المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: التكفير والتعذيب يكون بعد قيام الحجة - الموسوعة العقدية - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: الأدلة من السنة المطهرة

- ‌الفصل الثاني: أقوال أهل السنة في مسمى الإيمان، وما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الأول: أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان وزيادته ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص

- ‌المطلب الثاني: أقوال السلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌المبحث الثاني: ما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الثالث: ما روي عن الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأول: أوجه زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: تعلم العلم النافع

- ‌المطلب الثاني: التأمل في آيات الله الكونية

- ‌المطلب الثالث: الاجتهاد في القيام بالأعمال الصالحة

- ‌المبحث الثالث: أسباب نقصان الإيمان

- ‌المبحث الأول: شعب الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على أن الإيمان مركب من شعب

- ‌الفصل الخامس: الاستثناء في الإيمان

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ (أمؤمن أنت)

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الشهادتان

- ‌المبحث الثاني: الصلاة

- ‌المبحث الثالث: الزكاة

- ‌المبحث الرابع: الصوم

- ‌المبحث الخامس: الحج

- ‌المبحث السادس: حكم تارك الأركان الأربعة

- ‌الفصل الثاني: هل الإسلام يزيد وينقص

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإسلام

- ‌المبحث الأول: هل الإسلام هو الإيمان

- ‌المبحث الثاني: حالات ورود لفظ الإيمان والإسلام في كلام الله ورسوله

- ‌المبحث الثالث: التلازم بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: ثمرة التفريق بين الإسلام والإيمان

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: أصل الإيمان، أو الإيمان المجمل، أو مطلق الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الإيمان الواجب، أو الإيمان المفصل، أو الإيمان المطلق، أو حقيقة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: الإيمان المستحب، أو الإيمان الكامل بالمستحبات

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان

- ‌المبحث الخامس: دخول الأعمال في هذه المراتب الثلاثة

- ‌المبحث السادس: حكم التقصير في كل مرتبة من المراتب الثلاث

- ‌الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن

- ‌المبحث الأول: مرتبة الإسلام

- ‌المبحث الثاني: مرتبة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: مرتبة الإحسان

- ‌تمهيد

- ‌المسألة الأولى: تعريف الصغائر

- ‌المسألة الثانية: الإصرار على الصغائر

- ‌المسألة الأولى: تعريف الكبيرة والفرق بينها وبين الصغيرة

- ‌المسألة الثانية: حكم الإصرار على المعصية

- ‌المبحث الثاني: الفاسق الملي

- ‌المطلب الأول: تعريف الفسق

- ‌المطلب الثاني: المقصود بالفاسق الملي

- ‌المبحث الثالث: حكم أهل الكبائر (الفاسق الملي) عند أهل السنة

- ‌المطلب الأول: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام

- ‌المطلب الثاني: هل القول بعدم تكفير عصاة الموحدين على إطلاقه أم مقيد

- ‌المطلب الثالث: ما ورد من الذنوب تسميته كفرا، أو فيه نفي الإيمان عن صاحبه أو البراءة منه

- ‌المطلب الأول: أحكام الدنيا

- ‌المطلب الثاني: أحكام الآخرة من ثواب وعقاب

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: أدلة أهل السنة على هذا الأصل

- ‌المبحث الثاني: ضوابط أهل السنة في مسألة اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد

- ‌المبحث الثالث: اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد وأثره في مسألة الولاء والبراء

- ‌الفصل الثالث: أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه

- ‌الفصل الأول: هل الإيمان مخلوق

- ‌الفصل الثاني: حكم إيمان المقلدين

- ‌الفصل الثالث: حكم من مات من أطفال المسلمين

- ‌الفصل الرابع: حكم من مات من أطفال المشركين

- ‌الفصل الخامس: حكم أهل الفترة

- ‌تمهيد في تعريف الناقض

- ‌الباب الأول: تعريف الكفر والردة، وضوابط إجراء الأحكام

- ‌المبحث الأول: تعريف الكفر

- ‌المبحث الثاني: أنواع الكفر

- ‌المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر

- ‌المبحث الرابع: قواعد في معرفة أنواع الكفر

- ‌المبحث الخامس: الكفر يكون قولاً باللسان، واعتقاداً بالقلب، وعملاً بالجوارح

- ‌الفصل الثاني: تعريف الردة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الحكم بالظاهر وأدلته

