المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة المائدة   بسم الله الرحمن الرحيم - أوضح التفاسير - جـ ١

[محمد عبد اللطيف الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌4

- ‌سورة آل عمران

- ‌ 1

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌2

- ‌33

- ‌سورة الأنعام

- ‌ 1

- ‌59

- ‌سورة الأعراف

- ‌ 1

- ‌سورة الأنفال

- ‌سورة التوبة

- ‌سورة يونس

- ‌ 1

- ‌سورة هود

- ‌ 32

- ‌سورة يوسف

- ‌ 1

- ‌سورة الرعد

- ‌ 1

- ‌8

- ‌سورة إبراهيم

- ‌ 1

- ‌سورة الحجر

- ‌ 1

- ‌سورة النحل

- ‌32

- ‌سورة الإسراء

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة مريم

- ‌ 1

- ‌سورة طه

- ‌8

- ‌سورة الأنبياء

- ‌سورة الحج

- ‌سورة المؤمنون

- ‌41

- ‌سورة النور

- ‌2

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌ 1

- ‌سورة النمل

- ‌ 1

- ‌8

- ‌65

- ‌سورة القصص

- ‌ 1

- ‌80

- ‌سورة العنكبوت

- ‌ 1

- ‌سورة الروم

- ‌ 1

- ‌سورة لقمان

- ‌ 1

- ‌سورة السجدة

- ‌ 1

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة سبإ

- ‌5

- ‌سورة فاطر

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة ص

- ‌ 1

- ‌سورة الزمر

- ‌5

- ‌سورة غافر

- ‌7

- ‌سورة فصلت

- ‌ 1

- ‌5

- ‌سورة الشورى

- ‌سورة الزخرف

- ‌ 1

- ‌سورة الدخان

- ‌ 1

- ‌سورة الجاثية

- ‌سورة الأحقاف

- ‌سورة محمد عليه الصلاة والسلام

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌سورة ق

- ‌سورة الذاريات

- ‌سورة الطور

- ‌سورة النجم

- ‌سورة القمر

- ‌سورة الرحمن

- ‌7

- ‌سورة الواقعة

- ‌سورة الحديد

- ‌6

- ‌سورة المجادلة

- ‌6

- ‌سورة الحشر

- ‌سورة الممتحنة

- ‌سورة الصف

- ‌6

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقون

- ‌سورة التغابن

- ‌9

- ‌سورة الطلاق

- ‌7

- ‌سورة التحريم

- ‌5

- ‌6

- ‌سورة الملك

- ‌سورة القلم

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة المعارج

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌سورة المزمل

- ‌سورة المدثر

- ‌سورة القيامة

- ‌سورة الإنسان

- ‌4

- ‌سورة المرسلات

- ‌سورة النبإ

- ‌سورة النازعات

- ‌سورة عبس

- ‌سورة التكوير

- ‌سورة الانفطار

- ‌سورة المطففين

- ‌سورة الانشقاق

- ‌سورة البروج

- ‌سورة الطارق

- ‌سورة الأعلى

- ‌سورة الغاشية

- ‌سورة الفجر

- ‌سورة البلد

- ‌سورة الشمس

- ‌سورة الليل

- ‌سورة الضحى

- ‌7

- ‌سورة الشرح

- ‌سورة التين

- ‌5

- ‌سورة العلق

- ‌5

- ‌سورة القدر

- ‌سورة البينة

- ‌سورة الزلزلة

- ‌سورة العاديات

- ‌7

- ‌سورة القارعة

- ‌سورة التكاثر

- ‌سورة العصر

- ‌سورة الهمزة

- ‌سورة الفيل

- ‌3

- ‌سورة قريش

- ‌سورة الماعون

- ‌سورة الكوثر

- ‌سورة الكافرون

- ‌سورة النصر

- ‌سورة المسد

- ‌سورة الإخلاص

- ‌سورة الفلق

- ‌سورة الناس

الفصل: ‌ ‌سورة المائدة   بسم الله الرحمن الرحيم

‌سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 124

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} هو أمر بالوفاء بكل عقد. والعقد: كل اتفاق يتم بين اثنين فأكثر؛ مكتوباً كان أو غير مكتوب: فالزواج عقد، والوفاء به: حسن العشرة، وترك المضارة. والبيع عقد، والوفاء به: عدم الغش، وحسن المعاملة. والوعد - أياً كان - عقد، والوفاء به: إنجازه. ويقاس على ذلك سائر الاتفاقات التي تحمل بين طياتها حقوقاً والتزامات (انظر آية 72 من سورة الأنفال){بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم؛ أو هي الأنعام الوحشية؛ من الظباء والبقر والحمر ونظائرها {إِلَاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} تحريمه في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أي {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} غير مستحلي صيد ما يصاد منها، وأنتم محرمون. وقيل المراد بالإحلال: أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطونها عند ذبحها

