له أن يأخذ أقل الأمرين أجره مثله أو قدر حاجته، روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عندي يتيما عنده مال وليس لي مال؛ أآكل من ماله؟ قال: " كل بالمعروف غير مسرف "، أما ما زاد عن هذا الحد الذي رخص الله فيه؛ فلا يجوز أكله من مال اليتيم؛ فقد توعد الله عليه بأشد الوعيد، قال تعالى:{وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} ، وقال تعالى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} ؛ أي: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} .
قال الإمام ابن كثير: "أي: إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب؛ فإنما يأكلون نارًا تتأجج في بطونهم يوم القيامة".
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا
السبع الموبقات". قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
ثم إنه سبحانه أمر بدفع أموال اليتامى إليهم عندما يزول عنهم اليتم ويتأهلون للتصرف فيها على السداد موفرة كاملة، قال تعالى:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُم} ، وقال:{حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} ؛ أي: وكفى بالله محاسبا وشاهدًا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم لأموالهم هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة.