الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أي كنت مشاهداً لأعمالهم، مراقباً لأفعالهم؛ مدة إقامتي بينهم في هذه الحياة {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أمتني، أو توفيت مدة إقامتي في الدنيا ورفعتني إليك {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} المراقب لأعمالهم وأفعالهم
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} في الدنيا؛ في عبادة الله تعالى والإنابة إليه {لَهُمْ جَنَّاتٌ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} أي خلوداً مؤبداً؛ لا غاية له، ولا انتهاء لأمده {رضي الله عنهم} فأرضاهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} فرضي عنهم (انظر آيتي 54 من هذه السورة، و22 من سورة المجادلة)
{للَّهِ} ملكاً وخلقاً وعبيداً؛ لم يشركه أحد في خلقهم، ولا يشركه أحد في عبادتهم {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أراده {قَدِيرٌ} على فعله.
سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} الليل والنهار؛ فإنهما آيتان من آيات الله تعالى. أو المراد كل ظلمة، وكل نور، أو هو ظلمة الكفر ونور الإيمان، وظلمة الجهل ونور العلم؛ جعل الظلمات ليستدل بها على ما عداها؛ فلولا ظلمة الليل ما عرفنا نور النهار، ولولا الكفر ما عرف الإيمان، ولولا الجهل ما عرف العلم. (انظر آية
1
7 من سورة البقرة) {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بعد هذه الدلالات على وجود الله تعالى ووحدانيته {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عدلاً؛ وهو المثل، والشبيه، والنظير؛ وهو تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} أي خلق أصلكم آدم عليه السلام {مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً} لكل مخلوق من مخلوقاته لا يتجاوزه {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} هو أجل القيامة ووقتها {ثُمَّ أَنتُمْ} بعد كل ذلك {تَمْتَرُونَ} تشكون في القيامة، وتجادلون في الله
{وَهُوَ اللَّهُ} الخالق البارىء المصور {فِي السَّمَاوَاتِ} وأين أنتم من السموات وما فيها؟ {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا} ؟ {وَفِي الأَرْضِ} وهو ذلك الكوكب الصغير الحقير؛ بالنسبة لملك الله تعالى وملكوته {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} ما تسرونه في أنفسكم وتحتفظون به في صدوركم {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} ما تعملون
{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} معجزة وبرهان
⦗ص: 151⦘
{إِلَاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} لا يأبهون بها، ولا يلتفتون إليها؛ وأي معجزة أكبر أو أجل من القرآن؟ وأي برهان أقوى من رسالة محمد عليه الصلاة والسلام؟ ذلك اليتيم الذي آواه الله، والضال الذي هداه، والعائل الذي أغناه والأمي الذي أخرس بفصاحة ما جاء به البلغاء والفصحاء، وتحدى بآياته أساطين البيان
{فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ} القرآن الكريم، أو محمد عليه أفضل الصلاة السلام {لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} أي سوف يأتيهم العذاب الذي يدلهم على صدق ما كذبوا به؛ وصحة ما سخروا منه
{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} القرن: الأمة، أو أهل الزمان الواحد {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} أي جعلنا لهم مكانة فيها، وقوة وسعة {وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} أي جعلنا السماء تدر عليهم بالمطر؛ وهو كناية عن بسط الرزق، وسعة القوت؛ لأن المطر مصدر الرخاء والنماء {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} لكنهم طغوا وبغوا {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً} أمة
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} أي لو أنزلنا عليك من السماء كلاماً مكتوباً في ورق {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ورأوه بأعينهم؛ لما آمنوا، والذي نراه ونلمسه {إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} سحر واضح بيِّن
{وَقَالُواْ لَوْلَا} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ} أي على محمد {مُلْكُ} من السماء؛ يمشي معه ويؤيده، ويصدق أمامنا بما جاء به {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً} كما يقترحون {لَقُضِيَ الأَمْرُ} بهلاكهم واستئصالهم {ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ} لا يؤجلون، ولا يمهلون
