المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: العذر بالتأويل - الموسوعة العقدية - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: الأدلة من السنة المطهرة

- ‌الفصل الثاني: أقوال أهل السنة في مسمى الإيمان، وما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الأول: أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان وزيادته ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص

- ‌المطلب الثاني: أقوال السلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌المبحث الثاني: ما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الثالث: ما روي عن الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأول: أوجه زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: تعلم العلم النافع

- ‌المطلب الثاني: التأمل في آيات الله الكونية

- ‌المطلب الثالث: الاجتهاد في القيام بالأعمال الصالحة

- ‌المبحث الثالث: أسباب نقصان الإيمان

- ‌المبحث الأول: شعب الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على أن الإيمان مركب من شعب

- ‌الفصل الخامس: الاستثناء في الإيمان

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ (أمؤمن أنت)

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الشهادتان

- ‌المبحث الثاني: الصلاة

- ‌المبحث الثالث: الزكاة

- ‌المبحث الرابع: الصوم

- ‌المبحث الخامس: الحج

- ‌المبحث السادس: حكم تارك الأركان الأربعة

- ‌الفصل الثاني: هل الإسلام يزيد وينقص

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإسلام

- ‌المبحث الأول: هل الإسلام هو الإيمان

- ‌المبحث الثاني: حالات ورود لفظ الإيمان والإسلام في كلام الله ورسوله

- ‌المبحث الثالث: التلازم بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: ثمرة التفريق بين الإسلام والإيمان

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: أصل الإيمان، أو الإيمان المجمل، أو مطلق الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الإيمان الواجب، أو الإيمان المفصل، أو الإيمان المطلق، أو حقيقة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: الإيمان المستحب، أو الإيمان الكامل بالمستحبات

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان

- ‌المبحث الخامس: دخول الأعمال في هذه المراتب الثلاثة

- ‌المبحث السادس: حكم التقصير في كل مرتبة من المراتب الثلاث

- ‌الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن

- ‌المبحث الأول: مرتبة الإسلام

- ‌المبحث الثاني: مرتبة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: مرتبة الإحسان

- ‌تمهيد

- ‌المسألة الأولى: تعريف الصغائر

- ‌المسألة الثانية: الإصرار على الصغائر

- ‌المسألة الأولى: تعريف الكبيرة والفرق بينها وبين الصغيرة

- ‌المسألة الثانية: حكم الإصرار على المعصية

- ‌المبحث الثاني: الفاسق الملي

- ‌المطلب الأول: تعريف الفسق

- ‌المطلب الثاني: المقصود بالفاسق الملي

- ‌المبحث الثالث: حكم أهل الكبائر (الفاسق الملي) عند أهل السنة

- ‌المطلب الأول: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام

- ‌المطلب الثاني: هل القول بعدم تكفير عصاة الموحدين على إطلاقه أم مقيد

- ‌المطلب الثالث: ما ورد من الذنوب تسميته كفرا، أو فيه نفي الإيمان عن صاحبه أو البراءة منه

- ‌المطلب الأول: أحكام الدنيا

- ‌المطلب الثاني: أحكام الآخرة من ثواب وعقاب

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: أدلة أهل السنة على هذا الأصل

- ‌المبحث الثاني: ضوابط أهل السنة في مسألة اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد

- ‌المبحث الثالث: اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد وأثره في مسألة الولاء والبراء

- ‌الفصل الثالث: أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه

- ‌الفصل الأول: هل الإيمان مخلوق

- ‌الفصل الثاني: حكم إيمان المقلدين

- ‌الفصل الثالث: حكم من مات من أطفال المسلمين

- ‌الفصل الرابع: حكم من مات من أطفال المشركين

- ‌الفصل الخامس: حكم أهل الفترة

- ‌تمهيد في تعريف الناقض

- ‌الباب الأول: تعريف الكفر والردة، وضوابط إجراء الأحكام

- ‌المبحث الأول: تعريف الكفر

- ‌المبحث الثاني: أنواع الكفر

- ‌المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر

- ‌المبحث الرابع: قواعد في معرفة أنواع الكفر

- ‌المبحث الخامس: الكفر يكون قولاً باللسان، واعتقاداً بالقلب، وعملاً بالجوارح

- ‌الفصل الثاني: تعريف الردة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الحكم بالظاهر وأدلته

