الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأحقاف
بسم الله الرحمن الرحيم
{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلَاّ بِالْحَقِّ} أي إلا لإقامة الحق، وبسط العدل {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} هو يوم القيامة: تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ} تعبدون {مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} مشاركة {ائْتُونِي بِكِتَابٍ} منزل {مِّن قَبْلِ هَذَآ} القرآن {أَوْ أَثَارَةٍ} بقية {مِنْ عِلْمٍ} يدل على صحة ما تعبدون، وما تزعمون
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو} يعبد {مَن لَاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} لا يجيبه إلى شيء يسأله؛ وهم الأصنام {وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ} عن عبادتهم {غَافِلُونَ} لأنهم جماد لا يعقل، ولا يحس إن عبدته وعظمته، أو أهنته وحطمته
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} أي جمعوا للحساب والجزاء يوم القيامة {كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً} أي كانت الأصنام أعداء لعابديها
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي اختلق القرآن {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي بما تقولونه من الطعن في القرآن
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} أي لم أكن أولهم؛ فقد سبقني الكثير منهم: كموسى، وعيسى، وإبراهيم
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ} هذا القرآن {مِنْ عِندِ اللَّهِ} كما أقول {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} فماذا يكون حالكم يوم القيامة؟ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ} هو عبد اللهبن سلام {عَلَى مِثْلِهِ} على التوراة - التي هي مثل القرآن في نسبتها إلى الله تعالى - بأن فيها ذكر الرسول، وصفته، وأنباء بعثته {فَآمَنَ} هو بالقرآن {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} عن الإيمان به
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} اليهود {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} منهم؛ كعبد اللهبن سلام وأضرابه {لَّوْ كَانَ} هذا الدين {خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} أي ما سبقنا إليه الفقراء والرعاع؛ كبلال، وصهيب، وعمار {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} أي بالقرآن {فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي كذب. وذلك كقولهم {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} والإفك: أسوأ الكذب وأفحشه
{وَمِن قَبْلِهِ} أي قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى} التوراة {إِمَاماً} أي قدوة يؤتم به في دين الله تعالى وشرائعه {وَرَحْمَةً} للمؤمنين؛ لأنه ينقلهم من الظلمات إلى النور {وَهَذَا} القرآن {كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ} لما سبقه من الكتب {لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كفروا؛ بالعذاب الأليم
⦗ص: 618⦘
{وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} المؤمنين بالنعيم المقيم
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} أقاموا على الطاعة، وجانبوا المعصية
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} أي أمرناه أمراً جازماً بالإحسان إليهما {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً} أي ذات كره. والمراد به: المشقة أثناء الحمل {وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي بتعب ومشقة أثناء الوضع {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} أي مدة حمله وإرضاعه حتى ينفطم {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} استكمل قوته وعقله. وبلوغ الأشد: بين ثماني عشرة إلى ثلاثين؛ وهو أيضاً بلوغ الحلم. وهو مثل ضربه الله تعالى للمؤمن المصدق {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} ألهمني {وَأَنْ أَعْمَلَ} عملاً {صَالِحاً تَرْضَاهُ} وهو اتباع أوامره تعالى، واجتناب نواهيه {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي هبني ذرية مؤمنة؛ وهو كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَتِي} {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} مما جنيت في سابق أيامي
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ} أفٍ: كلمة تضجر؛ وقد نزلت هذه الآية في الكافر العاق لوالديه، المكذب بالبعث {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أي أخرج من الأرض بعد الموت، وأبعث {وَقَدْ خَلَتِ} مضت {الْقُرُونِ} الأمم {وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللَّهَ} أي يطلبان من الله تعالى الغوث؛ ليرجع ابنهما عن غيه وبغيه، ويرده عن كفره؛ ويقولان له {وَيْلَكَ آمِنْ} أي الويل لك؛ آمن ب الله وبالبعث {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالقيامة والبعث، والحساب والجزاء {حَقٍّ} واقع؛ لا مراء فيه
⦗ص: 619⦘
{فَيَقُولُ} لهما {مَا هَذَآ} الذي تقولانه {إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أكاذيبهم
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} وجب عليهم العذاب
{فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} قد مضت {مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} الكافرين
{وَلِكُلِّ} من جنس المؤمن والكافر {دَرَجَاتٌ} فدرجات المؤمنين في الجنة، ودرجات الكافرين في النار. والجنة درجات والجحيم دركات {مِّمَّا عَمِلُواْ} أي إن أعمالهم هي التي أوصلت كلا منهم إلى درجته التي يستحقها {وَلِيُوَفِّيَهُمْ} الله تعالى {أَعْمَالَهُمْ} أي جزاءها
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ} ليدخلوها؛ يقال لهم حينئذ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} الباقية، بانصرافكم عن الإيمان، واشتغالكم بالملذات والشهوات. أو «أذهبتم طيباتكم» أذهبتم أعمالكم الطيبة؛ التي عملتموها في الدنيا: كالصدقة، وصلة الرحم، وأمثالهما {فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} تمتعتم بما يقابلها؛ من صحة وسعة؛ وأصبح لا مقابل لها في الآخرة؛ وقد أوفاكم الله تعالى - لسعة فضله وكرمه - أجوركم عليها في دنياكم؛ فلم يبق لكم سوى الجحيم، والعذاب الأليم {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ} على ما كسبتم من الكفر {عَذَابَ الْهُونِ} الهوان. وقرىء به {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} تتكبرون
