الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في أحكام الرهن
الرهن لغة: يراد به الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن؛ أي: راكد. والرهن شرعا: توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها أو من ثمنها؛ أي: جعل عين مالية وثيقة بدين.
والرهن جائز بالكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
وقد توفى النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة.
وأجمع العلماء على جواز الرهن في السفر، والجمهور أجازوه أيضا في الحضر.
والحكمة في مشروعيته: حفظ الأموال، والسلامة من الضياع.
وقد أمر الله بتوثيق الدين بالكتاب؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .
وهذا من رحمة الله بعباده، حيث يرشدهم إلى ما فيه خيرهم.
ويشترط لصحة الرهن معرفة قدره وجنسه وصفته، وأن يكون الراهن جائز التصرف، مالكا للمرهون، أو مأذونا له فيه.
ويجوز للإنسان أن يرهن مال نفسه على دين غيره.
ويشترط في العين المرهونة أن تكون مما يصح بيعه؛ ليتمكن من الاستيفاء من الرهن.
ويصح اشتراط الرهن في صلب العقد، ويصح بعد العقد؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ؛ فجعله الله سبحانه بدلاً من الكتابة، والكتابة إنما تكون بعد وجوب الحق.
والرهن يلزم من جانب الراهن فقط؛ لأن الحظ فيه لغيره، فلزم من جهته، ولا يلزم من جانب المرتهن؛ فله فسخه؛ لأن الحظ فيه له وحده.
ويجوز أن يرهن نصيبه من غير مشتركة بينه وبين غيره؛ لأنه يجوز بيع نصيبه عند حلول الدين، ويوفي منه الدين.
ويجوز رهن المبيع على ثمنه؛ لأن ثمنه دين في الذمة، والمبيع ملك للمشتري؛ فجاز رهنه به، فإذا اشترى دارًا أو سيارةً مثلاً بثمن مؤجل أو حال لم يقبض؛ فله رهنها حتى يسدد له الثمن.
ولا ينفذ تصرف أحد الطرفين المرتهن والراهن في العين المرهونة إلا بإذن الطرف الآخر؛ لأنه إذا تصرف فيها بغير إذنه؛ فوت عليه حقه؛ لأن تصرف الراهن يبطل حق المرتهن في التوثيق، وتصرف المرتهن تصرف في ملك غيره.
أما الانتفاع بالرهن؛ فحسبما بتفقان عليه: فإن اتفقا على تأجيره أو غيره؛ جاز، وإن لم يتفقا؛ بقى معطلاً حتى يفك الرهن.
ويمكَّن الراهن من عمل ما فيه إصلاح للرهن؛ كسقي الشجر، وتلقيحه ومداواته؛ لأن ذلك مصلحة للرهن.
ونماء الرهن المتصل كالسمن وتعلم الصنعة، ونماؤه المنفصل كالولد والثمرة والصوف وكسبه: ملحق به، يكون رهنا معه، ويباع معه لوفاء الدين، وكذا سائر غلاته؛ لأنها تابعة له، وكذا لو جُنى عليه؛ فأرش الجناية يُلحق بالرهن؛ لأنه بدل جزء منه.
ومؤنة الرهن من طعامه وعلف الدواب وعمارته وغير ذلك على الراهن؛ لحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه؛ له غنمه، وعليه غرمه"، رواه الشافعي والدارقطني، وقال:"إسناده حسن صحيح"، ولأن الرهن ملك
الراهن؛ فكان عليه نفقته. وعلى الراهن أيضا أجرة المخزن الذي يودع فيه المال المرهون وأجرة حراسته؛ لأن ذلك يدخل ضمن الإنفاق عليه، وكذا أجرة رعي الماشية المرهونة.
وإن تلف بعض الرهن وبقى بعضه؛ فالباقي رهن بجميع الدين؛ لأن الدين كله متعلق جميع أجزاء الرهن، فإذا تلف البعض؛ بقى البعض الآخر رهنا بجميع الدين.
وإن وفّى بعض الدين؛ لم ينفك شيء من الرهن حتى يسدده كله؛ فلا ينفك منه شيء حتى يؤدي جميع الدين.
وإذا حل الدين الذي به رهن وجب على المدين تسديده كالدين الذي لا رهن به؛ لأن هذا مقتضى العقد بينهما، قال الله تعالى:{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّه} ، فإن امتنع عن الوفاء؛ صار مماطلاً، وحينئذ يجبره الحاكم على وفاء الدين، فإن امتنع؛ حبسه وعزره حتى يوفي ما عليه من الدين من عنده، أو يبيع الرهن ويسدد من قيمته، فإن امتنع؛ فإن، الحاكم يبيع الرهن، ويوفي الدين من ثمنه؛ لأنه حق وجب على المدين، فقام الحاكم مقامه عند امتناعه، ولأن الرهن وثيقة للدين ليباع عند حلوله، وإن فضل من ثمنه شيء عن الدين؛ فهو لمالكه، يرد عليه؛ لأنه ماله، وإن بقى من الدين شيء لم يغطه ثمن الرهن؛ فهو في ذمة الراهن، يجب عليه تسديده.
ومن أحكام الرهن أنه إذا كان حيوانا يحتاج إلى نفقة، وكان في قبضة المرتهن؛ فإن الشارع الحكيم رخص له أن يركبه وينفق عليه إن كان يصلح للركوب، ويحلبه وينفق عليه إن كان يصلح للحلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة"، رواه البخاري؛ أي: ويحب على الذي يركب الظهر ويشرب اللبن النفقة في مقابلة انتفاعه، وما زاد عما يقابل النفقة من المنفعتين يكون لمالكه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "دل الحديث وقواعد الشريعة وأصولها على أن الحيوان المرهون محترم في نفسه لحق الله تعالى، وللمالك فيه حق الملك، وللمرتهن حق الوثيقة، فإذا كان بيده، فلم يحلبه؛ ذهب نفعه باطلاً، فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة، فإذا استوفى المرتهن منفعته، وعوض عنها نفقة، كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين" انتهى.
قال بعض الفقهاء رحمهم الله:
"الرهن قسمان: ما يحتاج إلى مؤنة، وما لا يحتاج إلى مؤنة.
وما يحتاج إلى مؤنة نوعان: حيوان مركوب ومحلوب؛ تقدم حكمه.
ما ليس بمركوب ولا محلوب؛ كالعبد والأمة؛ فهذا النوع لا يجوز للمرتهن أن ينتفع به إلا بإذن
مالكه، فإذا أذن له مالكه أن ينفق عليه وينتفع به في مقابلة ذلك؛ جاز؛ لأنه نوع معاوضة.
والقسم الثاني: ما لا يحتاج إلى مؤنة؛ كالدار والمتاع ونحوه، وهذا النوع لا يجوز للمرتهن أن ينتفع به؛ إلا بإذن الراهن أيضا؛ إلا إن كان الرهن بدين قرض؛ فلا يجوز للمرض أن ينتفع به كما سبق؛ لئلا يكون قرضا جر نفعا، فيكون من الربا".