- ‌المبحث الثاني: تكفير المعين والفرق بينه وبين تكفير المطلق

- ‌المطلب الأول: التكفير والتعذيب يكون بعد قيام الحجة

- ‌المطلب الثاني: كيفية قيام الحجة على المعين

- ‌المطلب الثالث: قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص

- ‌المبحث الرابع: عدم التكفير بكل ذنب

- ‌المبحث الخامس: اعتبار المقاصد

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: العذر بالجهل

- ‌المطلب الأول: تعريف الخطأ لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: الفرق بين الخطأ وبين الجهل

- ‌المطلب الثالث: أدلة العذر بالخطأ

- ‌المطلب الأول: تعريف التأويل لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتأويل

- ‌المطلب الثالث: الموقف من أهل التأويل

- ‌المطلب الرابع: التكفير بالمآل أو بلازم المذهب

- ‌المطلب الأول: تعريف الإكراه لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع الإكراه

- ‌المطلب الثالث: شروط الإكراه

- ‌المطلب الرابع: الإكراه على الكفر

- ‌المطلب الأول: تعريف التقليد لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع التقليد

- ‌المطلب الثالث: التقليد في العقيدة وهل يعتبر عذرا

- ‌المبحث السادس: العجز

- ‌المطلب الأول: تعريف التقية

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتقية

- ‌الباب الثاني: نواقض الإيمان في باب التوحيد

- ‌المبحث الأول: ما يناقض قول القلب

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية

- ‌المطلب الثاني: الشرك في الألوهية

- ‌المطلب الثالث: إنكار اسم أو صفة لله تعالى

- ‌المطلب الرابع: الإعراض عن دين الله

- ‌المطلب الخامس: الشك في حكم من أحكام الله أو خبر من أخباره

- ‌المطلب الأول: كفر الإباء والاستكبار

- ‌المطلب الثاني: الشرك الأكبر بعمل القلب

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالاعتقاد

- ‌المطلب الأول: حكم سب الله تعالى أو الاستهزاء به:

- ‌المطلب الثاني: هل من سب الله تقبل توبته وهل يستتاب كالمرتد

- ‌المبحث الثاني: أمثلة لنواقض الإيمان بالقول

- ‌المطلب الأول: الذبح والنذر الركوع والسجود والطواف

- ‌المطلب الثاني: الاستغاثة بغير الله تعالى

- ‌المطلب الثالث: دعاء الموتى

- ‌المبحث الثاني: شرك التشريع والحكم بغير ما أنزل الله

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالفعل

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: رأي من يعتقد هذا الاعتقاد باختصار

- ‌المطلب الثاني: الرد على هذا الادعاء

- ‌المطلب الثالث: حكم من اعتقد هذا الاعتقاد

- ‌المبحث الثاني: ادعاء النبوة

- ‌المبحث الثالث: إنكار الكتب المنزلة أو شيء منها

- ‌المبحث الرابع: بغض أو كراهية بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل

- ‌المبحث السادس: كفر من سوغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السابع: من استهزأ بشيءٍ جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثامن: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الشك في رسالته

- ‌المبحث التاسع: كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض

- ‌المطلب الأول: كفر وقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين

- ‌أولاً: الأدلة من القرآن على كفر ساب الرسول

- ‌ثانياً: الأدلة من السنة على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: من كذب على رسول الله

- ‌المبحث الثالث: سب الأنبياء

- ‌الفصل الثالث: النواقض العملية في باب النبوات (الاستهانة بالمصحف مثالاً)

- ‌الفصل الأول: إنكار الملائكة والجن

- ‌المبحث الأول: إنكار البعث

الفصل: ‌المطلب الثاني: العذر بالتأويل

‌المطلب الثاني: العذر بالتأويل

والمقصود بالتأول ها هنا: التلبس والوقوع في الكفر من غير قصد لذلك، وسببه القصور في فهم الأدلة الشرعية، دون تعمد للمخالفة، بل قد يعتقد أنه على حق (1).

يقول ابن حجر في تعريف للتأويل السائغ: (قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم، إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم)(2).

والتأويل السائغ والإعذار به له اعتبار في مسألة التكفير، بل في الوعيد عموماً ولذا يقول ابن تيمية: (إن الأحاديث المتضمنه للوعيد يجب العمل بها في مقتضاها، باعتقاد أن فاعل ذلك الفعل متوعد بذلك الوعيد، لكن لحوق الوعيد له متوقف على شروط، وله موانع.

وهذه القاعدة تظهر بأمثلة، منها أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)) (3). وصح عنه من غير وجه أنه قال لمن باع صاعين بصاع يداً بيد: ((أوه عين الربا)) (4) كما قال: ((البر بالبر ربا، إلا هاء وهاء.)) (5) الحديث، وهذا يوجب دخول نوعي الربا: ربا الفضل وربا النسيئة في الحديث.

ثم إن الذين بلغهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الربا في النسيئة)) (6). فاستحلوا بيع الصاعين بالصاع يداً بيد، مثل ابن عباس رضي الله عنه، وأصحابه

الذين هم من صفوة الأمة علماً وعملاً، لا يحل لمسلم أن يعتقد أن أحداً منهم بعينه، أو من قلده بحيث يجوز تقليده تبلغهم لعنة آكل الربا؛ لأنهم فعلوا ذلك متأولين تأويلاً سائغاً في الجملة) (7).

ويقول أيضاً: (وعمل السلف وجمهور الفقهاء بأن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود، ولا دية، ولا كفارة، وإن كان قتلهم وقتلهم محرما)(8).

ويقول ابن تيمية - في موضع ثالث -:

(والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً)(9).

ويقرر ابن حزم العذر بمثل هذا التأويل قائلاً: -

(ومن بلغه الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأول في خلافه إياه، أو ردّ ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة في ذلك، فعاند، فلا تأويل بعد قيام الحجة). (10).

كما يقرر ذلك ابن الوزير حيث يقول: (قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: 106]، ويؤيد أن المتأولين غير كفار؛ لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعاً، أو ظناً، أو تجويزاً، أو احتمالاً)(11).

(1) انظر: رسالة ((ضوابط التكفير)) للقرني (ص: 328، 346).

(2)

((فتح البارى)) (12/ 3،4).

(3)

رواه مسلم (1958) بلفظ: (لعن رسول الله.). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.

(4)

رواه البخاري (2312)، ومسلم (1594).

(5)

رواه البخاري (2312)، ومسلم (1594). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(6)

رواه مسلم (1596) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

(7)

((مجموع الفتاوى)) (20/ 263) باختصار يسير، وقد أطنب ابن تيمية في ذكر أمثلة عديدة. انظر ((مجموع الفتاوى)) (20/ 264 - 268)، و ((الاستقامة)) (2/ 189).

(8)

((مجموع الفتاوى)) (20/ 254).

(9)

((مجموع الفتاوى)) (3/ 231) وانظر (3/ 283، 12/ 523).

(10)

((الدرة)) (ص: 414)، وانظر ((الفصل)) (3/ 296، 297)

(11)

((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 437).

ص: 324

ويعلق الشوكاني على عبارة صاحب كتاب (الأزهار)(1): (والمرتد بأي وجه .. كفر " فيقول: أراد المصنف إدخال كفار التأويل اصطلاحاً في مسمى الردة، وهذه زلة قدم يقال عندها لليدين وللفم، وعثرة لا تقال، وهفوة لا تغتفر، ولو صح هذا لكان غالب من على ظهر البسيطة من المسلمين مرتدين)(2).

ويقول الشيخ عبدالرحمن السعدي:

(إن المتأولين من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطأوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقاً والتزموا ذلك، لكنهم أخطأوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية، فهؤلاء قد دل الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك)(3).

2 -

إذا ظهر أن التأويل عذر في مسألة التكفير، فإن هذا لا يعني أن كل من ادعى التأويل فهو معذور بإطلاق، بل يشترط في ذلك التأويل أن لا يكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وقبول شريعته؛ لأن هذا الأصل (الشهادتين) لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه، ولهذا أجمع العلماء على كفر الباطنية مثلاً وأنهم لا يعذرون بالتأويل؛ لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى، وعدم عبادة الله وحده، وإسقاط شرائع الاسلام (4).

ومن ثم فليس كل التأويل يعتبرا سائغاً أو عذراً مقبولاً، فهناك من التأويل ما يعتبر سائغاً، ومنه ما ليس كذلك، فلابد من مراعاة ذلك، وعدم الخلط بينهما.