- ‌المبحث الثاني: تكفير المعين والفرق بينه وبين تكفير المطلق

- ‌المطلب الأول: التكفير والتعذيب يكون بعد قيام الحجة

- ‌المطلب الثاني: كيفية قيام الحجة على المعين

- ‌المطلب الثالث: قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص

- ‌المبحث الرابع: عدم التكفير بكل ذنب

- ‌المبحث الخامس: اعتبار المقاصد

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: العذر بالجهل

- ‌المطلب الأول: تعريف الخطأ لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: الفرق بين الخطأ وبين الجهل

- ‌المطلب الثالث: أدلة العذر بالخطأ

- ‌المطلب الأول: تعريف التأويل لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتأويل

- ‌المطلب الثالث: الموقف من أهل التأويل

- ‌المطلب الرابع: التكفير بالمآل أو بلازم المذهب

- ‌المطلب الأول: تعريف الإكراه لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع الإكراه

- ‌المطلب الثالث: شروط الإكراه

- ‌المطلب الرابع: الإكراه على الكفر

- ‌المطلب الأول: تعريف التقليد لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع التقليد

- ‌المطلب الثالث: التقليد في العقيدة وهل يعتبر عذرا

- ‌المبحث السادس: العجز

- ‌المطلب الأول: تعريف التقية

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتقية

- ‌الباب الثاني: نواقض الإيمان في باب التوحيد

- ‌المبحث الأول: ما يناقض قول القلب

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية

- ‌المطلب الثاني: الشرك في الألوهية

- ‌المطلب الثالث: إنكار اسم أو صفة لله تعالى

- ‌المطلب الرابع: الإعراض عن دين الله

- ‌المطلب الخامس: الشك في حكم من أحكام الله أو خبر من أخباره

- ‌المطلب الأول: كفر الإباء والاستكبار

- ‌المطلب الثاني: الشرك الأكبر بعمل القلب

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالاعتقاد

- ‌المطلب الأول: حكم سب الله تعالى أو الاستهزاء به:

- ‌المطلب الثاني: هل من سب الله تقبل توبته وهل يستتاب كالمرتد

- ‌المبحث الثاني: أمثلة لنواقض الإيمان بالقول

- ‌المطلب الأول: الذبح والنذر الركوع والسجود والطواف

- ‌المطلب الثاني: الاستغاثة بغير الله تعالى

- ‌المطلب الثالث: دعاء الموتى

- ‌المبحث الثاني: شرك التشريع والحكم بغير ما أنزل الله

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالفعل

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: رأي من يعتقد هذا الاعتقاد باختصار

- ‌المطلب الثاني: الرد على هذا الادعاء

- ‌المطلب الثالث: حكم من اعتقد هذا الاعتقاد

- ‌المبحث الثاني: ادعاء النبوة

- ‌المبحث الثالث: إنكار الكتب المنزلة أو شيء منها

- ‌المبحث الرابع: بغض أو كراهية بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل

- ‌المبحث السادس: كفر من سوغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السابع: من استهزأ بشيءٍ جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثامن: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الشك في رسالته

- ‌المبحث التاسع: كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض

- ‌المطلب الأول: كفر وقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين

- ‌أولاً: الأدلة من القرآن على كفر ساب الرسول

- ‌ثانياً: الأدلة من السنة على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: من كذب على رسول الله

- ‌المبحث الثالث: سب الأنبياء

- ‌الفصل الثالث: النواقض العملية في باب النبوات (الاستهانة بالمصحف مثالاً)

