المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر - الموسوعة العقدية - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: الأدلة من السنة المطهرة

- ‌الفصل الثاني: أقوال أهل السنة في مسمى الإيمان، وما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الأول: أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان وزيادته ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص

- ‌المطلب الثاني: أقوال السلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌المبحث الثاني: ما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الثالث: ما روي عن الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأول: أوجه زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: تعلم العلم النافع

- ‌المطلب الثاني: التأمل في آيات الله الكونية

- ‌المطلب الثالث: الاجتهاد في القيام بالأعمال الصالحة

- ‌المبحث الثالث: أسباب نقصان الإيمان

- ‌المبحث الأول: شعب الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على أن الإيمان مركب من شعب

- ‌الفصل الخامس: الاستثناء في الإيمان

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ (أمؤمن أنت)

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الشهادتان

- ‌المبحث الثاني: الصلاة

- ‌المبحث الثالث: الزكاة

- ‌المبحث الرابع: الصوم

- ‌المبحث الخامس: الحج

- ‌المبحث السادس: حكم تارك الأركان الأربعة

- ‌الفصل الثاني: هل الإسلام يزيد وينقص

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإسلام

- ‌المبحث الأول: هل الإسلام هو الإيمان

- ‌المبحث الثاني: حالات ورود لفظ الإيمان والإسلام في كلام الله ورسوله

- ‌المبحث الثالث: التلازم بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: ثمرة التفريق بين الإسلام والإيمان

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: أصل الإيمان، أو الإيمان المجمل، أو مطلق الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الإيمان الواجب، أو الإيمان المفصل، أو الإيمان المطلق، أو حقيقة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: الإيمان المستحب، أو الإيمان الكامل بالمستحبات

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان

- ‌المبحث الخامس: دخول الأعمال في هذه المراتب الثلاثة

- ‌المبحث السادس: حكم التقصير في كل مرتبة من المراتب الثلاث

- ‌الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن

- ‌المبحث الأول: مرتبة الإسلام

- ‌المبحث الثاني: مرتبة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: مرتبة الإحسان

- ‌تمهيد

- ‌المسألة الأولى: تعريف الصغائر

- ‌المسألة الثانية: الإصرار على الصغائر

- ‌المسألة الأولى: تعريف الكبيرة والفرق بينها وبين الصغيرة

- ‌المسألة الثانية: حكم الإصرار على المعصية

- ‌المبحث الثاني: الفاسق الملي

- ‌المطلب الأول: تعريف الفسق

- ‌المطلب الثاني: المقصود بالفاسق الملي

- ‌المبحث الثالث: حكم أهل الكبائر (الفاسق الملي) عند أهل السنة

- ‌المطلب الأول: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام

- ‌المطلب الثاني: هل القول بعدم تكفير عصاة الموحدين على إطلاقه أم مقيد

- ‌المطلب الثالث: ما ورد من الذنوب تسميته كفرا، أو فيه نفي الإيمان عن صاحبه أو البراءة منه

- ‌المطلب الأول: أحكام الدنيا

- ‌المطلب الثاني: أحكام الآخرة من ثواب وعقاب

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: أدلة أهل السنة على هذا الأصل

- ‌المبحث الثاني: ضوابط أهل السنة في مسألة اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد

- ‌المبحث الثالث: اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد وأثره في مسألة الولاء والبراء

- ‌الفصل الثالث: أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه

- ‌الفصل الأول: هل الإيمان مخلوق

- ‌الفصل الثاني: حكم إيمان المقلدين

- ‌الفصل الثالث: حكم من مات من أطفال المسلمين

- ‌الفصل الرابع: حكم من مات من أطفال المشركين

- ‌الفصل الخامس: حكم أهل الفترة

- ‌تمهيد في تعريف الناقض

- ‌الباب الأول: تعريف الكفر والردة، وضوابط إجراء الأحكام

- ‌المبحث الأول: تعريف الكفر

- ‌المبحث الثاني: أنواع الكفر

- ‌المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر

- ‌المبحث الرابع: قواعد في معرفة أنواع الكفر

- ‌المبحث الخامس: الكفر يكون قولاً باللسان، واعتقاداً بالقلب، وعملاً بالجوارح

- ‌الفصل الثاني: تعريف الردة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الحكم بالظاهر وأدلته

- ‌المبحث الثاني: تكفير المعين والفرق بينه وبين تكفير المطلق

- ‌المطلب الأول: التكفير والتعذيب يكون بعد قيام الحجة

- ‌المطلب الثاني: كيفية قيام الحجة على المعين

- ‌المطلب الثالث: قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص

- ‌المبحث الرابع: عدم التكفير بكل ذنب

- ‌المبحث الخامس: اعتبار المقاصد

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: العذر بالجهل

- ‌المطلب الأول: تعريف الخطأ لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: الفرق بين الخطأ وبين الجهل

- ‌المطلب الثالث: أدلة العذر بالخطأ

- ‌المطلب الأول: تعريف التأويل لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتأويل

- ‌المطلب الثالث: الموقف من أهل التأويل

- ‌المطلب الرابع: التكفير بالمآل أو بلازم المذهب

- ‌المطلب الأول: تعريف الإكراه لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع الإكراه

- ‌المطلب الثالث: شروط الإكراه

- ‌المطلب الرابع: الإكراه على الكفر

- ‌المطلب الأول: تعريف التقليد لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع التقليد

- ‌المطلب الثالث: التقليد في العقيدة وهل يعتبر عذرا

- ‌المبحث السادس: العجز

- ‌المطلب الأول: تعريف التقية

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتقية

- ‌الباب الثاني: نواقض الإيمان في باب التوحيد

- ‌المبحث الأول: ما يناقض قول القلب

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية

- ‌المطلب الثاني: الشرك في الألوهية

- ‌المطلب الثالث: إنكار اسم أو صفة لله تعالى

- ‌المطلب الرابع: الإعراض عن دين الله

- ‌المطلب الخامس: الشك في حكم من أحكام الله أو خبر من أخباره

- ‌المطلب الأول: كفر الإباء والاستكبار

- ‌المطلب الثاني: الشرك الأكبر بعمل القلب

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالاعتقاد

- ‌المطلب الأول: حكم سب الله تعالى أو الاستهزاء به:

- ‌المطلب الثاني: هل من سب الله تقبل توبته وهل يستتاب كالمرتد

- ‌المبحث الثاني: أمثلة لنواقض الإيمان بالقول

- ‌المطلب الأول: الذبح والنذر الركوع والسجود والطواف

- ‌المطلب الثاني: الاستغاثة بغير الله تعالى

- ‌المطلب الثالث: دعاء الموتى

- ‌المبحث الثاني: شرك التشريع والحكم بغير ما أنزل الله

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالفعل

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: رأي من يعتقد هذا الاعتقاد باختصار

- ‌المطلب الثاني: الرد على هذا الادعاء

- ‌المطلب الثالث: حكم من اعتقد هذا الاعتقاد

- ‌المبحث الثاني: ادعاء النبوة

- ‌المبحث الثالث: إنكار الكتب المنزلة أو شيء منها

- ‌المبحث الرابع: بغض أو كراهية بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل

- ‌المبحث السادس: كفر من سوغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السابع: من استهزأ بشيءٍ جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثامن: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الشك في رسالته

- ‌المبحث التاسع: كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض

- ‌المطلب الأول: كفر وقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين

- ‌أولاً: الأدلة من القرآن على كفر ساب الرسول

- ‌ثانياً: الأدلة من السنة على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: من كذب على رسول الله

- ‌المبحث الثالث: سب الأنبياء

- ‌الفصل الثالث: النواقض العملية في باب النبوات (الاستهانة بالمصحف مثالاً)

- ‌الفصل الأول: إنكار الملائكة والجن

- ‌المبحث الأول: إنكار البعث

الفصل: ‌المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر

‌المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر

الشرك والكفر الأكبر المخرج من الملة هو ما ناقض أصل الدين الذي هو توحيد الله والالتزام بالشريعة إجمالاً.