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} هو هود عليه السلام {بِالأَحْقَافِ} هو واد باليمن؛ وبه منازلهم {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} مضت الرسل {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} من قبله {وَمِنْ خَلْفِهِ} من بعده. وقرىء شاذاً: «من قبله ومن بعده» ولولا ذلك؛ لجاز العكس.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} الضمير للعذاب {عَارِضاً} العارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أي متجهاً إليها {قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ} سحاب {مُّمْطِرُنَا} بعد محل، ومخصبنا بعد جدب. فقيل لهم: لا. ليس الأمر كما توهمتم {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ} من العذاب؛ وما هو إلا {رِيحٌ} عاتية {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل: القائل لذلك هود عليه السلام؛ يؤيده قراءة من قرأ: قال هود {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ}
{تُدَمِّرُ} تهلك {كُلِّ شَيْءٍ} مرت عليه {بِأَمْرِ رَبِّهَا} بقدرته وإرادته {فَأَصْبَحُواْ} بعد نزول العذاب بهم هلكى {لَا يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ} لتدل على ما حل بساحتهم. وذهب بعض الصوفية إلى أن المراد بمساكنهم: أجسادهم؛ بعد أن خلت من أرواحهم
{وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} المكانة: المنزلة والتمكن. أي ولقد مكناهم فيما لم نمكنكم فيه أو {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} لفجرتم أكثر من فجوركم، ولطغيتم أكثر من طغيانكم {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً}
كسمعكم {وَأَبْصَاراً} كأبصاركم {وَأَفْئِدَةً} قلوباً كقلوبكم، وعقولاً كعقولكم {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ} أنهم قد أصموا أسماعهم عن الاستماع إلى الهدى، وأعموا أبصارهم عن رؤية الحق، وأقفلوا قلوبهم عن تفهم الإيمان؛ و {كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ينكرون حججه البينات، ودلائل قدرته الظاهرات {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤونَ} وهو العذاب الذي كانوا ينكرون حدوثه
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى} أي أهلكنا أهلها: كعاد وثمود، وقوم لوط، ونحوهم؛ مما كان يجاور بلاد الحجاز، وأخبارهم متواترة ذائعة عندهم {وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ} بينا الحجج والعظات والدلالات، وكررناها عليهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم
{فَلَوْلا} فهلا {نَصَرَهُمُ} أي دفع العذاب عن أهل هذه القرى المهلكة {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ} غيره {قُرْبَاناً آلِهَةَ} معه؛ وهم الأصنام؛ لأنهم كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} غابوا عنهم، وعن نصرتهم؛ عند نزول العذاب {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} كذبهم. والإفك: أسوأ الكذب
{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ} أملناهم إليك. والنفر: ما دون العشرة. وكانوا من جن نصيبين باليمن - وهي قاعدة ديار ربيعة - أو جن نينوى {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي حضروا مجلس الرسول وقت تلاوة القرآن {قَالُواْ} لبعضهم {أَنصِتُواْ} اسكتوا؛ لنستمع لما يتلى ونتفهمه {فَلَمَّا قَضَى} أي فرغ الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه من القراءة {وَلَّوْاْ} انصرفوا مسرعين
⦗ص: 621⦘
{إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} مخوفين لهم بالعذاب الذي سمعوه، والذي أعده الله تعالى لمن يكفر به، ولا يصدق بكتابه. قالوا لقومهم
{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً} يعنون القرآن الكريم {أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدمه من الكتب؛ كالتوراة والإنجيل {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} الواضح {وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} لا عوج فيه. وهل أقوم من الإسلام، وأهدى من الإيمان؟
{يقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ} رسوله الذي يدعو إليه، وإلى دينه القويم {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} التي اقترفتموها قبل إيمانكم؛ لأن الإيمان يجبّ ما قبله {وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ذهب كثيرون إلى أن الجن ثوابهم: أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا تراباً؛ فيكونوه؛ كالبهائم تماماً. وذهب آخرون إلى أنهم كما يعاقبون على سيئاتهم: يثابون على حسناتهم. وهذا القول أولى بالصواب وأجدر بالعدالة الإلهية، قال تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} بعد مخاطبته للجن والإنس بقوله {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}
{فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضَ} أي لن يعجز الله بالهرب من بطشه وعقوبته {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ} غيره {أَوْلِيَاءَ} أنصار يمنعونه عذاب الله تعالى، أو يدفعون عنه عقابه
{أُوْلَئِكَ} الذين لم يجيبوا داعي الله {فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} الضلال: ضد الهدى. ويطلق أيضاً على الحيرة، والموت
{وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أي لم يتعب، ولم يعجز {بَلَى} أي نعم هو قادر على بعث الموتى وإحيائهم
{أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} أي يقال لهم: أليس هذا العذاب هو الحق الذي تستحقونه، وقد استوجبتموه بكفركم، وقد جئناكم في الدنيا بأنبائه؛ فلم تؤمنوا بوقوعه
{فَاصْبِرْ} يا محمد على أذى قومك {كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ} ذووا الجد والثبات والصبر {مَّنَ الرُّسُلِ} الذين تقدموك {وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي لا تستعجل العذاب لقومك {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب يوم القيامة {لَّمْ يَلْبَثُواْ} في الدنيا، أو في القبور {إِلَاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} وذلك لشدة ما يلقون من هول القيامة {بَلَاغٌ} أي هذا القرآن «بلاغ» من الله تعالى إليكم.