يقول قوام السنة إسماعيل الأصفهاني: -

(المتأول إذا أخطأ وكان من أهل عقد الإيمان، نظر في تأويله، فإن كان قد تعلق بأمر يفضي به إلى خلاف بعض كتاب الله أو سنة يقطع بها العذر، أو إجماع فإنه يكفر ولا يعذر؛ لأن الشبهة التي يتعلق بها من هذا ضعيفة لا يقوى قوة يعذر بها؛ لأن ما شهد له أصل من هذه الأصول، فإنه في غاية الوضوح والبيان، فلما كان صاحب هذه المقالة لا يصعب عليه درك الحق، ولا يغمض عنده بعض موضع الحجة لم يعذر في الذهاب عن الحق، بل عمل خلافه في ذلك على أنه عناد وإصرار، ومن تعمد خلاف أصل من هذه الأصول، وكان جاهلاً لم يقصد إليه من طريق العناد فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يقصد اختيار الكفر، ولا رضي به، وقد بلغ جهده، فلم يقع له غيره ذلك، وقد أعلم الله سبحانه أنه لا يؤاخذ إلا بعد البيان، ولا يعاقب إلا بعد الإنذار فقال تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم ما يَتَّقُونَ [التوبة: 115]. فكل من هداه الله عز وجل، ودخل في عقد الإسلام، فإنه لا يخرج إلى الكفر إلا بعد البيان)(5).

ويقول ابن حزم: (وأما من كان من غير أهل الإسلام من نصراني أو يهودي أو مجوسي، أو سائر الملل، أو الباطنية القائلين بإلهية إنسان من الناس، أو بنوة أحد من الناس، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعذرون بتأويل أصلاً، بل هم كفار مشركون على كل حال)(6).

(1)((كتاب الأزهار في فقه الزيدية))، وعنوانه كاملاً:((الأزهار في فقه الأئمة الأخيار)) ومؤلفه: أحمد بن يحيي المهدي المتوفي سنة 840 هـ، انظر ((الأعلام)) (1/ 269).

(2)

((السيل الجرار)) (4/ 373))، وانظر أيضاً (4/ 576).

(3)

((الإرشاد في معرفة الأحكام)) (ص: 207).

(4)

انظر رسالة ((ضوابط التكفير)) (ص: 369)، وانظر ((فتوى شيخ الاسلام ابن تيمية في شأن الباطنية)) (35/ 161، 162).

(5)

((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 510، 511).

(6)

((الدرة)) لابن حزم (ص: 441) وانظر (ص: 414).

ص: 325

ويذكر أبو حامد الغزالي التأويل الغير سائغ ومثاله فيقول: (ولابد من التنبيه على قاعدة وهو أن المخالف قد يخالف نصاً متواتراً، ويزعم أنه مؤول، مثاله: ما في كلام بعض الباطنية أن الله تعالى واحد بمعنى أنه يعطي الوحدة ويخلقها، وعالم بمعنى أنه يعطى العلم لغيره ويخلقه، وموجود بمعنى أنه يوجد غيره، وأما أن يكون واحداً في نفسه، وموجوداً، وعالماً على معنى اتصافه فلا، وهذا كفر صراح؛ لأن حمل الوحدة على اتحاد الوحدة ليس من التأويل في شيء، ولا تحتمله لغة العرب أصلاً

فأمثلة هذه المقالات تكذيبات عبر عنها بالتأويلات) (1).

كما يورد ابن الوزير أمثلة للتأويل المردود، مما لا يمكن أن يكون عذراً لمن تلبس به فيقول:(لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار)(2).

ويقول السعدي موضحاً تباين أهل البدع ممن تلبس بتأويل وشبهة: (هؤلاء المبتدعة المخالفون لما ثبتت به النصوص الصريحة والصحيحة، أنهم في هذا الباب أنواع، من كان منهم عارفاً بأن بدعته مخالفة للكتاب والسنة فتبعها ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهره، وشاق الله ورسوله من بعد ما تبين له الحق، فهذا لا شك في تكفيره، ومن كان منهم راضياً ببدعته معرضاً عن طلب الأدلة الشرعية، وطلب ما يجب عليه من العلم الفارق بين الحق والباطل ناصراً لها، راداً ما جاء به الكتاب والسنة مع جهله وضلاله، واعتقاده أنه على الحق، فهذا ظالم فاسق بحسب تركه ما أوجب الله عليه، وتجرئه على ما حرم الله تعالى ومنهم من هو دون ذلك، ومنهم من هو حريص على اتباع الحق واجتهد في ذلك، ولم يتيسر له من يبين له ذلك فأقام على ما هو عليه، ظاناً أنه صواب من القول، غير متجرئ على أهل الحق بقوله، ولا فعله، فهذا ربما كان مغفوراً له خطؤه والله أعلم)(3).