أما الشرك والكفر الأصغر وتخلف الإيمان الواجب فيكون بما دون ذلك، بحيث لا ينقض أصل الدين، ولا يكون أيضاً من اللمم المعفو عنه كما قال تعالى: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31].

فكل ما ثبت بنص أنه شرك، لكن دلت الدلائل على أنه ليس شركاً مخرجاً من الملة فهو شرك أصغر، وكل ما ثبت بنص أنه كفر، لكن دلت الدلائل على أنه ليس كفراً مخرجاً من الملة فهو كفر دون كفر، وكذا ما ورد فيه الوعيد بنحو ليس منا، أو تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو نفى عنه وصف الإيمان، فكل ذلك من الكبائر.

ولهذا عمم الإمام أحمد رحمه الله القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً فقال: (من أتى هذه الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم، ولا أسميه مؤمناً، ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمناً ناقص الإيمان)(1).

يقول الإمام محمد بن نصر المروزي تعليقاً على كلام الإمام أحمد السابق: (صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فما أتى بالإيمان الواجب، ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك)(2).

والكبيرة إما أن تتعلق بالشرك على نحو لا يناقض أصل التوحيد. وإما أن تتعلق بعدم الالتزام بالشريعة، ولكن على نحو لا يتناقض أصل الالتزام بها، سواء كان ذلك من جهة المعصية أو من جهة البدعة. فإن من زنى أو سرق لم يلتزم بأمر الله له باجتناب ذلك، لكنه لم ينقض أصل التزامه بأمر الله بالكلية. وكذلك من علم الحق المخالف لبدعته فأصر عليه تغليباً لشبهته فإنه لا يقال إنه استسلم لله بقبول خبرة استسلاماً تاماً، لكنه مع ذلك لم يرده تكذيباً واستحلالاً، بل لشبهة عرضت له.

فأما الشرك فنحو الرياء، كما ورد بذلك النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بأن يكون أصل العمل لله، لكن دخل عليه الشرك في تزيينه للناس.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق والحلف بغير الله كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) (3) وقول الرجل للرجل (ما شاء الله وشئت) و (هذا من الله ومنك) و (أنا بالله وبك)، و (مالي إلا الله وأنت) و (أنا متوكل على الله وعليك) و (ولولا أنت لم يكن كذا وكذا). وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده) (4).

(1)((مجموع الفتاوى)) (7/ 352 – 353).

(2)

((مجموع الفتاوى)) (7/ 352 – 353).

(3)

رواه أبو داود (3251)، والترمذي (1535) واللفظ له، وأحمد (2/ 125) (6072). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الترمذي: حديث حسن. وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (735) - كما أشار لذلك في مقدمته -. وأحمد شاكر في ((المسند)) (8/ 222). وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

(4)

((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 344).

ص: 254

وأما الكفر الأصغر فبنحو الحكم بغير الشريعة في قضية معينة لأجل الشهوة، وهذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنه لقوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، أما رفض الشريعة بالكلية، وتحكيم القوانين الوضعية، فكفر أكبر ولم يظن ابن عباس رضي الله عنه ولم يخطر على باله أن من يدعي الإسلام يمكن أن يتعمده، ودلالة الآية على الكفر الأكبر – على الصحيح – هو المعنى المقصود بها أصلاً، وقول ابن عباس رضي الله عنه لا يناقض ذلك ولا يمنع أن يكون الحاكم في قضية معينة بغير الشرع لأجل الشهوة كافراً كفراً أصغر.