- ‌الفصل الأول: إنكار الملائكة والجن

- ‌المبحث الأول: إنكار البعث

الفصل: ‌المطلب الأول: التكفير والتعذيب يكون بعد قيام الحجة

‌المطلب الأول: التكفير والتعذيب يكون بعد قيام الحجة

استدل أهل السنة بأدلة كثيرة على أن التكفير، والتعذيب لا يكون إلا بعد قيام الحجة ومنها قوله تعالى: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] وقوله عز وجل: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وقوله تعالى: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ [الملك:8 - 9] وقال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [الأنعام:130] وقوله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [القصص:59]. وقوله تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: (الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية) .. ثم ذكر عدداً من الأدلة

إلى أن قال: (فمن قد آمن بالله ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلاً، أما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله ورسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به (1) لم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها) (2).

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله بعدما ذكر هذه الآيات: (وهذا كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة)(3).

وقال الإمام الذهبي رحمه الله: (فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة عليه، والله لطيف رؤوف بهم، قال تعالى: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا يبلغهم إلا بعد أشهر، فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص، وكذا يعذر بالجهل من لم يعلم حتى يسمع النص والله أعلم)(4).

لكن قد يقول قائل: إن هذه الأدلة المستدل بها تنفي العذاب في الدنيا فقط؟ فيقال أولاً: (أنه خلاف ظاهر القرآن، لأن ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مطلقاً، فهو أعم من كونه في الدنيا، وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع إلا بدليل يجب الرجوع إليه.

(1) أي تفصيلاً.

(2)

((مجموع الفتاوي)) (12/ 493، 494)، وانظر (17/ 308).

(3)

((طريق الهجرتين)) (ص: 384)، وانظر ((تفسير ابن كثير)) (3/ 28).

(4)

((الكبائر)) للذهبي (12)، تحقيق محي الدين مستو.

ص: 291

الوجه الثاني: أن القرآن دل في آيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة، كقوله: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالوا بلى [الملك:8 - 9] وهو دليل على أن جميع أفواج أهل النار ما عذبوا في الآخرة إلا بعد إنذار الرسل) (1).

ويمكن أن يقال ثالثاً: إن هذه النصوص إذا نفت التعذيب الدنيوي فالأخروي من باب أولى والله أعلم.

إذاً لا تقوم الحجة إلا بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبلوغ ذلك إلى المعين (2). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 218

ولقد أرسل الله الرسل عليهم السلام مبشرين ومنذرين، وأقام سبحانه للناس أسباب الهداية، ومن تمام حكمته وعدله أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] وقال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]، وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ [الملك: 7 - 8].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)) (3)

وتوضيحاً لما سبق ذكره نختار نبذة من مقولات العلماء على النحو الآتي:

يقول ابن حزم: قال الله تعالى لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19]، وقال عز وجل وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15].

فنص تعالى على أن النذارة لا تلزم إلا من بلغته، لا من لم تبلغه، وأنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله عز وجل، فصح بذلك أنه من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((أنه يؤتى يوم القيامة بالشيخ الخرف، والأصم، ومن كان في الفترة، والمجنون، فيقول المجنون يارب أتاني الإسلام، وأنا لا أعقل، ويقول الخرف والأصم، والذي في الفترة أشياء ذكرها، فيوقد لهم نار، ويقال لهم: أدخلوها، فمن دخلها وجدها برداً وسلاماً)) (4)، وكذلك من لم يبلغه الباب من واجبات الدين، فإنه معذور لا ملامة عليه. (5).

ويقول الشاطبي: _ جرت سنته _ سبحانه _ في خلقه، أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكلٍ جزاء مثله.

(1)((أضواء البيان)) (3/ 434).

(2)

وسيأتي بعض الإيضاح لذلك في الفصل القادم.