ثم يكشف السعدي الفرق بين أهل التأويل السائغ وغيرهم فيقول:

(والمقصود أنه لا بد من هذا الملحظ في هذا المقام؛ لأنه وجد بعض التفاصيل التي كفر أهل العلم فيها من اتصف بها، وثم أخر من جنسها لم يكفروه بها، والفرق بين الأمرين أن التي جزموا بكفره بها لعدم التأويل المسوغ وعدم الشبهة المقيمة لبعض العذر، والتي فصلوا فيها القول، لكثرة التأويلات الواقعة فيها)(4).

أما التأويلات التي لا يعذر أصحابها، فتأويلات الباطنية والفلاسفة ونحوهم ممن حقيقة أمرهم تكذيب للدين جملة وتفصيلا، أو تكذيب لأصل لا يقوم الدين إلا به كإنكار الفلاسفة لحشر الأجساد وقولهم إن الله سبحانه لا يعلم الجزئيات، أو تأويل الفرائض والأحكام بما يخرجها عن حقيقتها وظاهرها، أو الاعتقاد بألوهية بعض البشر كتأليه علي أو الحاكم بأمره كما عند النصيرية والدروز، أو القول بتحريف القرآن، أو تأويل جميع الأسماء والصفات أو القول بسقوط التكاليف عن البعض ونحو ذلك من الاعتقادات الغالية التي لا تعتمد على أي مستند نصي أو لغوي ولو من وجه محتمل.

(1)((فيصل التفرقة)) (ص: 147).

(2)

((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 415) وانظر (ص 129)، و ((العواصم)) لابن الوزير (4/ 177).

(3)

((الإرشاد في معرفة الأحكام)) (ص: 209)، ولمعرفة أقوال العلماء تفصيلاً. في الحكم على المتأولين انظر ((الشفا)) لعياض (2/ 1051 - 1065).

(4)

((الإرشاد في معرفة الأحكام)) (ص: 209).

ص: 326

يقول ابن الوزير – رحمه الله: (وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم ضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار، وإنما يقع الإشكال في تكفير من قام بأركان الإسلام الخمسة المنصوص على إسلام من قام بها إذا خالف المعلوم ضرورة للبعض أو للأكثر لا المعلوم له، وتأول وعلمنا من قرائن أحواله أنه ما قصد التكذيب أو التبس ذلك علينا في حقه وأظهر التدين والتصديق بجميع الأنبياء والكتب الربانية مع الخطأ الفاحش في الاعتقاد، ومضاده الأدلة الجلية، ولكن لم يبلغ مرتبة الزنادقة المقدمة)(1).

ويقول أيضاً: (

أما من كذب اللفظ المنزل أو جحده، كفر متى كان ممن يعلم بالضرورة أنه يعلمه بالضرورة، وإنما الكلام في طوائف الإسلام الذين وافقوا على الإيمان بالتنزيل، وخالفوا في التأويل فهؤلاء لا يكفر منهم إلا من تأويله تكذيب، ولكن سماه تأويلاً مخادعة للمسلمين ومكيدة للدين كالقرامطة الذين أنكروا وصف الله تعالى بكونه موجوداً وعالماً وقادراً ونحو ذلك من الصفات التي علم الكافة بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بها على ظاهرها) (2)، وقال الملا القاري الحنفي:(وأما من يؤول النصوص الواردة في حشر الأجساد، وحدوث العالم، وعلم الباري بالجزئيات فإنه يكف لما علم قطعاً من الدين أنها على ظواهرها بخلاف ما ورد في عدم خلود أهل الكبائر في النار لتعارض الأدلة في حقهم)(3)، وذكر الإمام ابن حزم رحمه الله أمثلة كثيرة لبعض الطوائف الغالية المنسوبة إلى الإسلام، وبعض ضلالاتها فقال:(وقد تسمى باسم الإسلام من أجمع جميع فرق الإسلام على أنه ليس مسلماً، مثل طوائف من الخوارج غلوا فقال: إن الصلاة ركعة بالغداة، وركعة بالعشي فقط، وقالوا: إن سورة يوسف ليست من القرآن، وطوائف كانوا من المعتزلة ثم غلوا فقالوا بتناسخ الأرواح، وآخرون قالوا: إن النبوة تكتسب بالعمل الصالح، وآخرون قالوا قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء، وأن من عرف الله حق معرفته فقد سقطت عنهم الأعمال والشرائع وقال بعضهم بحلول الباري تعالى في أجسام خلقه كالحلاج وغيره)(4). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– 2/ 220