والشرك الأصغر وإن كان من الكبائر، لكنها على مراتب، وبعضها أكبر من بعض، كما في الحديث: ((ألا أنبؤكم بأكبر الكبائر

الشرك بالله وعقوق الوالدين

الحديث)) (1) وعليه يفهم قول ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً)(2) فمراده: أن الشرك بالحلف بغير الله وإن كان من الكبائر لكنه أكبر من الحلف الكاذب. وعلى هذا يمكن أن يفهم قول الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله عن الشرك الأصغر إنه أكبر من الكبائر (3)، وهو كقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن الشرك الأصغر إن رتبته فوق رتبة الكبائر (4)، ولا يلزم من قولهما إخراج الشرك الأصغر عن مسمى الكبائر، بل كأنه أكبر من جميعها.

ومما يبين ذلك: أن الشرك الأصغر لا يختص عن الكبائر بحكم يثبت له دونها فيما يتعلق بأحكام الوعيد، وأما القول بأن الشرك الأصغر لا يغفره الله، ولا يدخل تحت المشيئة – وإن دخل تحت الموازنة – فلا يصح، ولا دليل على تخصيصه بذلك، لأن المراد بقول الله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] الشرك الأكبر، وهو كقوله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النارُ [المائدة: 72]، وكقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. والذين يقولون بالموازنة كالإمامين ابن حزم وابن القيم رحمهما الله، لا يلتزمون تحديد شيء من الذنوب بأنه لا تغفر ولا تدخل تحت المشيئة، لا الشرك الأصغر ولا غيره من الكبائر، وإنما يعممون القول بأن من رجحت سيئاته بحسناته لابد أن يعذب (5).

(1) رواه البخاري (2654)، ومسلم (87).

(2)

رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (8/ 469)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (3/ 79)، والطبراني (9/ 183). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/ 58): رواته رواة الصحيح. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/ 180): رجاله رجال الصحيح. وقال ابن حجر الهيتمي في ((الزواجر)) (2/ 184): صحيح. وقال الألباني في ((إرواء الغليل)) (2562): صحيح.

(3)

كتاب ((التوحيد))؛ ضمن مجموع مؤلفات الشيخ، القسم الأول (ص: 28).

(4)

انظر: ((إعلام الموقعين)) (4/ 304).

(5)

انظر: ((الفصل لابن حزم)) (4/ 47 - 53)، و ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص/384 - 387).

ص: 255

ثم إن هناك دلالات تفصيلية أن المراد بالنص الشرك أو الكفر الأصغر. من ذلك صريح النص عليه – وهذه أقوى دلالة – ذلك كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء)) (1).

ومن ذلك دلالة نصوص أخرى – وهذا باب واسع – ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) (3) .. مع قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9] فالكفر المراد في الحديث ليس الكفر المخرج من الملة، وإلا لما أثبت الله لمن تقاتلوا وصف الإيمان الذي هو في الآية الإسلام الظاهر.

ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)) (4)، وفي روايةٍ ((إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما)) (5)

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى هذا الحديث: (فقد سماه أخاه حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه)(6).

ومن ذلك أيضاً عدم ترتب حد الردة على فاعله، وإن أقيم عليه حد العصاة، كما في الزاني والسارق مع نفي الإيمان عنهما.

ومن الدلالات على الشرك والكفر الأصغر أن يأتي منكراً غير معرف، فإن جاء معرفاً بأل دل على أن المقصود به الكفر المخرج من الملة، لا مطلق الكفر الذي يصدق على الكفر الأصغر كما يصدق على الكفر الأكبر.

ولهذا فإن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر لمجيء الحديث في حكم تاركها على التعريف، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) (7).

ويؤيد ذلك دلالة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) (8). فإذا كان الحد الذي بين المسلمين والكفار هي الصلاة فإن تركها كفر أكبر.

(1) رواه أحمد (5/ 428)(23680)، والطبراني (4/ 253). من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/ 52): إسناده جيد. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 107): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (ص440): إسناده حسن. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (951): إسناده جيد.

(2)

رواه البخاري (48)، ومسلم (64). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (121)، ومسلم (65). من حديث جرير رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (6103)، ومسلم (60). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

رواه مسلم (60). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(6)

((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (ص7/ 355).