ص: 124

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ} شعائر الله: حدوده التي حددها لعباده - من إحلال الحلال، وتحريم الحرام - والمراد بها هنا: معالم الحج؛ كالطواف، والسعي، والحلق، والنحر، ونحوه. وإحلالها: تعدي حدود الله تعالى فيها، ومخالفة أوامره {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} أي ولا تنتهكوا حرمات الشهر الحرام، والأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب؛ وانتهاك حرماتها: القتل فيها {وَلَا الْهَدْيَ} وهو ما يهدى إلى البيت تقرباً إلى الله تعالى {وَلَا الْقَلائِدَ} جمع قلادة؛ وهو ما قلد به الهدي. أي لا تنتهكوا حرمات الهدي؛ سواء كان مقلداً أو غير مقلد. وقيل: إنهم كانوا في الجاهلية يتقلدون من لحاء شجر الحرم؛ فيأمنون على أنفسهم حتى يلحقوا بأهلهم؛ فنهى الله عن التقلد بشيء من شجر الحرم

{وَلا آمِّينَ} ولا قاصدين {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} أي لا تمنعوا قاصدي البيت عن الوصول إليه، ولا تقاتلوهم؛ لأنهم {يَبْتَغُونَ} بذلك {فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ} انتهيتم من أداء مناسك الحج، وحل لكم ما حرم

⦗1‌

‌2

5⦘ عليكم - بسبب الإحرام - كالصيد والحلق ونحوهما {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم {شَنَآنُ} بغض {قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ} أي من أجل أنهم منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ} عليهم {وَتَعَاوَنُواْ} جميعاً {عَلَى الْبرِّ} بالناس {وَالتَّقْوَى} وتقوى الله تعالى وخشيته {وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ} أي ولا تتعاونوا على ارتكاب الذنوب {وَالْعُدْوَانِ} على الناس

ص: 124

{وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} أي ما سمي عليه بغير اسمه تعالى {وَالْمَوْقُوذَةُ} التي ماتت من الضرب؛ من وقذه: إذا ضربه حتى استرخى وأشرف على الهلاك {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} التي تردت - أي سقطت - من مكان عال {وَالنَّطِيحَةُ} التي ماتت من نطح أخرى لها {وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ} أي ما بقي من أكله، أو ما أمسكه ليأكله {إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} أي يستثنى من التحريم: ما ذكيتموه؛ أي طهرتموه بالذبح قبل أن يموت من الضرب، أو السقوط، أو النطح، أو أكل السبع {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} أي على الأصنام والأوثان {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلَامِ} الاستقسام: طلب ما قسم في الغيب؛ و «الأزلام» قداح كانوا يستعملونها لذلك {ذلِكُمْ} الذي ذكرته لكم وحرمته عليكم خروج عن أمر الله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ} إلى أكل شيء {فِي مَخْمَصَةٍ} مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير مائل لذنب؛ وإنما ألجأته الضرورة القصوى

ص: 125

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} من المطاعم {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} التي تذكونها بأيديكم {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ} أي وأحل لكم أيضاً صيد ما علمتموه {مِّنَ الْجَوَارِحِ} وهي سباع البهائم والطير: كالكلب، والفهد، والعقاب، والصقر، والبازي، ونحوها.

