الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
{الر} (انظر آية صلى الله عليه وسلم من سورة البقرة){كِتَابٌ} قرآن {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} بما احتوته من عجيب النظم، وبليغ اللفظ، وبديع المعاني؛ لا خلل فيها ولا خطل {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بينت بالأحكام، والمواعظ، والوعد، والوعيد، والثواب والعقاب، والقصص {مِن لَّدُنْ} من عند {حَكِيمٍ} محكم للأمور {خَبِيرٍ} بكل ما كان وما يكون
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} من الشرك والكبائر {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} من ذنوبكم. وقدم تعالى الأمر بالاستغفار: لأن المغفرة هي الغرض، والتوبة هي السبب المؤدي إلى المغفرة {يُمَتِّعْكُمْ} في الدنيا {مَّتَاعاً حَسَناً} بسعة الرزق، ورغد العيش؛ فإن لم يرزقهما التائب المستغفر رزق ما هو خير منهما: رزقه الله تعالى القناعة والرضا. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه:
غنى بلا مال عن الناس كلهموليس الغنى إلا عن الشيء لا به
ورزقه الله تعالى أيضاً السرور والحبور؛ فتعالى الغني المغني، اللطيف الخبير وهذا المتاع الحسن {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو انقضاء الأجل، وتحقيق الأمل؛ وكمال السعادة، وتمام السيادة، وتوفية الأجر الذي وعد به الكريم، وتفضل به على عباده المؤمنين التائبين {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي جزاء فضله {وَإِن تَوَلَّوْاْ} تتولوا وتعرضوا.
{أَلا إِنَّهُمْ} وصف للمنافقين {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يطوون قلوبهم على عداوة المؤمنين وبغضهم. أو المراد: ينصرفون ويعرضون عن سماع الحق {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} أي من الله؛ ظناً منهم أنه تعالى لا يرى سرائرهم، أو {لِيَسْتَخْفُواْ} من الرسول {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يتغطون بها؛ كراهة استماع كلام الله تعالى. وهذا كقول نوح عليه الصلاة والسلام {جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ} والله تعالى {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما حوته القلوب
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ} الدابة: كل ما يدب على وجه الأرض؛ من إنسان وحيوان وطائر {إِلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} تكفل به تعالى لكل ذي روح؛ فانظر - يا رعاك الله - كيف يرزق مولاك الطير في الهواء، والسمك في الماء، والدودة في الصخرة الصماء وانظر إلى رزقه للإنسان، رغم أنه دائب العصيان، دائم الكفران فإن الأسماك في البحار لتكاد تلقي بنفسها بين يديه؛ ليملأ بها شدقيه والطير يهجر أوطانه، ويترك أخدانه، وينتقل من بلد فيه نشأ، وفي أرضه درج؛ فيسبح في الهواء آلاف الأميال؛ ليلقي عصا الترحال، على مائدة بني الإنسان؛ وبعد ذلك فإن هذا الإنسان - بعد موته - يكون طعاماً لغيره مما خلق الله تعالى من الدواب التي تكفل برزقها، وضمن حياتها حتى تنتهي آجالها. فأي نظام هذا الذي وضعه العلي القدير، ونظمه الحكيم الخبير؟ هو بعد ذلك {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي مستقر كل دابة خلقها {وَمُسْتَوْدَعَهَا} والمستقر: موضع القرار؛ من مكان، أو مسكن في الأرض. والمستودع: مكانها في الصلب والرحم، أو مكانها في الأرض حين تدفن بعد موتها {كُلِّ} من الدواب، والرزق، والمستقر، والمستودع {فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} بين وهو اللوح المحفوظ
{وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} وما فيهما {لِيَبْلُوَكُمْ}
ليختبركم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فيجزي عليه الجزاء الأوفى {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ} ومجزيون على أعمالكم {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ} أي ما هذا القرآن المحتوي على ذكر البعث {إِلَاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} بيِّن السحر واضحه. وقرأ حمزة وعلي {سَاحِرٌ} ويكون المراد به الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. والساحر: الكاذب المبطل
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ} مدة من الزمن {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي ما يمنع العذاب من النزول؟ {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} العذاب {لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} أي لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} من العذاب ويقولون:«ما يحبسه»
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} نعمة وفضلاً {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} امتحاناً له {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} قنوط من رحمة الله تعالى {كَفُورٌ} به
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ
⦗ص: 264⦘
نَعْمَآءَ} غنى وسعة {بَعْدَ ضَرَّآءَ} فقر وشدة {مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} أي انقطع الفقر والضيق {إِنَّهُ} عندئذ {لَفَرِحٌ} فرح بطر وكبر؛ لا فرح نعمة وشكر {فَخُورٌ} على الناس، متكبر عليهم، مستهين بهم
{إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُواْ} على الضراء، وشكروا ربهم في سائر حالاتهم {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} في النعماء، ولم ينكروا أنعم الله تعالى عليهم، وفضله الواصل إليهم ولا يخفى أن أولى الأعمال الصالحة وأولاها: البذل والصدقة {
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا} وذلك لأنهم كانوا يتلقون الوحي - عند نزوله - بالطعن والاستهزاء؛ فنزلت هذه الآية لفتاً لأنظارهم؛ وليعلموا أنهم مهما سخروا، ومهما استهزؤا، فإن الله بالغ أمره، وإن رسوله مبلغ رسالته {وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} كراهة استهزائهم، وكراهة {أَن يَقُولُواْ لَوْلَا} هلا {أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يؤيده في رسالته؟ قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ} منذر لهم بما أعددته للكافرين، من عذاب أليم