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} أي الرسول إليهم {مَلَكاً} من السماء {لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} أي جعلناه على صورة رجل؛ ليستطيعوا رؤيته، ويقووا على مواجهته؛ لأنه لا قوة ولا طاقة للبشر على رؤية الملك على حقيقته؛ ولأن كل نوع يميل إلى نوعه، وكل جنس يألف لجنسه؛ والإنسان عن الإنسان أفهم، وطباعه بطباعه آنس؛ والإنسان لا يقوى على رؤية عفريت أو شيطان، فكيف برؤية الملك الذي يهلك قرية بصيحة، ويفني أمة برجفة؟ وقد كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل لنبينا صلوات الله تعالى وسلامه عليه على صورة رجل؛ ليأنس إليه، ويطمئن إلى مخاطبته؛ ولم يره على صورته الحقيقية غير مرتين: مرة عند غار حراء؛ رآه ساداً للأفق، حاجباً للشمس؛ فغشي على النبي من عظمة ما رأى ورآه مرة أخرى عندما أسري به في السموات العلى
{عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} فتعالى الخالق المبدع المصور؛ الذي هدانا برسول من أنفسنا، نأنس إليه، ونلتمس غنى الدارين من يديه {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم}
⦗ص: 152⦘
لخلطنا عليهم {مَّا يَلْبِسُونَ} على أنفسهم؛ بأن يقولوا على الملك الذي أنزلناه في صورة رجل {مَا هَذَا إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} مثل ما استهزىء بك {فَحَاقَ} فنزل {بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} أي جزاءه من العقاب والتعذيب {كِتَابَ} قضى ربكم
{عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} تفضلاً منه على العباد؛ ومن دلائل رحمته تعالى: تلطفه بخلقه رغم تجبرهم، وإمدادهم رغم عصيانهم؛ وأي رحمة أبلغ من رزقه لمن يكفر به، وإمهاله لمن يعبد غيره؟ {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} للحساب والجزاء {لَا رَيْبَ فِيهِ} لا شك في حصول وقوعه {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم} أضاعوها بكفرهم، وأعمالهم السيئة في الدنيا؛ فلا يقام لهم وزن في الآخرة، وليس لهم نصيب فيها سوى الجحيم والعذاب الأليم
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي له تعالى كل شيء - هو خالقه ومالكه - من ساكن أو متحرك؛ لأن الذي يسكن لا بد أن يكون متحركاً. والآية الكريمة تنص على كل مخلوق من متحرك وساكن بطبعه، أو ساكن بعد تحرك {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم {الْعَلِيمُ} بأفعالكم
{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} ناصراً ومعيناً {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فاطر الشيء: خالقه ابتداء من غير مثال سبق {وَهُوَ يُطْعِمُ} سائر مخلوقاته ويتكفل بأرزاقهم وأقواتهم {وَلَا يُطْعَمُ} لا يحتاج لأحد يرزقه أو يطعمه؛ شأن من عبدتم من المخلوقات كعيسى {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم القيامة
{وَهُوَ الْقَاهِرُ} الذي لا يعجزه شيء {فَوْقَ عِبَادِهِ} مستعلياً عليهم؛ فهم كلهم تحت رحمته؛ وقيد إرادته؛ يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، يسعد من يشاء بجنته ورحمته، ويشقي من يشاء بناره وغضبه، بيده الملك والملكوت، والعزة والجبروت؛ تفرد بالعظمة والسلطان {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في صنعه {الْخَبِيرُ} بخلقه
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} لي بالرسالة والنبوة {قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي أن دعوتي لتوحيده، وحثى على معرفته: شهادة على نبوتي، ودليل على صدقي {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ} وهو شهادة أخرى قاطعة ناصعة؛ فأي شهادة أكبر من هذا تطالبونني بها، وتلزمونني بإبدائها؟ {لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} أي لأنذركم بهذا القرآن؛ ومن سيبلغه من بعد وفاتي؛ فكأنما أنذرته بنفسي وأبلغته. أو ومن بلغه القرآن: وجب عليه القيام بتبليغه أيضاً
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} اليهود والنصارى {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون محمداً؛ لنعته في كتبهم (انظر آية 157 من سورة الأعراف).