(3)

رواه مسلم (240)

(4)

رواه أحمد (4/ 224)(16344) ولفظه: (أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أسمع شيئاً وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة، فيقول رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن أدخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها، لكانت عليهم برداً وسلاماً). قال محققه شعيب الأرناؤوط: حديث حسن. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (881): صحيح.

(5)

((الفصل)) (4/ 105).

ص: 292

كما أنه تعالى أنزل القرآن برهاناً في نفسه على صحة ما فيه، وإقامة للحجة وزاد على يدي رسوله عليه الصلاة والسلام من المعجزات ما في بعضه كفاية (1)

ويقول ابن تيمية: وهذا أصل لابد من إثباته، وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولاً تقوم به الحجة عليه. (2)

ثم ساق النصوص القرآنية الدالة على ذلك

ثم قال:

وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه، كقوله تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19]. فمن بلغه بعض القرآن دون بعض، قامت الحجة عليه بما بلغه دون ما لم يبلغه. (3) "

ثم قال: (والذي عليه السلف والأئمة أن الله تعالى لا يعذب إلا من بلغته الرسالة، ولا يعذب إلا من خالف الرسل كما دل عليه الكتاب والسنة، ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال، والمجانين وأهل الفترات، فهؤلاء فيهم أقوال، أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب)(4).

ويقرر ابن القيم أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل (5).

ومن الفوائد التي أوردها العراقي في شرحه لحديث ((لا يسمع بي أحد من هذه الأمة .. )) قوله: ومفهومه إن لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور على ما تقرر في الأصول أن لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح (6).

وأورد الشنقيطي مسألة (هل يعذر المشركون بالفترة (7) أم لا؟) ثم قال: (والتحقيق أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع دخل النار وعذب فيها، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل)(8).

ومن خلال ما أوردناه من نصوص ونقول، يتقرر أن العذاب والمؤاخذة لا يقع إلا بعد النذارة وقيام الحجة، وأن أهل الفترة ومن في حكمهم يمتحنون يوم القيامة، كما جاءت بذلك الأحاديث والله تعالى أعلم (9). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف– ص56

من بلغته الدعوة، فقد قامت عليه الحجة، كما قال ابن تيمية:(حكم الوعيد على الكفر، لا يثبت في حق الشخص المعين، حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله)(10).

(1)((الموافقات)) (3/ 377)، بتصرف يسير.

(2)

((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (1/ 309).

(3)

((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (1/ 310).

(4)

((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (1/ 312). باختصار، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (تفسير سورة الإخلاص)(17/ 308).

(5)

((طريق الهجرتين)) (ص 414)، وانظر ((مدارج السالكين)) (1/ 188).

(6)

((طرح التثريب شرح التقريب)) (7/ 160).

(7)

الفترة: هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسي عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم / انظر ((تفسير ابن كثير)) (2/ 34).

(8)

((أضواء البيان)) (3/ 481)، وانظر التفصيل لهذه المسألة في نفس الكتاب (3/ 474 - 484).

(9)

انظر للمزيد من التفصيل في هذا المطلب: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 28 - 32)، و ((إيثار الحق)) لابن الوزير (ص206)، ((فتح الباري)) (3/ 246)، ((تفسير المنار)) (6/ 72، 73)، ((أهل الفترة ومن في حكمهم)) لموفق أحمد شكري.

(10)

((بغية المرتاد)) (ص: 311).

ص: 293

ويقول في موضع آخر: إن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلف إلا بعد البلاغ لقوله تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: 19] وقوله: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]، ولقوله: لِئَلَاّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165]، ومثل هذا في القرآن متعدد، بين الله سبحانه أنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغه ما جاء به الرسول (1)

وقد يشكل على البعض: كيف تقوم الحجة على من قضى الله تعالى بخذلانه وحرمانه؟ ولكن كما قال ابن القيم رحمه الله:

(فإن قيل كيف تقوم حجته عليهم، وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه، قيل: حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، وأقام لهم أسباب الهداية باطناً وظاهراً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه، نعم قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه

) (2).