⦗ص: 126⦘

{مُكَلِّبِينَ} المكلب: مؤدب الجوارح، ومعلم الكلاب {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أي مما أمسكن لكم من الصيد، ولم يأكلوا منه؛ أما إذا أكلت الجوارح من الصيد؛ فلا يحل أكله؛ بل يترك لهم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} من اليهود والنصارى؛ الذين يدينون بما نزل عليهم، ويسمون الله تعالى على ذبائحهم

ص: 125

{لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كذبائحكم تماماً؛ ولا يطلق الحل إلا على الذبائح فحسب - لا على سائر الأطعمة - ألا ترون أنهم يطعمون الخنزير؛ وهو حرام عندنا وإثم كبير {وَالْمُحْصَنَاتُ} الحرائر العفيفات {مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} حل لكم زواجهن {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} حل لكم أيضاً {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} مهورهن {مُحْصِنِينَ} متزوجين {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} زانين. والسفاح: الزنا {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} الخدن: الصديق {حَبِطَ} بطل

ص: 126

{أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ} أي أحدث؛ وذلك أنهم كانوا يذهبون إلى الغائط لقضاء حاجتهم. والغائط: الأرض المستوية الواسعة؛ ومنه غيط، وغيطان: لما يحرث ويزرع {أَوْ لَامَسْتُمُ} أي جامعتم

⦗ص: 127⦘

{فَتَيَمَّمُواْ} اقصدوا {صَعِيداً} الصعيد: وجه الأرض؛ من تراب وغيره {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} ضيق {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يطهر أجسامكم من الأحداث والخبائث، وأرواحكم من دنس الشك والمعاصي ويؤخذ من التيمم أن الله تعالى لم يرد من الغسل والوضوء: مجرد النظافة الظاهرية - وإلا لما أجزأ التيمم: الذي هو في حقيقته يتنافى مع مظهر النظافة - وإنما أريد بذلك التطهر الباطني، والتطهر الروحي؛ وبهما يكون العبد أهلاً لمناجاة ربه وللوقوف بين يديه، وبذلك أيضاً ينظر الله تعالى إليه برحمته ومغفرته، وإنعامه وإحسانه فعلى المغتسل والمتوضىء أن ينوي تطهير روحه، قبل تطهير جوارحه؛ وأن يقصد بغسل يديه: محو ما ارتكبتا من آثام وذنوب. وبغسل وجهه: إزالة خائنة عينيه، وإثم أذنيه. وبمسح رأسه: إزاحة هواجسه ووساوسه، وطرد ما يلقي الشيطان في فكره، مما يكون سبباً في وبال أمره. وبغسل رجليه: إزالة ما علق بهما من آثار خطإ خطا إليه، وجرم مشى فيه وما أراد الله تعالى بالغسل والوضوء والتيمم: سوى تطهير ذاتكم وصفاتكم، ونقاء سركم وسريرتكم {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بالوفاء والصفاء

ص: 126

{وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} بالإيمان {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ} بأن تسمعوا وتطيعوا؛ فإذا وفيتم بذلك: وفى لكم ما ضمن لكم الوفاء به: من إتمام نعمته، ودخول جنته، والتمتع بدار كرامته وقيل: الميثاق: هو الذي أخذ عليهم - وهم في صلب آدم - حين قال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ} والأول أولى {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي بما تخفي القلوب

ص: 127

{يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} قائمين في سبيل مرضاته: تقصدون وجهه في سائر أعمالكم، وتبتغون فضله في جميع أموركم

{شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ} أي يجب أن يكون العدل في الحكم، والصدق في الشهادة؛ في المكان الأول من تقديركم، وألا تحيدوا عن ذلك أبداً مهما كان المحكوم عليه أو المشهود له {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} لا يحملنكم {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ} بغض قوم {عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُواْ} بينهم؛ لعداوتكم لهم، وكراهتكم إياهم {اعْدِلُواْ} بين الجميع - أعداء وأحباء، بعداء وأقرباء - فذلك أزكى لكم، وأطهر لنفوسكم، وهذا {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي أقرب لخشية الله تعالى، ومخافة عقابه وأهل التقوى: هم أهل الخوف من الله تعالى، والحذر من أن يخالفوه

ص: 127

{يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} هم يهود بني النضير. وقيل: قريش بالإيذاء والقتال {فَكَفَّ} منع} أن تصل إليكم بسوء {وَعَلَى اللَّهِ} وحده {} لا على غيره (انظر آية 81 من سورة النساء).