حكم المتأول من حيث العموم هو حكم الجاهل. بل قد يكون المتأول في بعض أحواله أولى بالإعذار من الجاهل. لأن الجاهل من حيث الأصل جاهل بالحق فقط. وأما المتأول فهو مع جهله بالحق يدعي أن ما هو عليه هو الحق. فالجاهل قد تكون مخالفته في الظاهر بكفر أو ما دونه من غير قصد إلى ذلك فقط. وأما المتأول فهو مع مخالفته الظاهرة وعدم قصده إلى المخالفة يدعي أنه على الحق. وبهذا نعلم أن من كان جهله لعدم العلم يكفي في قيام الحجة عليه مجرد بلوغ الحجة، وأما من كان جهله لعدم العلم يكفي في قيام الحجة عليه مجرد بلوغ الحجة، وأما من كان جهله مع ادعاء أنه في مخالفته على حق، فإنه قد لا يكفي في قيام الحجة عليه مجرد بلوغ الحجة، بل لابد مع ذلك من إزالة شبهته.

وأما من كان جهله مع وجود شبهة وتأول، فإنه ولو بلغته الحجة مع تمكن الشبهة منه قد يكون معذوراً إذا لم يلتزم بمقتضى الحجة.

(1)((إيثار الحق)) (ص: 415).

(2)

((العواصم والقواصم)) (4/ 176).

(3)

((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 69)، وانظر ((فيصل التفرقة))، للغزالي (ص: 147)، و ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 156 – 160).

(4)

((الفصل)) (2/ 114).

ص: 327

وهنا قد يقول قائل: إن المناط في قيام الحجة على المعين مطلقاً هو مجرد بلوغها، ولا فرق في ذلك بين أن يكون عنده شبهة أولا يكون. ومقتضى ذلك ألا يعذر أحد بالشبهة بعد بلوغ الحجة الرسالية.

ويستند من يقول هذا القول إلى أن الله قد حكم بالكفر على من وصفهم بأنهم لا يفقهون، وأنهم لا يعلمون، وأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ونحو ذلك. ومن ذلك قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الإسراء: 46]. وقول الله تعالى:

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: 44].

وقوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال: 22 – 23]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]

[الأعراف: 179]. وقوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: 103 – 105]. ونحو ذلك من الآيات مما في هذا المعنى كثيرة.

والجواب أن هذا بحمد الله لا يعارض إعذار المتأول، ويتبين ذلك بوجهين:

الأول: أن هناك فرقاً بين فهم الدلالة وفهم الهداية. فليس كل من بلغته الحجة وفهمها يهتدي بها. لكن الله قد جعل فهم الدلالة شرطاً في تكليف عموم الناس، مؤمنهم وكافرهم، ولم يجعل فهم الهداية والتوفيق إلا لمن أراد لهم ذلك.

فالفهم المشروط في قيام حجة الله على العباد غير الفهم الذي هو مقتضى هداية الله تعالى وتوفيقه. والشبهة التي تتعلق بفهم الحجة غير الشبهة التي هي لعدم الهداية ولو بلغت الحجة، وهذا فرق ظاهر.

يبين ذلك أن الآيات التي قد يستدل بها من لا يفرق بين هذين الأمرين كلها فيما يتعلق بنفي العلم والعقل الذي هو مقتضى الهداية. ولذلك فإن الله كما نفى عمن حكم بكفرهم في تلك الآيات

العلم والفهم، فقد نفى عنهم أنهم يسمعون أو يبصرون. ومعلوم أن السمع والبصر المنفي هنا هو مقتضى الهداية، لا أنهم صم لا يسمعون شيئاً عمي لا يرون شيئاً. فكذلك العقل والفهم المنفي عنهم، هو مقتضى الهداية والتوفيق، لا أنهم مجانين لا يعرفون شيئاً، ولا يفهمون ما يقال لهم.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال: 23]. (أخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم، فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعاً تقوم به عليهم حجته)(1).