2 -

وأمر آخر وهو أن إقامة الحجة ليس لكل مسألة مطلقاً،

فهناك أمور كالمسائل الظاهرة مما هو معلوم من الدين بالضرورة لا يتوقف في كفر قائلها، ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس

وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله) (3).

ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (إن الذين توقفوا في تكفير المعين، في الأشياء التي قد يخفى دليلها، فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر سواء فهم، أو قال: ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد وأما ما علم بالضرورة أن رسول الله جاء به وخالفه، فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف سواء في الأصول أو الفروع ما لم يكن حديث عهد بالإسلام)(4).

3 -

وإذا أردنا أن نتحدث عن الضابط في قيام الحجة على المعين، فيمكن القول بأن الأصل أنه لا تكفير للمعين إلا إذا كانت الحجة الرسالية قد بلغته، وقد يراد ببلوغ الحجة الرسالية مجرد البلوغ العام الذي تقوم به الحجة بأصل الدين الذي هو عبادة الله والتقرب إليه وحده والإتباع المجمل للشريعة، وقد يراد ببلوغ الحجة ما يتعلق بتفاصيل الحجة الرسالية، والإتباع المفصل للشريعة بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فلابد فيه لإقامة الحجة من الإبلاغ التفصيلي، فمن لم تبلغه حجة الله بشيء من تلك الأمور، لم يكن مكلفاً، فالحجة الرسالية على التفصيل شرط في التكليف.

وأما الإقرار بأصل الدين الشهادتين علماً وعملاً فهو كاف في قيام الحجة في استحقاق الله وحده للعبادة دون غيره، ومجمل الإتباع للشريعة (5).

(1)((مجموع الفتاوى)) (22/ 41).

(2)

((شفاء العليل)) (ص: 173).

(3)

((الدرر السنية)) (8/ 244) وانظر (8/ 90).

(4)

((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (1/ 74)، وانظر ((فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء)) (1/ 528).

(5)

انظر للمزيد: ((رسالة ضوابط التكفير)) لعبد الله القرني (ص 298 - 326)

ص: 294

وأما شرط قيام الحجة على الخلق (فالحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله، كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلاً، وهذه أوقات الفترات)(1).

4 -

ومما يجدر ذكره هاهنا أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص، كما قال ابن القيم:(إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له)(2).

5 -

كما ينبغي أن يفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (وأصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 44].

وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها نوع آخر، فإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قول صلى الله عليه وسلم في الخوارج:((أينما لقيتموهم فاقتلوهم)). (3) مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها) (4).

ويقول أيضاً: (0من المعلوم أن قيام الحجة ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ [الإسراء: 46] وقوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [الأنفال: 22])(5).

ومقصود الشيخ الإمام من فهم الحجة ها هنا: أي الفهم الذي يقتضي الانتفاع والتوفيق والاهتداء، كما مثل له بفهم الصديق رضي الله عنه، وأما قيام الحجة فتقضي الإدراك وفهم الدلالة، والإرشاد، وإن لم يتحقق توفيق أو انتفاع، كما قال الله تعالى وَأَما ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت: 17].

ومما يؤكد ذلك ما سطره تلميذه الشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله حيث قال: (وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلياً كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليه حجة الله مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه)(6). نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي

العبد اللطيف – ص: 71

(1)((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/ 59)، وانظر ((مجموع الفتاوى)) (19/ 17).

(2)

((طريق الهجرتين)) (ص: 414).

(3)

رواه البخاري (6931)، ومسلم (1066).

(4)

((مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب)) (3/ 12، 13).

(5)

((الدرر السنية)) (8/ 79) وانظر كلام الشيخ عبدالله أبا بطين في ((الدرر السنية)) (8/ 213، 214) و ((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 515).

(6)

((مجموعة الرسائل والمسائل النجدية)) (4/ 638) وانظر رسالة ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص: 344، 345).

ص: 295