الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: العذر بالتقية
هي حالة استثنائية لا تباح إلا لموجب، إذ الأصل في المسلم أن يتطابق ظاهره وباطنه، بحيث يكون ظاهره كباطنه، ولهذا كان التظاهر بكفر أو معصية من غير عذر نفاقاً وخداعاً لا يصح بحال في غير التقية إلا في حال واحدة هي أن يكون ذلك حيلة لمصلحة المسلمين في الحرب خاصة، دون غيرها لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((الحرب خدعة)) (1).
ومثال ذلك ما فعله نعيم بن مسعود رضي الله عنه، حين أسلم أثناء حرب الأحزاب، ولم يكن أحد يعلم بإسلامه. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((يا رسول الله. إني أسلمت فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)). وذهب إلى اليهود ومشركي قريش، وأوهمهم بما فرق الله به بينهم، وكان مع ذلك يتظاهر لكل منهم بالنصح، وأنه لم يسلم، فكتم إسلامه لأجل هذه المصلحة (2).
وأما الخدعة بإظهار الكفر فمثاله ما حصل من محمد بن مسلمة وصحبه، حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم:((من لكعب بن الأشرف، فإنه آذى الله ورسوله. فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فأذن لي أن أقول شيئاً. قال: قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا،، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضاً والله لتملنه. قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه)) الحديث (3).
فهذا محمد بن مسلمة رضي الله عنه يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول شيئاً، فيأذن له صلى الله عليه وسلم، فيتظاهر أنه منافق، وأنه لم يسلم رغبة في الإسلام، حتى يستدرج كعب بن الأشرف، وكان ذلك حين خرج له في الليل فقتله محمد بن مسلمة وأصحابه.
وهذا مما يدخل في عموم الإعذار بمثل هذا في الحرب، ولهذا بوب الإمام البخاري رحمه الله لهذه القصة بقوله:(باب الكذب في الحرب). وبوب لهم الإمام أبي داود بقوله: (باب: العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم).
ومن كل ما سبق يعلم أن التقية إذا لم تكن لعذر تباح له، ولم تكن في حرب فإنها لا تكون إلاّ نفاقاً. فإن كان التظاهر للكفار بما هو كفر كان كفراً ونفاقاً أكبر، وإن كان بمعصية لم يكن ذلك من النفاق المخرج من الملة.
بقي أن يعلم بعد ذلك أحكام التقية على التفصيل، والفرق بين التقية بكتمان الدين، والتقية بإظهار الكفر، ومناط الإعذار في ذلك.
أولاً ـ التقية بكتمان الدين:
الأصل في المسلم القيام بدينه وإظهاره وعدم الاختفاء به، وهذا واجب عليه. لكنه قد يعيش في مجتمع لا يستطيع فيه ذلك، وإلاّ أوذي وفتن عن دينه، وهنا تجب عليه الهجرة إلى بلد يستطيع فيه إظهار دينه.
وهذا الوجوب هو مناط إيجاب الهجرة على من فتن في دينه ولم يستطع إظهاره. ولا علاقة لهذا بكون الدار كفر أو لا، فمتى تحقق الأمن للمسلم واستطاع إظهار دينه وموالاة المسلمين والبراءة من الكافرين لم تكن الهجرة واجبة عليه.
(1) رواه البخاري (3030)، ومسلم (1739). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
(2)
انظر ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/ 273).
(3)
رواه البخاري (4037). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها، إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم، العباس بن عبد المطلب وغيره إذا لم يخافوا الفتنة، وكان يأمر جيوشه أن يقولون لمن أسلم: ((إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين، وإن أقمتم فأنتم كأعراب))، وليس يخيرهم إلاّ فيما يحل لهم) (1).
لكن ليس كل أحد يفتن في دينه يستطيع الهجرة فما الحكم؟
إن الواجب على المسلم أن يظهر دينه بقدر استطاعته، فإن خاف الفتنة ولم يستطع الهجرة جاز له كتمان دينه وعدم إظهاره لئلا يفتن.
لكن مع الاستمساك به في الخفاء، وعدم مشايعة الكفار على كفرهم، بل ولا على معاصيهم ابتداءً من غير إكراه يبيح ذلك.
ومن هذا يعلم أن إنكار من كان حاله كذلك لا يمكن في الظاهر باليد ولا باللسان، فيكفيه حينئذ الإنكار بالقلب الذي هو كره الكفر وأهله، وعدم الرضى عنهم وعن كفرهم، لأنه لا يمكنه إلاّ ذلك. وهذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (2).
وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ((فإن لم يستطع فبقلبه)) يقول الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: (معناه فليكره بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير، لكنه هو الذي في وسعه وفي هذا الحديث دليل أن من خاف من القتل أو الضرب سقط عنه التغيير، وهو مذهب المحققين سلفاً وخلفاً، وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك)(3).
وأما من استطاع إنكار المنكر في الظاهر فلم يفعل فإنه يأثم لتركه الواجب عليه في ذلك. لكنه لا يكفر بمجرد عدم إنكاره مع قدرته حتى يتحقق منه ما يستوجب الكفر في الظاهر من قول أو فعل.
وقد شذ عن هذه القاعدة من يرون أن الأصل في الناس اليوم هو الكفر. فلم يكفهم اشتراط التبين لإثبات وصف الإسلام مع وجود ما يدل عليه من الإقرار أو ما يقوم مقامه بدعوى أن الناس يجهلون مفهوم الشهادتين. حتى حكموا بأن عدم الاعتراض الظاهر على من يحكمون غير الشريعة من القوانين الوضعية دليل كاف على الرضى في الباطن. وأنهم بذلك قد شايعوا حكامهم وتابعوهم على عدم تحكيم الشريعة. وأن ذلك هو الأصل فيهم، حتى يظهر منهم ما يدل على خلافه بعد التبين. ونتيجة هذا القول أن من لم يتبين إسلامه ولم يهاجر في مثل هذه الظروف يكون كافراً، لا ولاية بينه وبين المسلمين.
ويعتمدون في ذلك على ما يفهمونه من آيات الأنفال، في نفي الولاية بين المسلمين المهاجرين، وبين من أسلم بمكة ولم يهاجر.
والآيات هي قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال: 72].
(1)((الأم)) (4/ 169 - 170) للإمام الشافعي، وانظر:((السنن الكبرى)) (9/ 15) للبيهقي.
(2)
رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
((شرح الأربعين النووية)) (ص: 105) لابن دقيق العيد.
إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74].
والملاحظ أن الله قد ذكر مع المؤمنين من المهاجرين والأنصار طائفة ثالثة، هم المؤمنون الذين لم يهاجروا.
وقد حكم الله تعالى أن لهذه الطائفة الثالثة حق النصرة في الدين، إلاّ على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق. لكن مع ذلك فليس لهم ولاية حتى يهاجروا. ومعلوم علماً قطعياً أن الولاية المنفية عنهم ليست الولاية التي هي مقتضى الأخوة الإيمانية، لتحقيق وصف الإيمان لهم، كما حكم الله به لهم.
وليست أيضاً ولاية النصرة، مع أن الله قد أمر بنصرهم في الدين إذا لم يكن ثم ميثاق بين من استنصروا بالمسلمين عليهم وبين المسلمين.
فما هي الولاية المنفية عنهم في الآية إذن.
لقد حصل اللبس في فهم المقصود بفهم الولاية هنا قديماً، كما وقع ذلك حديثاً، ونكتفي هنا ببيان الإمام أحمد رحمه الله لذلك حيث يقول: (وأما قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]. وقال في آية أخرى: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ [الأنفال: 72]، وكان عند من لا يعرف معناه ينقض بعضه بعضاً.
أما قوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ [الأنفال:72] يعني من الميراث، وذلك أن الله حكم على المؤمنين لما هاجروا إلى المدينة أن لا يتوارثون إلاّ بالهجرة، فإن مات رجل بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم وله أولياء بمكة لم يهاجروا كانوا لا يتوارثون. وكذا إن مات رجل بمكة وله ولي مهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرثه المهاجر، فذلك قوله: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ [الأنفال:72] من الميراث (حتى يهاجروا).
فلما كثر المهاجرون رد ذلك الميراث إلى الأولياء، هاجروا أم لم يهاجروا، وذلك قوله: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) [الأحزاب:6]. وأما قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71] يعني في الدين، والمؤمن يتولى المؤمن في دينه. فهذا تفسير ما شكت فيه الزنادقة) (1).
…
ولأجل ما تقدم، فإن الصحابة قد اختلفوا في شأن من أسلم بمكة وبقي فيها ولم يهاجر، مع قدرتهم على ذلك، ثم أكرهوا على القتال مع الكفار يوم بدر.