ص: 127

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} على الإيمان والطاعة {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} النقيب: هو الذي ينقب عن أفعال القوم ويفتش عنها {وَقَالَ اللَّهُ} لبني إسرائيل على لسان رسله {إِنِّي مَعَكُمْ} بالتوفيق والمعونة {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ} وداومتم عليها {وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ} أعطيتموها لمن أمرت باعطائها لهم {وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي} جميعاً {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} عظمتموهم ووقرتموهم {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} بالصدقات التي يردها لكم في الدنيا أضعافاً مضاعفة، وفي الآخرة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت لئن فعلتم ذلك {لأُكَفِّرَنَّ} لأمحون {عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} التي ارتكبتموها {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}

{فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ} الميثاق {مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أخطأ طريق الصواب والحق

ص: 128

{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي فبنقضهم عهدهم اللعنة من الله تعالى: الطرد والمقت؛ نعوذ به تعالى من غضبه {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} جافية عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} وذلك بتحريفهم التوراة، وكتابة ما يرغبون فيها، ومحو ما لا يرغبون، أو تحريفهم معانيها بما يتفق وأهواءهم {وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} الحظ: النصيب. أي تركوا نصيباً مما ذكروا به فلم يفعلوه {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ} على خيانة {مِنهُمُ} ومن ذلك همهم ببسط أيديهم إليكم بالإيذاء والقتال {إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} استكانوا ولم يبسطوا أيديهم {فَاعْفُ عَنْهُمْ} أي عن الذين هموا بكم {وَاصْفَحْ} عن ذنبهم هذا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} خصوصاً من أحسن لمن أساء. وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} هذا هو حال اليهود

ص: 128

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} أيضاً؛ كما أخذنا ميثاق اليهود {فَنَسُواْ حَظّاً} نصيباً {مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} كما نسيت اليهود «تشابهت قلوبهم» {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود والنصارى، أو بين اليهود أنفسهم، أو بين النصارى بعضهم مع بعض. وعلى كلا الوجهين: فقد شاعت العداوة بين اليهود وبعضهم، وبين النصارى وبعضهم، وبين اليهود والنصارى؛ فترى اليهود وقد انقسموا إلى فرقتين متنافرتين: قرّايين وربانيين؛ وكلاهما له دين خاص، وشريعة خاصة، ونظام يخالف نظام الآخر - في العبادات والمعاملات - لا يجتمعان إلا في أمر واحد: هو كراهة المسلمين والنصارى. وترى النصارى وقد انقسموا إلى فرق متعددة: كاثوليك، وأرثوذكس، وبروتستانت؛ كل منها له شريعة خاصة ونظام خاص؛ وتراهم دائبي الخلاف في كل صغيرة وكبيرة. أما عداوة اليهود للنصارى، والنصارى لليهود، فأمر لا يحتاج إلى

⦗ص: 129⦘

برهان أو دليل؛ قال تعالى:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} وترى الأمم الغربية - وهم أبناء دين واحد - وقد تفنن بعضهم في إهلاك البعض - هلاكاً تشيب لهوله الولدان - فمن مخترع للقنبلة الذرية إلى مخترع للهيدروجينية، إلى مصمم لقنبلة الكوبالت؛ إلى ما لا نهاية له من صنوف الإيذاء والبلاء الذي لا يوصف؛ وبذلك حق عليهم الإغراء؛ فهم أبد الدهر في شحناء وبغضاء

ص: 128

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} خطاب لليهود والنصارى في عهد النبي {قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} اسم جنس. أي ما كنتم تخفونه من كتابيكم «التوراة والإنجيل» وكان مما أخفوه وبيّنه النبي عليه الصلاة والسلام: رجم الزانيين المحصنين {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} موضح؛ وهو القرآن الكريم. اللهم أمدنا بنوره، واجعله حجة لنا لا علينا

