الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة محمد عليه الصلاة والسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَصَدُّواْ} منعوا وصرفوا {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أحبطها وأبطلها؛ وذلك كإطعام الطعام؛ ولين الكلام، وصلة الأرحام، وبر الأيتام؛ فلا يجدون ثواباً لذلك في الآخرة؛ لأن الله تعالى عجل لهم جزاء أعمالهم في الدنيا
{كَفَّرَ عَنْهُمْ} غفر لهم ذنوبهم، ومحا {سَيِّئَاتِهِمْ} في الآخرة {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} في الدنيا؛ فتجد المؤمن - وقد تلفع بالفقر، وتسربل بالمصائب - هادىء البال، قرير العين، مطمئن القلب، ساكن النفس
{ذَلِكَ} الإضلال والإحباط، والتكفير والإصلاح {بِأَنَّ} بسبب أن {الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ} ولم يجيبوا داعيالله؛ فاستحقوا الإضلال {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ} فاستوجبوا تكفير ذنوبهم، وإصلاح بالهم {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} فالكافر يحبط عمله، والمؤمن يغفر زلله
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} في ساحة القتال {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أي فاضربوا رقابهم واقتلوهم {حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم فيهم القتل. والإثخان: المبالغة في الجراحة والتوهين {فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ} أي فأسروهم. قال تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} أي حتى يبالغ في النيل من أعداء الله والبطش بهم؛ ليشرد بهم من خلفهم، وليكونوا عبرة لغيرهم {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ} أي فإما أن تمنوا على الأسرى بالإطلاق؛ فتكون لكم يد عليهم، وجميل في أعناقهم {وَإِمَّا فِدَآءً} وإما أن تأخذوا منهم الفدية {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي تضع أثقالها؛ من السلاح وغيره؛ بأن يسلم الكفار، أو يدخلوا في العهد
{وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي لأهلكهم بغير قتال {وَلَكِن} جعل عقوبتهم في القتال {لِّيَبْلُوَ} ليختبر {بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ليعلم المجاهدين والصابرين
{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي التي عرفها لهم، وبشرهم بها في الدنيا على لسان رسله
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ} أي تنصروا دينه ورسله وتعاليمه. ومن نصرة الله تعالى: إقامة الحق، وعدم كتمان الشهادة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر {يَنصُرْكُمْ} على أعدائكم، وعلى أنفسكم، وعلى الشيطان الرجيم {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} عند مجاهدة العدو، ومجاهدة النفس
{ذَلِكَ} الهلاك والخيبة {بِأَنَّهُمُ} بسبب أنهم {كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ} كرهوا القرآن، وما اشتمل عليه من شرائع وتكاليف، وأوامر ونواه {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أبطلها {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} من الكفار
{دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي أهلكهم هلاك استئصال {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} أي أمثال عاقبة من قبلهم من العذاب والتدمير
{ذَلِكَ} الإحباط والتدمير {بِأَنَّ} بسبب أن {اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ} وليهم وناصرهم، وحافظهم، وكافلهم؛ لأنهم يتوكلون عليه، وينيبون إليه {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} ينصرهم؛ أو يحفظهم؛ لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ووكلهم إليها وإلى شياطينهم
{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ} في الدنيا {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} التي تأكل وهي غير عابئة بعاقبتها، ولا حاسبة لمآلها حساباً. ومآلها النحر والذبح والمهانة
{وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} أي منزل ومقام ومصير
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} حجة واضحة، وبرهان ظاهر. وهو المؤمن {كَمَن زُيِّنَ} زينت {لَهُ} نفسه وشيطانه {سُوءُ عَمَلِهِ} وهو الكافر {وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ} ولم يتبعوا ربهم
{مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ} غير متغير الطعم، أو الرائحة، أو اللون؛ كماء الدنيا {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} أي ليست كخمر الدنيا: رديئة الطعم، شنيعة الرائحة {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} لا تشوبه شائبة. قد يقول قائل: وما لذة تناول العسل لمن لا يتقبله في الدنيا؛ أو لا يطيق الإكثار منه؟ والجواب على ذلك: أن الله تعالى ساق لعباده في جنته كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين؛ وقد تعاف بعض النفوس ما يشتهى، وتتأذى بعض العيون بما يتلذذ به:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
وحينما تشتفي النفوس من أمراضها، والأعين من أرمادها؛ فإنها تعود إلى طبيعتها السليمة: فتشتهي ما يشتهى، وتلذ بما يتلذذ منه. والعسل من أفضل أنواع الحلوى: مذاقاً، ولوناً، وريحاً، ونفعاً {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} والمغفرة خير من سائر النعيم وهذا مثل المؤمن وما يلقاه من كرم مولاه أما مثل الكافر {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أي أمن هو خالد في النعيم المقيم؛ كمن هو خالد في العذاب الأليم؟ {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً} بالغاً نهاية الحرارة
{وَمِنْهُمْ} أي من الكفار والمنافقين {مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} حين تقرأ القرآن، أو تخطب للجمعة، أو تعظ المؤمنين {قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وممن آمن من أهل الكتاب {مَاذَا قَالَ آنِفاً} أي ماذا قال الآن {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} غطاها عقوبة لهم؛ فلا تسمع ولا تعي
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ} بهداية الله ورسوله وكتابه {زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} أي آتاهم جزاء تقواهم؛ أو ألهمهم من الأعمال ما يتقون به غضبه وناره
{فَهَلْ يَنظُرُونَ} ما ينتظرون {إِلَاّ السَّاعَةَ} القيامة {بَغْتَةً} فجأة {أَشْرَاطُهَا} علاماتها {فَأَنَّى لَهُمْ} فكيف لهم {إِذَا جَآءَتْهُمْ} الساعة {ذِكْرَاهُمْ} تذكرهم. أي لا ينفع تذكرهم وإيمانهم بعد مجيء الساعة، أو مجيء أشراطها؛ حيث لا يقبل اعتذار، ولا استغفار
{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} إشارة إلى أن العمل يكون بعد العلم؛ كما في قوله جل شأنه: {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} وقال بعد ذلك {سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} .