فمن الصحابة من تأسف لقتلهم، ومنهم من رأى أنهم يقتلون لأجل تفريطهم في عدم الهجرة، حتى أكرهوا على القتال مع المشركين. ولو كانوا عندهم كفاراً لم يتأسفوا عليهم.
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (إن ناساً من المسلمين لم يهاجروا كراهة مفارقة الأهل والوطن والأقارب فلما خرجت قريش إلى بدر خرجوا معهم كرهاً، فقتل بعضهم بالرمي، فلما علم الصحابة أن فلاناً قتل وفلاناً قتل تأسفوا على ذلك، وقالوا: قتلنا إخواننا. فأنزل الله تعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ إلى قوله: وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 97 - 100].
(1)((الرد على الجهمية، ضمن عقائد السلف)) (ص: 62).
فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة، وما أنزل الله فيها من الآيات، فإن أولئك لو تكلموا الكفر، وفعلوا كفراً ظاهراً يرضون به قومهم لم يتأسف الصحابة على قتلهم، لأن الله بين لهم وهم بمكة لما عذبوا قوله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106].
فلو كانوا سمعوا عنهم كلاماً أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه ما كانوا يقولون: قتلنا إخواننا) (1).
ثانياً ـ التقية بإظهار الكفر:
لا يجوز بحال إظهار الكفر ابتداء من غير إكراه بدعوى التقية، بل لا يجوز ذلك بما هو معصية.
ولهذا لما فعل حاطب بن أبى بلتعة رضي الله عنه ما فعل، من مكاتبة كفار قريش بخبر مسير الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه لفتح مكة لم يعذره الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إن بعض الصحابة كعمر رضي الله عنه قال: إنه قد نافق.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم تبين حاله، لاحتمال أن يكون فعله كفراً وردة عن الإسلام، أو أن يكون معصية لا تخرجه من الملة.
فلما تبين للرسول صلى الله عليه وسلم حاله، وأنه إنما كاتب قريشاً مصانعة ومداهنة لهم، وتقية لأجل حفظ ماله وأهله بمكة، لا مظاهرة للمشركين ولا موالاة لهم على دينهم لم يكفره، وكانت تلك المعصية منه مغفورة بحسنته العظمى يوم بدر. فإذا كان هذا في معصية ولم يعذر حاطب رضي الله عنه، بل كان آثماً بذلك فكيف بالكفر؟.
فالتظاهر بكفر أو معصية من دون عذر يبيح ذلك يوجب المؤاخذة بحسب ما تحقق في الظاهر من كفر أو معصية.
وهذا الاشتراط في التقية هو حقيقة الفرق بين منهج أهل السنة في التقية ومنهج الشيعة في ذلك فإن التقية عندهم هي الأصل، فتباح من دون إكراه موجب، بل لمجرد احتمال الضرر ولو لم يتحقق فعلا وهذا في الحقيقة نفاق وليس من التقية في شيء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان هذه المسألة: (التقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي، فإن هذا نفاق، ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (2).
فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، لكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه. مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله، بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون. وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه، وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر، فهذا لم يبحه الله إلا لمن أكره، بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر، والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره. والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين، لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان) (3).
ومن هنا نعلم الفرق بين المناط في الإعذار بكتمان الدين، وأنه العجز عن إظهاره ولو لم يكن إكراه. وأما إظهار الكفر والمعصية فلابد
لإباحة التقية فيه الإكراه.
وذلك لأن القيام بتحقيق المطلوب مشروط بالاستطاعة، وأما ترك المنهي فالأصل فيه الترك، وليس مما تشترط فيه الاستطاعة، وإنما يكون اشتراط الاستطاعة عند الإكراه على المخالفة بفعل المنهي عنه.
(1)((مختصر سيرة الرسول، ضمن المجموع)) (ص: 33، 34).
(2)
رواه مسلم (49). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
((منهاج السنة النبوية)) شيخ الإسلام ابن تيمية (6/ 424).
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (( .. وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (1) فعمم الأمر بالامتناع عن كل منهي عنه، وقيد فعل المأمور بالاستطاعة.
وعلى هذا الأصل أعني اشتراط الإكراه في التظاهر بالكفر – أدلة كثيرة، منها وهو أوضحها وأظهرها قول الله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل:106].
فلم يعذر الله أحداً في الكفر الظاهر بغير الإكراه. فمن تظاهر بالكفر ولم يكن مكرها فإنه لا يكون إلا كافراً، لانشراح صدره بالكفر، لتلازم الظاهر والباطن.