⦗ص: 153⦘
{الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم} بتعريضها للجحيم والعذاب الأليم {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} بمحمد؛ رغم معرفتهم له كمعرفتهم لأبنائهم
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} بأن أشرك معه غيره من مخلوقاته
{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنهم آلهة، وتشركونهم معي في العبادة
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} الفتنة هنا بمعنى الاختبار؛ أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال. وقيل: «فتنتهم» معذرتهم
{وَضَلَّ عَنْهُم} غاب
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} بأذنيه، وينصرف عنك بقلبه؛ ومثل هذا غير جدير بالاعتبار؛ وأولى بمثله أن يورده الله تعالى موارد الغواية، ويبعده عن مواطن الهداية أغطية؛ بسبب انصرافهم وعنادهم وكفرهم {أَن يَفْقَهُوهُ} أي لئلا يفقهوا القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} ثقلاً يمنع من السمع {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ} منزلة عليك من القرآن الكريم {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ} القرآن {إِلَاّ أَسَاطِيرُ} أكاذيب
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي ينهون الناس عن سماعه {وَيَنْأَوْنَ} يتباعدون {وَأَنْ} وما {يُهْلِكُونَ} بهذا النهي والنأي {إِلَاّ أَنفُسُهُمْ} لأنهم يعرضونها للعذاب الشديد يوم القيامة
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ} حبسوا {عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ} نرجع إلى الدنيا.
{وَقَالُواْ إِن} ما {هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} لا شيء غيرها ولا حياة بعدها {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} في الآخرة كما يزعم محمد.
هذا وقد ظهر في زماننا هذا قوم من غلاة الزنادقة ينكرون البعث، ويقولون بالتعطيل وفي الواقع أن عقولهم وقلوبهم هي المعطلة؛ وسيرون غداً حينما تلتهمهم النيران، ويحل بواديهم الخسران؛ من أضل سبيلاً، وأسوأ قيلا (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} للحساب، ورأوا بأعينهم سوء المآب {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا} الذي ترونه وتلمسونه {بِالْحَقِّ} الذي أنذركم به محمد؛ فكذبتموه وكفرتم به {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} فجأة
{قَالُواْ} وقتذاك {يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي على ما قصرنا في الدنيا {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} ذنوبهم
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} مثلما كذبك قومك؛ وهو تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام {فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ} فاصبر كما صبروا {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} بإهلاك المكذبين {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} لأوامره وسنته، ومواعيده بنصر رسله
{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ} عظم وشق {إِعْرَاضُهُمْ} عن الإيمان {فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ} تطلب وتجد {نَفَقاً} سرباً {فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ} تصعد عليه {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} معجزة مما يقترحونه من غير إرادتنا
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} للدعوة إلى الإيمان
{الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} سماع تدبر وتفكر {وَالْمَوْتَى} الكفار؛ سماهم موتي: لأن حالهم كحالهم {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} يوم القيامة، ويوقفهم على النار؛ فيقولون:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان أو حيوان. والمراد بها هنا الحيوان {إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} تحتاج إلى تدبير رزقها ومعايشها، وتدل على خالقها المتكفل بأرزاقها؛ وفي الآية دليل على وجوب السير مع هذه الأمم بالحسنى، وعدم مجاوزة الحدود التي رسمها الله تعالى في معاملتها؛ ووجوب الرفق بها في سائر الحالات؛ أليست أمماً أمثالنا؟