ص: 129

{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} طريق مرضاته {سُبُلَ السَّلَامِ} طرق الأمن والسلامة؛ و {السَّلَامِ} : يشمل كل ما تحتمله هذه الكلمة من معانٍ زاخرة بأنبل الصفات والسمات؛ فالسلام: هو السلامة والسلم، والود والهدوء، والسكينة والطمأنينة، والخير والبر {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ} وهي جمع ظلمة؛ وهي تقع على كل ضلال وخبال، وسوء وشر، وعصيان وفسوق أرأيت كيف يتعثر الإنسان في الظلمات: فلا يرى ما يعترضه من عقبات، ولا ما يصادفه من مهاوي ومهالك؟ فيقع في موارد التهلكة وسوء العاقبة. والمراد بالظلمات أيضاً: الجهل والكفر (انظر آية 17 من سورة البقرة) فمن أحبه الله تعالى: هداه إلى سبل السلام، وأخرجه من الظلمات {إِلَى النُّورِ} والنور: كل عمل يتسم بالنبل والفضل، والهدي والرشاد أرأيت كيف يهتدي الإنسان في النور إلى سلامته وأمنه، ويتوقى مواطن الخطل والزلل؛ وبالتالي يقي نفسه غضب الرب، وسوء المنقلب والمراد بالنور: الإيمان. أي يخرجهم من ظلمات الكفر، إلى نور الإيمان {بِإِذْنِهِ} بأمره وإرادته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ} طريق {مُّسْتَقِيمٍ} طريق النجاة، طريق الفلاح، طريق الجنة كأنّ سائلاً سأل: ما هو القرآن؟ وما فائدته؟ وما جدوى نزوله؟ فقيل له: هو {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو تعريف عرّف به القرآن منزله تعالى؛ العالم بأسراره وأنواره، الواضع لمعالمه وأحكامه

وهذا التعريف بالقرآن؛ خير مما عرفه به الأصوليون؛ من أن القرآن: هو اللفظ العربي، المنزل

⦗ص: 130⦘

على محمد للتدبر والتذكر، المنقول متواتراً؛ وهو ما بين دفتي المصحف؛ المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس.

وهو تعريف - كما ترى - جاف، خال من الروح والروعة الواجبة. وخير التعاريف به: تعريف منزله ومبدعه؛ تعالى شأنه، وعز سلطانه

ص: 129

{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي فمن يملك أن يدفع شيئاً أراده الله تعالى {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} الذي تزعمون ألوهيته، أو بنوتهلله أن يهلك {أُمُّهُ} مريم التي ولدته؛ ذكرها تعالى ليعرفهم أن الله الواجب الوجود: لا يلد ولا يولد؛ فكيف تقولون عمن ولدته مريم: إنهالله، أو ابنالله؟

ص: 130

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى} تبجحاً منهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قالوا ذلك حين دعاهم النبي للإيمان، وحذرهم غضب الله تعالى وعقابه {قُلْ} لهم يا محمد: إذا كنتم صادقين في أنكم أبناء الله وأحباؤه {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} وذلك أنهم قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَاّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} {بَلْ أَنتُمْ} في الحقيقة {بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر البشر {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} بأن يوفقه للإيمان والطاعة {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} بأن يتخلى عن هدايته؛ لتمسكه بالكفر وعناده

ص: 130

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد {يُبَيِّنُ لَكُمْ} طرق الهداية {عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ} أي على فتور من إرسال الرسل، وانقطاع الوحي {أَن تَقُولُواْ} أي أرسلناه لئلا تقولوا {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ} محمد {بَشِيرٍ} لمن آمن منكم وأطاع بالجنة {نَذِيرٍ} لمن كفر وعصى بالنار

ص: 130

{وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً}

أي مالكين؛ بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ} خلصهم من الذل، وفضلهم على الكل؛ فازدادوا كفراً وعتواً وأنجاهم من البلوى، وأطعمهم المن والسلوى؛ فأبوا الطعام الأعلى، وطلبوا الطعام الأدنى وأنزل عليهم مائدة من السماء؛ فكفروا بما هنالك، وأوقعوا أنفسهم في المهالك؛ فأعد لهم ربهم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين

ص: 130

{يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} أرض بيت المقدس {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كتب في لوحه المحفوظ أن تسكنوها وتقيموا فيها {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي لا ترجعوا مدبرين منهزمين

ص: 130

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} أقوياء أشداء شجعاناً. وقيل: سفلة لا خلاق لهم. وقال بعض المفسرين: إنهم من بقايا قوم عاد، وأنهم ضخام الأجسام، عظام الأجساد؛ حتى أن أحدهم ليحمل الإثني عشر نفساً في أحد أكمامه. وهو قول غير صحيح، وإنما قصه القصاصون الأفاكون؛ وزينوه بروايات

⦗ص: 131⦘

لا أصل لها، وعنعنات لا وجود لها

ص: 130

{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} الله تعالى ويخشونه {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} بالإيمان والشجاعة والإقدام {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ} أي ادخلوا على هؤلاء الجبارين باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ} عليهم؛ وبدأتموهم بالهجوم والقتال {فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} أنظر كيف يعلمنا الله سبحانه وتعالى الخطط الحربية الحكيمة الموفقة: يعلمنا أن نتبع خطة الهجوم، خطة الاستبسال، خطة بيع النفس في سبيله جل شأنه وهي قاعدة معروفة متبعة؛ يعلمها كل ذي لب، ويتبعها كل ذي قلب:«اطلب الموت توهب لك الحياة» وإذا فكرت أيها المؤمن جلياً، ونظرت ملياً في هذه الخطة؛ لأنبأك التاريخ عن إصابتها وسدادها؛ فهناك سعدبن أبي وقاص، وقد قام بجيشه الصغير؛ فاكتسح به دولة الفرس اكتساحاً، وجعلها أثراً بعد عين؛ وقد كانت في أوج عظمتها وقوتها وهناك أيضاً طارقبن زياد؛ وقد فتح الأندلس فتحاً سجله له التاريخ بمداد الفخار والإكبار ولم تكن تلكم الفتوح والانتصارات: لكثرة في العدد، أو زيادة في المدد؛ وإنما هي الخطة التي وضعها القائد الأعلى، والمرشد الأعظم، وحث عليها عباده (انظر آية 251 من سورة البقرة)

{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} من هذا نعلم أن التوكل من لوازم الإيمان؛ وأن الإيمان بلا توكل: إيمان مشوب بالشك والشرك؛ إذ أن الإيمان به تعالى يستوجب حتماً الإيمان بقدرته وقوته، والوثوق بمعونته ومن آمن ب الله تعالى ولم يؤمن بصفاته العلية السنية؛ فهو من عداد الكافرين (انظر آية 81 من سورة النساء)

ص: 131

{قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا} فازدادوا بذلك جبناً على جبنهم، وخوراً على خورهم، ورفضوا التوكل علىالله، وأبوا الاستماع إلى نصح الناصحين؛ الذين يخافون ربهم، وقد أنعم الله عليهم {فَاذْهَبْ} يا موسى {أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} أضاف بنو إسرائيل إلى جبنهم وضعفهم وحقارتهم: كفراً بربهم لا يعدله كفر، وتحدياً يستأهل ما أعده الله تعالى لهم من عذاب بئيس إذ قالوا لنبيهم الكريم؛ الذي بعثه الله تعالى إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور:{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا}

ص: 131

{قَالَ} موسى {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ} من دنياي {إِلَاّ نَفْسِي وَأَخِي} ولا نصلح أن نلقى بمفردنا الجبابرة فنخرجهم من بيت المقدس {فَافْرُقْ} فافصل واحكم {بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الكافرين؛ الذين خرجوا عن طاعتك

ص: 131

{قَالَ} الله تعالى لموسى {فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} لا يدخلونها ولا يتمتعون بخيراتها؛ بل {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} سائرين على وجوههم؛ لا يبلغون مقصداً، ولا يحوزون مأملاً؛ عقوبة لهم على عصيانهم وجبنهم، وعدم

⦗ص: 132⦘

استماعهم لكلام ربهم ونصح نبيهم {فَلَا تَأْسَ} لا تحزن {عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} الكافرين العاصين

ص: 131