فلا عذر لأحد في ذلك بغير الإكراه مطلقا، سواء كان كفره محبة لوطنه أو لأهله وعشيرته أو توقعه أذى الكفار ونحو ذلك.
يقول الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بيان دلالة
هذه الآية على هذا الأصل: (لم يعذر الله إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره. فالآية تدل على هذا من وجهين:
الأول: إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ فلم يستثن الله تعالى إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد.
والثانى: قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل:107] ، فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو جهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) (2).
ولهذا فإنه لما كان بمكة قوم قد نطقوا بالشهادتين، لكنهم ظاهروا المشركين من غير إكراه، لم يعذرهم الله تعالى، بل حكم بنفاقهم وكفرهم، وبين ذلك للمسلمين فقال تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [النساء: 88 - 89].
(1) رواه البخاري (7288). ومسلم (1337). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
((كشف الشبهات)) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ضمن مجموعة مؤلفاته – ((العقيدة والآداب الإسلامية)) (ص: 180).
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: (قال العوفي عن ابن عباس نزلت في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس. وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت طائفة: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله أو كما قالوا، أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم، عن شيء فنزلت: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء: 88]. رواه ابن أبي حاتم، وقد روى عن أبي سلمة بن عبدالرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا)(1).
فهؤلاء لما ظاهروا المشركين ووالوهم على دينهم لم ينفعهم ما تظاهروا به من الإسلام لأن ما فعلوه لم يكن تقية أكرهوا عليها، وإنما كان اختيارا منهم لذلك، فلم يكن لهم عذر، وعلى هذا الأصل تفهم آية التقية، وهي قول الله تعالى: لَاّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ. [آل عمران:28]
فمعنى الآية هو: أن مظاهرة المشركين وموالاتهم على دينهم كفر مطلقا، سواء كان ذلك بقول أو فعل إلا أن يكون ذلك تقية. والتقية في ذلك لا تكون بمجرد الخوف وتوقع الضرر، وإنما تكون بحصول الإكراه حقيقة.
فهنا فرق بين التقية بكتمان الدين، والذي يكفي في الإعذار فيه مجرد خوف الضرر، لكن إظهار الكفر لابد فيه من تحقق الإكراه، لا مجرد الخوف والتوقع.
ولهذا نهى الله تعالى عن موالاة أهل الكتاب، وبين أن موالاتهم ولو مع الخوف كفر، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52]
فلم يجعل الله مجرد الخشية من أن تكون الدائرة والغلبة للكافرين عذرا في موالاتهم، بل جعل من تولاهم معتذرا بذلك منهم، ثم بين أنه لا يفعل ذلك إلا من كان في قلبه مرض النفاق.
ومثل هؤلاء في عصرنا من يحكمون القوانين الوضعية، ويرفضون الحكم بالشريعة، ويعتذرون بالخوف من الكافرين لو التزموا بالشريعة، ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، ويسوفون في أمر تحكيم الشريعة، ولا يفرقون بين تحكيم الشريعة والعجز عن تطبيق بعض أحكامها.
والحقيقة أن ذلك لا يدخل في حكم الإكراه، بل ولا في أحكام الضرورة، فإنه لا مانع ابتداء من إعلان تحكيم الشريعة إلا الخوف وموالاة الكافرين. وإنما يكون المانع عند تطبيق بعض ما يتعلق بتنفيذ الحكم بالشريعة على التفصيل بعد إقرارها ابتداء، بحيث تكون هي أصل التشريع، وهذا مما يدخل تحت قاعدة التكليف على قدر الاستطاعة. فمن عجز عن تطبيق بعض أحكام الشريعة بعد التسليم لها ورفض ما سواها من القوانين الجاهلية كان معذوراً. ولابد من التفريق بين هاتين الحالتين.
ومما يدل على أن موالاة الكافرين خوفاً منهم أو مشحة بالوطن كفر ما لم يكن ذلك عن إكراه، ما ذكره الله عن نبيه شعيب عليه السلام، وتهديد قومه له بإخراجه من أرضهم إن لم يعد في ملتهم، ويوافقهم على ما هم عليه.
ولكن نبي الله شعيبا عليه السلام قال كما حكى الله عنه: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَاّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89]. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني- ص 267
(1)((تفسير ابن كثير)) (1/ 533). وانظر في ترجيح سبب النزول المذكور: ((تفسير الطبري)) (5/ 194 - 195).