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} اختلق القرآن {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} (انظر آية 23 من سورة البقرة){مُفْتَرَيَاتٍ} مختلقات {وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} لمعاونتكم {مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره
{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي لم يجبكم من استعنتم بهم للإتيان بمثل هذا القرآن؛ وبان لكم عجزكم جميعاً عن الإتيان بمثله {فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ} هذا القرآن {بِعِلْمِ اللَّهِ} وإرادته؛ لا باختلاق مختلق، ولا بافتراء مفتر {وَأَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} بعد ظهور هذه الدلالات والحجج القاطعة
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} ويرغب في الحصول على المزيد من ملذاتها؛ ضارباً صفحاً عن الآخرة وما يوصل إليها من الإيمان وصالح الأعمال؛ فأولئك {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي نجزهم في الدنيا على ما عملوه فيها من عمل صالح: كبر الوالدين، وحسن المعاملة، وأمثال ذلك {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} لا ينقصون شيئاً مما عملوه؛ فيجزون بمزيد من المال والصحة
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ} بطل {مَا صَنَعُواْ فِيهَا} أي في الدنيا؛ لأن أعمالهم لم يقصد بها وجه الله تعالى؛ بل قصد بها التفاخر والاستكثار
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} على برهان من الله، وحجة بينة عقلية: أن دين الإسلام حق {وَيَتْلُوهُ} يتبعه {شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي من الله تعالى؛ يشهد بصدقه؛ وهو القرآن الكريم.
⦗ص: 265⦘
{وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} التوراة {إَمَاماً} الإمام: الجامع للخير، المقيم على الحق {أُوْلَئِكَ} أي الذين هم على بينة من ربهم {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالقرآن {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ} من الكفار؛ وسموا أحزاباً: لأنهم تحزبوا على معاداة الرسول {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} شك
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنِ افْتَرَى} اختلق {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} أي الشهود؛ الذين شاهدوا كفرهم: من الملائكة والنبيين {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} بنسبة الولد والشريك إليه
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يمنعون الناس عن دينه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} يصفونها بالاعوجاج، أو يتمنون أن تكون معوجة
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} فائتين أو غالبين {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ} غيره {مِنْ أَوْلِيَآءَ} يمنعونهم من عذاب الله تعالى وينصرونهم؛ ولكنه تعالى أراد إنظارهم، وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} فيه {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} لما كانوا - لانصرافهم عن استماع الحق، وتعاميهم عنه - كمن لا يسمع ولا يرى: عبر عنهم بعدم استطاعة السمع والإبصار
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ} لأنهم أوقعوها في العذاب الدائم، والنار المؤبدة {وَضَلَّ عَنْهُمْ} غاب {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يختلقون على الله تعالى من دعوى الشريك
{لَا جَرَمَ} لا بد ولا محالة
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} لأن الإيمان بغير عمل صالح: لا يعتد به.
⦗ص: 266⦘
{وَأَخْبَتُواْ} اطمأنوا {إِلَى رَبِّهِمْ} وانقطعوا إلى عبادته، ووثقوا بأجره وجزائه ورحمته
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} المؤمنين والكافرين: فمثل الكافر {كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ} لأنه لا يستفيد بما يرى، ولا بما يسمع {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} وهو مثل المؤمن؛ لأنه رأى بديع صنع الله تعالى وملكوته؛ فأقر بوحدانيته. وسمع آياته؛ فآمن به {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} وكيف يستوي الضدان؟ وقد اهتدى المؤمن بهدى الله، وآمن برسله وكتبه، وعمل بأمره، وانتهى بنهيه كيف يستوي هذا ومن تعامى عن الحق، وركب رأسه، واتبع هواه، وأكب على دنياه {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أفلا تتذكرون بهذه الأمثلة ما يجب اتباعه وما لا يجب؟ وتعلمون الحق فتتبعونه
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} في الدنيا؛ أو أريد به يوم القيامة؛ أو هما معاً
{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} أي أسافلنا؛ وغاب عنهم أنهم هم الأسافل ولكن لا يعلمون. وقد يقصد بالأراذل: الفقراء - رغم أنهم أحباء الله تعالى وأسباب جنته - فبإكرامهم تستمطر الرحمات، وبالإحسان إليهم تجتلب البركات وبارضائهم يرضى الغني على عباده؛ فيهبهم رحمته، ويدخلهم جنته
هذا والغنى من أهم أسباب البعد عن الله: إذا لم يكن مقروناً بالشكر والإنفاق؛ والفقر من أسباب القرب إلى الله: إذا كان مقروناً بالرضا والصبر؛ فإذا انعدما: كان الفقير مبعداً من الله تعالى؛ وبذلك يكون خاسراً لدنياه وآخرته و {ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} جعلنا الله تعالى من الشاكرين في النعماء، الصابرين في الضراء {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي اتبعوك ابتداء من غير روية ولا تفكر {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فتستحقون به أن نتبعكم
{قَالَ} نوح {يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} حجة واضحة {مَنِ} هداية ونبوة خفيت {عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي أنجبركم على قبولها واتباعها قسراً
{وَيقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ} لفقرهم {إِنَّهُمْ مُّلَاقُو رَبِّهِمْ} فآخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم.