الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} في شك {مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ} وثوابه وعقابه؛ يوم القيامة {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ} قدرة وعلماً.
سورة الشورى
بسم الله الرحمن الرحيم
{حم *
عسق} (انظر آية 1 من سورة البقرة)
{كَذَلِكَ} أي مثل ما أوحينا إلى كثير ممن سبقك من الأنبياء
{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي يتشققن من ظلم العباد، وادعائهم أنلله شريكاً وولداً {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ} من عصاة المؤمنين؛ أما الكافرين فلا شفاعة لهم، ولا استغفار يقبل بشأنهم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
{مِن دُونِهِ} غيره تعالى {أَوْلِيَآءَ} يعبدونهم ويوالونهم {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي حافظ لما يقولون، وما يعملون؛ فمحاسبهم عليه
{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} مكة؛ لأنها أشرف البقاع، ومنها انتشر الدين {وَمَنْ حَوْلَهَا} يشمل سائر الأرض، وجميع الناس {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي تنذر بيوم الجمع؛ وهو يوم القيامة؛ لأن الخلائق تجمع فيه للحساب والجزاء {لَا رَيْبَ فِيهِ} لا شك في حدوثه ومجيئه؛ ويومئذٍ يكون الناس {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} وهم المؤمنون {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وهم الكافرون
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على دين واحد؛ وهو الإسلام {وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} في جنته ونعمته؛ لإيمانه بربه، واستجابته لرسله {وَالظَّالِمُونَ} الكافرون {مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ} ينفعهم {وَلَا نَصِيرٍ} ينصرهم من الله ويدفع عنهم عذابه
{أَمِ اتَّخَذُواْ} أي بل اتخذوا {مِن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَآءَ} وهم الأصنام {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} الحق؛ الذي يهدي من يتولاه في دنياه، وينجيه في أخراه
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أي إلى ما أنزل الله في كتابه؛ من الشرائع والأحكام {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في سائر أموري (انظر آية 81 من سورة النساء){وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجع في أموري كلها
{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خالقها من غير مثال سبق {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} لتسكنوا إليها جعل {أَزْواجاً} ذكراناً وإناثاً؛ لحفظ نسلها، وتمام نفعها لكم {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} يخلقكم ويكثركم؛ بواسطة التزاوج
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ملكهما. والمقاليد: المفاتيح، أو الأبواب، أو الخزائن {وَيَقْدِرُ} ويضيق
{شَرَعَ} بيَّن وأظهر {مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} ما شرعه لنوح عليه السلام؛ وهو أول الأنبياء شريعة
⦗ص: 592⦘
{أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ} لله وحده {وَلَا تَتَفَرَّقُواْ} لا تختلفوا {كَبُرَ} عظم، وشق {اللَّهُ يَجْتَبِي} يختار {إِلَيْهِ} إلى معرفته، وإلى دينه، وإلى توحيده {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} من يرجع إليه، ويقبل على طاعته، ويستمع إلى كلامه
{وَمَا تَفَرَّقُواْ} أي ما تفرق الناس في الدين؛ فآمن بعضهم، وكفر البعض الآخر {إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ} جميعاً {الْعِلْمُ} بالله تعالى، وبحقيقة توحيده، وصحة دينه، وصدق رسله. وهو علم مسقط للمعذرة، موجب للتكليف؛ وإنما كان كفر الكافرين {بَغْياً بَيْنَهُمْ} ظلماً واستعلاء، وطلباً للرئاسة. أو المراد بـ «العلم» الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. قال تعالى:{فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} (انظر آية 89 من سورة البقرة){وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} بتأخير العذاب {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وقت معلوم؛ وهو يوم القيامة {لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} بتعذيب المكذبين، وإهلاكهم في والدنيا {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ} أي نزل إليهم، وورثوا علمه؛ وهم اليهود والنصارى {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من محمد
{فَلِذَلِكَ} الدين القيم والإله الواحد {فَادْعُ} الناس {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} لا تعر مزاعمهم التفاتاً {وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ} عليّ، وعلى الرسل السابقين {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في الحكم - إذا تخاصمتم - وفي قسمة الغنائم، وفي كل ما تحتكمون إليَّ فيه {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي نحن نؤاخذ بأعمالنا، وأنتم تؤاخذون بأعمالكم؛ لا يؤاخذ أحدنا بعمل الآخر {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي لا حجة قائمة تحتجون بها علينا؛ وإنما هو عناد ومكابرة {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} وبينكم يوم القيامة {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فيثيب الطائع، ويأخذ العاصي
{وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ} يخاصمون {مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ} له أي بعد ما استجاب له الناس، ودخلوا في دين الله تعالى أفواجاً. أو من بعد ما قامت الحجج الظاهرة، والبراهين القاطعة؛ على وجوده تعالى ووحدانيته وبذلك وجبت الاستجابة له؛ والإيمان به {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} باطلة ساقطة
{بِالْحَقِّ} بالصدق، وأنزل {وَالْمِيزَانَ} أقام العدل، وأمر به؛ لأن الميزان: آلة الإنصاف والعدل. وربما أريد بالميزان: العقل؛ لأن به توزن الأمور، ويفرق بين الخير والشر، والحق والباطل
{مُشْفِقُونَ} خائفون {يُمَارُونَ} يجادلون
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} بالعاصي منهم والطائع، والكافر والمؤمن؛ يرزق كلا النوعين، ويمتع كلا الصنفين: لطف بأوليائه حتى عرفوه؛ ولو لطف بأعدائه لما جحدوه وإنما كان لطفه بهم من ناحية الرزق والحفظ {وَهُوَ الْقَوِيُّ} على مراده {الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يغلب
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ} أي ثوابها. لما كان العامل في هذه الدنيا كالزارع الذي خدم الأرض وسقاها: جعل جزاؤه وثوابه على عمله في الآخرة كالحرث
{أَمْ لَهُمْ} أي للمشركين {شُرَكَاءُ} آلهة {شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} كالشرك، ونسبة الولد إليه تعالى {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} أي القضاء السابق بتأخير الجزاء ليوم القيامة {لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} بالعقوبة التي يستحقونها {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين
{مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا كَسَبُواْ} من جزاء ما عملوا من المعاصي {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي نازل بهم العذاب، الذي هو جزاء ما كسبوا
{قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي لا أسألكم على التبليغ أجراً؛ إلا أن تودوا قراباتكم، وتصلوا أرحامكم. وقيل: المراد بالقرابة: قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهو مردود؛ لأن مودة قرابة الرسول - ولو أنها فرض على كل مؤمن - فإنها تعتبر أجراً على التبليغ، وسياق القرآن الكريم ينافي ذلك في سائر مواضعه. وقيل:
{إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي إلا أن تودوني وتكفوا عن إذايتي؛ لقرابتي منكم {وَمَن يَقْتَرِفْ} يكتسب {حَسَنَةً} طاعة {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا} في أجرها {حُسْناً} أي نضاعفها له
{فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي يربط عليه بالصبر على أذاهم، وتكذيبهم لك {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بمكنونات القلوب
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} توبة العبد: هو أن يندم على ما ارتكبه من الذنوب، ويعيد ما فاته من الفرائض، ويرد ما اكتسبه من المظالم
{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي يجيبهم الله تعالى إلى ما يسألونه. واستجاب، وأجاب بمعنى {وَيَزِيدُهُم} فوق مطلوبهم
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ} أي لو أغناهم: لاستكبروا وظلموا {وَلَكِن يُنَزِّلُ} الرزق {بِقَدَرٍ} بتقدير {مَّا يَشَآءُ} فيبسطه لأناس: يستحقون البسط، أو لا يستحقونه؛ جديرون بالإكرام، أو غير جديرين به. ويقبضه عن أناس: يستوجبون القبض، أو لا يستوجبونه؛ جديرون بالامتهان، أو غير جديرين به. وفي كلا الحالين: هو الحكيم العليم؛ الذي يعلم ما يصلح عباده، وما لا يصلحهم. جاء في الحديث القدسي:«إن من عبادي من إذا أغنيته لفسد حاله، ومنهم من إذا أفقرته لفسد حاله» {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ} بما يصلحهم {بَصِيرٌ} بحاجاتهم؛ أكثر من إبصارهم لها