وقد شغف أناس كثيرون من علماء الحيوان والنبات بدراسة هذه الأمم - من الحيوان والطير - فرأوا عجباً يضيق بصنعه بنو الإنسان فإنك لو أردت أن ترى آية في الاختراع، وغاية في الإبداع؛ لما وجدت أروع ولا أبدع من لوح الشمع الذي يصنعه النحل بنفسه؛ فإن الرسام المبدع لا يكاد يستطيع أن يرسم بأدواته وأقلامه ما رسمه النحل بتوفيق من ربه؛ وناهيك باختياره للورود والأزهار التي يرتشف منها الرحيق الذي يحوله - بقدرة ربه وإلهامه - إلى شراب مختلف الطعوم والألوان
هذا عدا النظام الدقيق الذي تسير عليه مملكة النحل؛ مما تعجز أساطين العقول البشرية عن الإتيان بمثله؛ فسبحان من خلقه وسخره، وأوحى إليه بأمره؛ فاستمع إلى وحي ربه؛ شأن فضلاء بني الإنسان
ولو تأملت إلى مملكة النمل، وما هي عليه من نظام محكم دقيق، لصغرت أمامك نفسك، وهانت عليك حكمتك وتدبيرك؛ فقد ثبت أنه من خير الأمم المنظمة؛ التي تدبر حيانها ومعيشتها، وتحفظ في يومها لغدها، وتثابر في عملها حتى تنال مرادها؛ وترى النمل إذا نزلت به نازلة، أو اجتاحته جائحة؛ لا تفتر عزيمته، ولا تنهار قوته؛ بل يعتبر النمل نفسه وحدة لا تتجزأ، وأنه يجب التضحية بالفرد لمصلحة المجموع؛ فكما يدفع الإنسان عن نفسه - ما يصيبه في هذه الحياة - بيده أو بأي عضو من أعضائه، ويضحي بزهرة أبنائه في سبيل الدفاع عن أرضه ووطنه؛ فكذلك النمل يضحي ببعضه في سبيل حياة باقية؛ فتراه إذا دهمه مطر أو سيل
فأودى بمنازله، وأطاح بمملكته؛ فجعلها خراباً يباباً؛ وصار الفناء الشامل، والهلاك المدمر قيد خطوة منه، حينئذ تراه يتجمع ألوفا مؤلفة، وملايين لا عداد لها فيتكور على نفسه، فيحمل السيل هذه المجموعات الهائلة منه حتى تستقر على اليابسة - بعد أن يبيد أكثرها اختناقاً وغرقاً - فيبدأ من نجا من أفراد هذه المملكة في العمل والإنشاء والتعمير، كأن لم تحل بهم داهية تذهب بلب الحكماء، وتعصف بعقول العقلاء وتراهم يبدأون بما فيه قوام حياتهم؛ فيلتقطون الحبوب - التي اختزنوها ونالتها مياه الأمطار - فيجففونها في الشمس خشية التلف، ويعيدونها إلى مخازنها التي أعدوها لها من قبل
والذي يبدو أن الله تعالى خلق هذه المخلوقات وأبدع هذه الكائنات؛ لخدمة بني الإنسان ومنفعته الخاصة؛ ولا تقف هذه المنافع عند المنفعة المادية فحسب، بل هناك منافع أدبية وتعليمية لا حد لها؛ فالمؤمن الصادق الإيمان يجب عليه أن يقلد هذه الأمم - التي هي دونه في الخلقة، وفوقه في الخلق - فلا يعيش لنفسه فقط، ولا يقصر جهده على ما يعود عليه وحده بالمنفعة؛ بل يجب أن يكون كالنحلة: دائب العمل لمصلحة الآخرين؛ فما من شك أن النحل يأكل من الثمار والأزهار ليحفظ نفسه وحياته؛ ولكنه لا يكتفي بهذا القدر؛ بل يسعى جاهداً لتوفير القوت والشراب لغيره
وكذلك النمل: فإن تدبيره لمعايشه؛ يفوق تدبير كثير من المخلوقات؛ فإن مثابرته وكده، وتضحية بعضه في سبيل بعضه؛ كل ذلك سخره الله تعالى ليستفيد منه بنو الإنسان ما يجعلهم أهلاً للخلافة في هذه الأرض؛ ليعمروها بالخير والبر فتبارك الخالق البارىء المصور؛ الهادي للحيوان، والمنعم على الإنسان فليتدبر ذلك من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (انظر آية 69 من سورة النحل){مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ} ما تركنا في اللوح المحفوظ {مِن شَيْءٍ} لم نثبته ونبينه {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ} يوم القيامة {يُحْشَرُونَ} يجمعون؛ فيقتص للجماء من القرناء؛ بل يقتص من بني الإنسان، ما فعله بالحيوان (انظر آية 40 من سورة النبأ)
{وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ} عن سماع الحق {وَبُكْمٌ} عن النطق به {فِي الظُّلُمَاتِ} ظلمة الكفر، وظلمة الضلال، وظلمة العصيان، وظلمة الجهل (انظر آية 17 من سورة البقرة){مَن يَشَإِ اللَّهُ} أن يضلله {يُضْلِلْهُ} بما قدمت يداه، من عصيان مولاه؛ بأن كذب بآيات الله، وأصم أذنيه عن سماعها، وحبس لسانه عن النطق بها، وتمرغ في أوحال الجهل والخبال؛ فليس له جزاء سوى النردى في الضلال {وَمَن يَشَأْ} أن يهده {يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} طريق قويم؛ هو الإيمان، الذي هو طريق الجنة
⦗ص: 157⦘
طريق النعيم المقيم
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} هي عند بعضهم بمعنى: أرأيتم.