⦗ص: 625⦘
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} سيركم وسعيكم في معايشكم ومتاجركم {وَمَثْوَاكُمْ} مأواكم إلى مضاجعكم بالليل. أو «متقلبكم» أعمالكم في الدنيا «ومثواكم» جزاءكم في الآخرة. والمعنى أنه عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه تعالى شيء منها
{لَوْلَا} هلا {مُّحْكَمَةٌ} أي غير متشابهة؛ بل واضحة لا تحتمل التأويل. وقيل: كل سورة نزل فيها القتال فهي محكمة لم ينسخ منها شيء. وذلك لأن القتال ناسخ للصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} شك؛ وهم المنافقون {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} لشدة جبنهم، ومزيد خوفهم {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} وذلك لأن الميت يشخص بصره كالمذعور {فَأَوْلَى لَهُمْ} تهديد ووعيد. أو المعنى: فخير لهم
{طَاعَةٌ} لك {وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} للمؤمنين {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} أي فرض القتال ووجب {فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ} وجاهدوا في سبيله. واتبعوا أوامره {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} من القعود عن الجهاد، والنكوص والنفاق؛ لأن نتيجة الجهاد: الاستشهاد - وهو الفوز الأكبر - أو الظفر والغنيمة
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أي فلعلكم {إِن تَوَلَّيْتُمْ} الأمر والحكم، أو «إن توليتم» بمعنى أعرضتم عن الإيمان والطاعة {أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ} بالعصيان، والقتل، والظلم، وأخذ الرشوة {وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} تعادوا أهليكم ولا تبروهم
{أُوْلَئِكَ} الذين تعاموا عن الحق، وأفسدوا في الأرض: هم {الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم من رحمته {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماع الهدى {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} عن الصراط المستقيم
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} فيعرفون ما فيه {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} أم قلوبهم مقفلة لا يدخلها الهدى، ولا يصل إليها الذكر
{سَوَّلَ} زين {وَأَمْلَى لَهُمْ} أي مد لهم في الآمال والأماني، أو أملى لهم الشيطان الكفر والفسوق والعصيان
{ذَلِكَ} الإضلال الواقع عليهم {بِأَنَّهُمُ} بسبب أنهم {قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ} أي للمشركين؛ لأنهم كرهوا القرآن الكريم، وكرهوا الاستماع إليه. قالوا لهم {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} أي في عداوة الرسول، وتثبيط الناس عن الجهاد معه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} ما أسروه من ذلك فيما بينهم
{فَكَيْفَ} بهم {إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ} يعني إذا لم يصبهم العذاب في الدنيا؛ فإن الموت لاحق بهم لا محالة. فكيف يكون حالهم عند الموت، والملائكة {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ظهورهم. والمراد أن العذاب ينزل حينذاك على سائر أعضائهم
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ} عليهم {وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ} أي كرهوا العمل بما يرضيه {فَأَحْبَطَ} أبطل {مَّرَضٌ} شك ونفاق
{وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ} على حقيقتهم {فَلَعَرَفْتَهُم} عرفت سرائرهم، كما عرفت ظواهرهم {بِسِيمَاهُمْ} بعلاماتهم {فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} فحواه ومعناه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} ما خفي منها وما ظهر، وما أريد به وجهه الكريم، وما أريد به الفخر والمراءاة
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنختبرنكم بالقتال {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} نعلم ونظهر أسراركم، وخفايا قلوبكم
{وَصَدُّواْ} منعوا الناس {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} دينه {وَشَآقُّواْ} خاصموا وخالفوا {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} ظهرت شواهده، وبانت دلائله؛ وهل بعد إرسال الرسل بالمعجزات، والكتب بالبينات، وإنزال الآيات تلو الآيات. هل بعد جميع ذلك تحتاج معرفة الله تعالى إلى تبيان أو برهان؟ {وَسَيُحْبِطُ} يبطل
{فَلَا تَهِنُواْ} تذلوا وتجبنوا {وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ} إلى الصلح بعد بدء القتال {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} الغالبون {وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي ولن ينقصكم أجر أعمالكم