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} المطر {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} أي من بعد يأسهم وقنوطهم من نزوله. وسمي المطر غيثاً: لأنه يغيث الناس من الفقر والجوع. ولذا سمي الكلأ غيثاً: لأنه يغيث الماشية {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} يبسط رزقه بالإنبات؛ الذي هو نتيجة للمطر {وَهُوَ الْوَلِيُّ}
الذي ينصر أولياءه، ويواليهم {الْحَمِيدُ} المحمود على أي حال: في السراء والضراء، والنعماء والبأساء
{وَمَا بَثَّ} فرق، ونشر {فِيهِمَا} أي في السموات والأرض {مِن دَآبَّةٍ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض: من إنسان، وحيوان، وطائر، ونحو ذلك. وقد يقال: هذا بالنسبة لما يدب على وجه الأرض؛ فما الذي يدب في السموات؟ والجواب على ذلك: إن كل ما علاك؛ فهو سماء: فالكواكب، والأنجم، والأفلاك: سموات؛ والذي يدب فيها: هو ما يدب على أرض تلك السموات من سكان وأملاك، لا يعلمها سوى بارئها سبحانه وتعالى
{وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ} بلية، وشدة؛ في المال، أو في الأهل، أو في الجسم {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} من المعاصي {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ولولا عفوه تعالى؛ لأحاط بكم البلاء من كل جانب، ولحلت بكم الأرزاء من كل صوب
{وَمِنْ آيَاتِهِ} الدالة على قدرته {الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلَامِ} السفن التي تجري في البحر كالجبال
{إِن يَشَأْ} تعالى {يُسْكِنِ الرِّيحَ} التي تدفع السفن، أو يمنع خاصية الماء في حملها؛ فيتخلى عما على ظهره {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ} ثوابت لا تجري {عَلَى ظَهْرِهِ} أو غرقى في قعره وهو أمر مشاهد محسوس؛ فقد تكون سفينة من أضخم البواخر؛ وأقوى المواخر: فيدركها أمر الجبار القهار؛ فتنهار في قعر البحار: بغير سبب ظاهر سوى إرادته، ولا علة غير مشيئته وكيف تقوى على السير؛ وقد تخلى عن حفظها القدير الحكيم؟ وقد تكون سفينة أخرى من أخس المراكب، وأحقر القوارب: تسير في خضم الأمواج، وسط العجاج؛ كالسهم المارق، وكالسيل الدافق؛ وما ذاك إلا بحفظ الحفيظ العليم، الرحمن الرحيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} دلالات على قدرته تعالى {لِّكُلِّ صَبَّارٍ}
كثير الصبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى البلاء الذي يقدره الله تعالى {شَكُورٍ} كثير الشكر على ما يوليه المولى من فضله وأنعمه
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ} يهلكهن بالإغراق {بِمَا كَسَبُوا} بما عملوا من الذنوب
{فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ} نعمة في هذه الحياة {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الزائل الفاني {وَمَا عِندَ اللَّهِ} من نعيم الآخرة {خَيْرٌ} من متاع الحياة الدنيا {وَأَبْقَى} لأنه دائم؛ لا انقطاع له أبداً
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} كبائر الذنوب {وَالْفَوَاحِشَ} الذنوب الفاحشة: كالزنا، والقتل. أو هي كل موجبات الحدود {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} أي إذا أغضبهم أحد: عفوا عنه، وتجاوزوا عن ذنبه
{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وصف تعالى المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم؛ ليدل على أن أرقى النظم وأسماها: هي النظم الديمقراطية، وأن الاستبداد، في الحكومات ليس من نظام الدين، ولا من شأن المؤمنين وأن الدول التي تسير بالنظم البرلمانية: هي أولى الحكومات بالتقدير والإكبار؛ ولله در القائل:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر
فالحق لا يخفى على إثنينللمرء مرآة تريه وجهه
ويرى قفاه بجمع مرآتين
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} يتصدقون، وينفقون ابتغاء وجهه تعالى
{وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} وقع عليهم الظلم {هُمْ يَنتَصِرُونَ} ينتقمون ممن ظلمهم: غير متجاوزين الحد، ولا مسرفين في الانتقام {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} لما قال سبحانه وتعالى:{وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} وكانت الآية مطلقة: آمرة بالغفران من غير قيد ولا شرط؛ وربما تغالى الآخذ بها؛ فصار ذليلاً، مهاناً، جباناً: ينال منه عدوه؛ فلا يحرك ساكناً؛ فتهون نفسه عليه. وقديماً قال الشاعر:
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
هواناً بها؛ كانت على الناس أهونا
لذا ألحقها تعالى بهذه الآية:
{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} من غير بغي، ولا إسراف {فَمَنْ عَفَا} عمن ظلمه: خشية استفحال الضرر، وكبحاً لجماح الشر، ورجاء أن يعود الباغي عن بغيه، والظالم عن ظلمه {وَأَصْلَحَ} قلبه ومعاملته؛ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم {فَأَجْرُهُ} فجزاء عفوه وحلمه {عَلَى اللَّهِ} يكافئه عليه في الدنيا والآخرة
{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} أي إن من أخذ حقه ممن ظلمه، وعاقب بمثل ما عوقب به: ليس لأحد عليه من سبيل لمعاقبته، أو معاتبته وبعد ذلك غلب الحليم الغفار: العفو، والحلم، والصبر، والمغفرة؛ قال تعالى:
{وَلَمَن صَبَرَ} على أذى الغير؛ فلم ينتصر لنفسه، ولم يوسع دائرة الشر، ويذكي نيران العداوة والبغضاء {وَغَفَرَ} تجاوز عن ذنب من أذنب في حقه؛ واستبدل عداوته حباً، وبعده قرباً {إِنَّ ذَلِكَ} الصبر، والحلم، والغفران {لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي من الأمور المستحبة، المؤدية إلى الخير دائماً
{وَتَرَى الظَّالِمِينَ} يوم القيامة {لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} المعد لهم {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ} رجوع إلى الدنيا {مِّن سَبِيلٍ} يطلبون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}
{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي على النار {خَاشِعِينَ} خاضعين ذليلين؛ من شدة الهول والرعب {يَنظُرُونَ} إلى النار {مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} ذليل؛ كما ينظر المحكوم عليه إلى سيف
⦗ص: 597⦘
الجلاد {إِنَّ الْخَاسِرِينَ} حقاً هم {الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بوقوعها في الجحيم، والعذاب الأليم خسروا
{أَهْلِيهِمْ} وذلك لأن أهلهم إذا كانوا صلحاء: فهم في الجنة، وإذا كانوا غير صلحاء: فهم في النار؛ فلا انتفاع بهم في كلا الحالتين. أو خسروا أهليهم من الحور العين
{اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ} أجيبوه لما دعاكم إليه {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ} من إنكار؛ أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه؛ إذ أن سمعكم، وأبصاركم، وأيديكم، وأرجلكم وجلودكم؛ ستشهد عليكم بما كسبتم
{فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} تحفظ أعمالهم، وتلزمهم بما لا يريدون {رَحْمَةً} نعمة، وغنى وصحة {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلاء، وفقر، ومرض {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي بسبب معاصيهم {فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} يئوس قنوط: يعدد مصائبه، وينسى أنعم الله تعالى عليه {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وما فيهما؛ خلقاً، وملكاً، وعبيداً {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} هو؛ لا ما يشاؤه الناس {يَهَبُ} بفضله {لِمَن يَشَآءُ} أن يهب له {إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} حسب حاجة الكون والبشرية؛ لا وفق هوى الوالدين؛ وذلك بالقدر الذي يكفل عمار الدنيا، وحفظ النوع الإنساني
{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً} أو يهب لمن يشاء الصنفين: ذكراناً وإناثاً {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} لا نسل له {إِنَّهُ عَلِيمٌ} بما يجب أن يكون {قَدِيرٌ} على كل شيء يريده
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} أي وما صح لأحد من البشر {أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً} إلهاماً، أو رؤيا في المنام؛ لأنها وحي. قال تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}
…
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن} كتكليم موسى عليه السلام: سماع بدون رؤية. والمقصود بالحجاب: حجب السامع، لا المتكلم. تعالى الله عن أن يحجبه حاجب، أو يستره ساتر {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} الرسول: هو جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لأنه رسول الله تعالى إلى أنبيائه (انظر آية 22 من سورة الروم)
⦗ص: 598⦘
{إِنَّهُ عَلِيٌّ} عظيم، متعالٍ عن صفات المخلوقين {حَكِيمٌ} في صنعه: لا يعمل إلا ما تقتضيه المصلحة، وتستوجبه الحاجة