(1)((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 97).

ص: 328

ويقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: (والسمع الذي نفاه الله عنهم، سمع المعنى المؤثر في القلب. وأما سمع الحجة فقد كانت حجة الله تعالى عليهم بما سمعوه من آياته، وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيراً يصلحون به لسماع آياته)(1).

ثم يقال أيضاً: إن الشبهة التي تحصل للكافر بل وللمبتدع الضال الذي لم يكفر ببدعته ليست ابتداءً من الله بعبده، بل لا تكون إلا جزاءً على إعراض العبد عن الحق بعد تبينه له وقيام الحجة به عليه. ومعرفة هل الشبهة لأجل عدم الفهم حقيقة أم لأجل عدم الهداية إلى الفهم مما لا يمكن الاطلاع عليه، لأنه أمر باطن لا يعلم، ونحن إنما نحكم على الظاهر، وإذا ثبت أن من حصلت له شبهة من جهة عدم الفهم فهو معذور كان هذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في حكم الظاهر، لأنه هو الظاهر.

الثاني: إن من القواعد الشرعية المقررة أن المؤاخذة والتأثيم لا تكون على مجرد المخالفة ما لم يتحقق القصد إليها. والمتأول في حقيقته مخطئ غير متعمد للمخالفة، بل هو يعتقد أنه على حق، وذلك هو قصده ونيته، وقد قال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]. وهذا عام في كل خطأ، لأنه يكون عن غير قصد ولا تعمد. وقد جاء في (صحيح مسلم) أنه لما نزل قول الله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] قال الله: (قد فعلت)(2). فدل هذا على أن من أخطأ أو نسي فإنه غير مؤاخذ لوعد الله له بذلك وعفوه عن عباده. وقال الله تعالى: لَاّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225]

وفي آية أخرى: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّم ُالأَيْمَانَ [المائدة: 89] وهذا ليس خاصا بالخطأ في اليمين، بل هي قاعدة عامة في كل خطأ لايمكن العلم بالحق فيه إلا من جهة الحجة الرسالية. فتبين من كل ما سبق أنه لابد قبل الحكم على المعين من التحقق من قصد المعين بضوابطه الشرعية، وأن ذلك ركن مشروط في الحكم عليه مع تحقق المخالفة في الظاهر.

ثم يقال بعد تقرير هذا: إذا كان تحقق القصد إلى المخالفة شرطاً في التأثيم والمؤاخذة، فقد لا يكفي مجرد بلوغ الحجة في إزالة الشبهة، فقد يتأول من عنده شبهة تلك الحجة لتوافق شبهته، غير قاصد تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا رد الشريعة، ولكنه يظن أن ذلك هو مفهوم الحجة، ومثل هذا معذور إذا تأول، لأنه في الحقيقة مخطئ فكيف يقال مع هذا إن مجرد بلوغ الحجة كاف في قيامها على المعين مطلقاً، وعدم إعذاره إذا كان له شبهة؟

وهذا الذي تقرر من الإعذار بالشبهة، ولو مع بلوغ الحجة إذا تأولها المتأول، بحيث نعلم من حاله أنه غير مكذب لها ولا مستحل مخالفتها هو منهج سلف الأمة وأئمتها، وقد يطلقون القول بكفر من قال كذا، كما أطلق الإمام أحمد رحمه الله القول بكفر من قال بخلق القرآن لكنهم لا يلتزمون بذلك في الحكم على كل معين لأن الكلام في حكم القول من جهة وصفه الشرعي غير الحكم على المعين بذلك الحكم، ولو تلبس بما هو كفر في الشرع ولو لم تكن الشبهة عذراً معتبراً للزوم تكفير المتكلمين بتأويلهم لنصوص الصفات، وحملهم لها على المجاز، وأنها ليست ثابتة لله على الحقيقة، لظنهم أن ذلك يستلزم تشبيه الله بخلقه، فردهم لنصوص الصفات مبني على إرادة التنزيه لله عن مشابهة خلقه حسب ظنهم وعلى هذا فهم لم يريدوا رد تلك النصوص تكذيباً بها.

(1)((تفسير السعدي)) (3/ 155).