وعند الآخرين بمعنى: أخبروني {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} الذي توعدكم به في الدنيا {أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ} القيامة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ليكشف ما حل بكم. والمعنى: هل يوجد عندئذ من يستطيع أن يمنعكم من عذاب الله تعالى، أو أن يدفع عنكم بأسه
{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} منه وحده تطلبون {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ} أي إن أراد أن يكشف ما نزل بكم {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} به في عبادته
{فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ} بالبؤس؛ وهو القحط والجوع {وَالضَّرَّآءِ} الضرر؛ وهو المرض، ونقصان الأنفس {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} إلينا فنكشف ما بهم
{فَلَوْلا} فهلا {إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} عذابنا {تَضَرَّعُواْ} تذللوا إلينا لنكشف عنهم ما نزل بهم؛ كعادتنا دائماً
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي تركوه فلم يعملوا به {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قوينا جسومهم، ووسعنا أرزاقهم، وبذلنا لهم المزيد من الخيرات والنعم؛ استدراجاً لهم {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ} فرح بطر وكفران، لا فرح شكر وإيمان {أَخَذْنَاهُمْ} بالعذاب {بَغْتَةً} فجأة. عن سيد الخلق صلوات الله تعالى وسلامه عليه «إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم» ثم تلا {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإًّذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} أي قانطون يائسون. يقال: أبلس من رحمة الله؛ إذا قنط؛ ومنه سمي إبليس. والإبلاس أيضاً: الانكسار والحزن
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ} استؤصلوا عن آخرهم {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}
أي بما أخذه منكم {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يعرضون
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} أرأيتم {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً} فجأة؛ بغير مقدمات، أو دلائل تدل على مجيئه؛ فقد تأتي النقمة من جهة الرحمة، وقد يحل القحط من جهة الرخاء؛ فقد يمطر السحاب ناراً، وقد تقذف الأرض حمماً {أَوْ جَهْرَةً} ظاهراً بمقدمات تدل على إتيانه. أو المراد:{بَغْتَةً} ليلاً، و {جَهْرَةً} نهاراً {فَمَنْ آمَنَ} ب الله {وَأَصْلَحَ} عمله
{قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ} فأملك التصرف فيها، والإعطاء منها {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} فأستكثر من الخير. وها هو الرسول الأعظم؛ سيد الخلق قاطبة يقول له ربه: أعلن على الملإ أنك لا تعلم الغيب؛ فا بال أقوام يدعون علم ما مضى، وما حضر، وما استقبل؟ وأعجب من ادعائهم هذا: أنهم يجدون من يصدقهم ويثق بأقوالهم؛ مع أنهم من كبار الدجاجلة، وقد جاء ذكرهم والتحذير منهم في شتى الأحاديث؛ فليحذر المؤمن من تمويههم وباطلهم؛ وليعلم أن الاستسلام لمثل أقوالهم ضرب من الكفر قال صلى الله عليه وسلم:
⦗ص: 158⦘
«من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ذهب بعضهم إلى تفضيل الملك على الرسول؛ بدليل هذه الآية. والآية الكريمة لا يؤخذ منها التفضيل؛ بل المراد نفي الأفعال الخارقة للعادة، والتي لا تتأتى إلا من الملائكة عليهم الصلاة والسلام {إِنْ أَتَّبِعُ} ما أتبع فيما أقول وأعمل {إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} من ربي {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى} الكافر {وَالْبَصِيرُ} المؤمن {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} في ذلك فتؤمنون