(2)

رواه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 329

فرد النصوص كفر، لكن من تحقق منه ذلك قد يكون مكذبا بالنص فيكون كافراً، وقد يكون له شبهة فلا يكون مكذباً فلابد من التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين ولذلك لم يكفر الإمام أحمد رحمه الله كل من دعا إلى القول بخلق القرآن بعينه، مع قوله إن القول بخلق القرآن كفر.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه.

فإن الإمام أحمد مثلاً قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل.

والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذا ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر).

إلى أن قال: (ومعلوم أن هذا من التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.

ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع. وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة.

فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفضيل فيقال: من كفره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه. هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم) (1)

ويقول في موضع آخر عن نفس المسألة: (فالإمام أحمد رضي الله تعالى عنه ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا من قال ذلك لهم)(2).

فهذا الإمام أحمد رحمه الله لم يكفر من إطلاق القول بتكفيرهم على العموم، مع أنه قد بلغ حجة الله في ذلك وجادلهم وعرفوا ما عنده مما يبين حكم الله فيما يقولونه من الكفر.

وكان هو في وقته علم الأمة، وإمام أهل السنة، فلم يكن المانع من تكفيرهم إلا ما عرفوه الإمام أحمد من حالهم، وأنهم لم يقصدوا التكذيب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما ظنوا أن قولهم هو الحق، لما عرض لهم من الشبه في ذلك، فعذرهم ولم يكفرهم بأعيانهم، مع قيامه بحجة الله وبيان أن قولهم كفر.

(1)((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (12/ 487 - 489).

(2)

((المسائل الماردينية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ص: 126).

ص: 330

ولهذا لم يكفر الإمام ابن تيمية الذين جادلوه من الجهمية في عصره مع أن قولهم كفر. ويحكى ذلك عن نفسه فيقول: (كنت أقول للجهمية من الحلولية (1)، والنفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر. وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال. وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم. وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم، في قصور من معرفة المنقول الصححيح والمعقول الصريح الموافق له) (2).

وما وصف به الإمام ابن تيمية هؤلاء من الجهل إنما هو ما حصل لهم من الشبهات التي اقتضت ما قالوه من الكفر، لا أنهم جهال لم تبلغهم الحجة. كيف وقد جادلهم في ذلك، وبين حكم الله فيما قالوه، وبين لهم أن قولهم كفر.

وعلى هذا فقيام الحجة لا يكفي فيه مجرد بلوغها، بل لابد مع ذلك من فهم تلك الحجة، وألا تعرض للمعين شبهة معتبرة تمنعه من اعتقاد ما هو مقتضى تلك الحجة، وإلا كان معذوراً إذا تأولها، لا فرق في ذلك بين الشبهة في المقالات الخفية وغيرها، ولا الشبهة عند من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بإسلام أو لم يكن كذلك.

وذلك أن كون المقالة خفية من الأمور النسبية التي تختلف بحسب أحوال الناس، فلا بد من اعتبار تلك الأحوال، والتبين والتثبت من تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه قبل المعين.

وهذا الذي تقرر هو منهج أهل السنة، الذين هم أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق، وأما غيرهم من الفرق فقد أسرفوا في تكفير مخالفيهم، بناء على ما قرروه من أن ما هم عليه أصول لا يعذر أحد بمخالفتها لشبهة أو لغير شبهة. وقد تهافتوا في ذلك من غير ضابط، حتى كفروا مخالفيهم بالجزئيات الخفية فضلاً عن الظاهرة، وبالإلزام فضلاً عن الالتزامات، بل أكثر ما يكفرون به ليس كفرا في الأصل وحكم الشرع.

وعدم الجزم بتكفير من تأول لشبهة، ولو كان تأوله كفرا مبني على أصل، وهو أن من تحقق منه ذلك ثبت له وصف الإسلام بيقين، والحكم عليه بالكفر، مع ظهور ما يدل على أن قصده ليس تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا مضادة الشريعة مجازفة وتهور من غير بينة ولا برهان. وأحكامنا مبينة على الظاهر، وظاهر من كان كذلك لا قطع فيه بالكفر. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني- ص331

(1) ليس المقصود بالحلولية هنا أهل الحلول والاتحاد، وإنما المقصود الجهمية الذين ينفون أسماء الله وصفاته وكونه على العرش استوى.

(2)

((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: 259).

ص: 331