(7)

رواه مسلم (82). بلفظ: (وبين الشرك والكفر) بدلا من (وبين الكفر والشرك).

(8)

رواه الترمذي (2621) وقال: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم (1/ 48): هذا حديث صحيح الإسناد لا تعرف له علة بوجه من الوجوه فقد احتجا جميعا بعبد الله بن بريدة عن أبيه، واحتج مسلم بالحسين بن واقد ولم يخرجاه بهذا اللفظ ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح.

ص: 256

ومن الدلالات أيضاً على الشرك والكفر الأصغر ما فهمه الصحابة من النص، فإنهم أعلم الأمة بمعاني نصوص الكتاب والسنة، ومن ذلك حديث ((الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)) (1) فإن آخر الحديث - على الصحيح - هو من قول ابن مسعود رضي الله عنه وهذا مذكور عن جمع من المحدثين (2) - ومعناه: وما منا إلا ويقع له شيء من التطير. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني– ص 268

قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك، ووجوبهما بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تُثبت على أهلها كفرا ولا شركا يزيلان الإيمان عن صاحبه، إنما وجوبها أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون (3).

والأصل الذي اعتمده أهل السنة في هذا الباب أن (الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وهذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل)(4).

وقال الشيخ ابن عثيمين في شرح حديث ((اثْنَتَانِ فِي الناسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ

)) (5): (قوله: ((كفر)): أي هاتان الخصلتان كفر، ولا يلزم من وجود خصلتين من الكفر في المؤمن أن يكون كافرا، كما لا يلزم من وجود خصلتين في الكافر من خصال الإيمان كالحياء والشجاعة والكرم أن يكون مؤمنا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بخلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَيْنَ الرَّجُلِ والشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ)) (6) فإنه أتى بأل الدالة على الحقيقة، فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة، بخلاف مجيء ((كفر)) نكرة، فلا يدل على الخروج عن الإسلام) (7).

وقال في تعريف الشرك الأصغر: كل عمل قولي أو فعلي أَطلق عليه الشرع وصف الشرك، ولكنه لا يخرج من الملة، مثل الحلف بغير الله (8).

وليُعلم أن

من صور الشرك الأصغر، كالحلف بغير الله، والرياء، والاستسقاء بالأنواء، قد تصير من الشرك الأكبر، في بعض الحالات، قال الشيخ ابن عثيمين: والحلف بغير الله شرك أكبر إذا اعتقد أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في التعظيم والعظمة، وإلا فهو شرك أصغر (9).

تنبيه:

الأصل أن تحمل ألفاظ الكفر والشرك الواردة في الكتاب والسنة- وخاصة المعرف منها بأل- على حقيقتها المطلقة، ومسماها المطلق، وذلك كونها مخرجة من الملة، حتى يجيء ما يمنع ذلك، ويقتضي الحمل على الكفر الأصغر والشرك الأصغر.

(1) رواه أبو داود (3910)، والترمذي (1614)، وابن ماجه (3538)، وأحمد (1/ 389)، والحاكم (1/ 65). والحديث سكت عنه أبو داود. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح سنده، ثقات رواته، ولم يخرجاه. وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/ 108)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.

(2)

راجع أقوالهم في كتاب ((المنهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد)) جاسم الدوسري (ص162).

(3)

((الإيمان)) لأبي عبيد (ص43).

(4)

((الصلاة)) لابن القيم (ص51)، وينظر:((مجموع الفتاوى)) (7/ 353 - 355).

(5)

رواه البخاري (48)، ومسلم (64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(6)

رواه مسلم (82). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

(7)

((القول المفيد شرح كتاب التوحيد)) (2/ 216)، وانظر:((التعليق على صحيح مسلم)) (1/ 291)، وكلام شيخ الإسلام هو في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/ 237).

(8)

((مجموع فتاوى)) ابن عثيمين (2/ 203)، و ((شرح الأصول الثلاثة)) ضمن ((مجموع الفتاوى)) له (7/ 115).

(9)

((القول المفيد)) (2/ 325).

ص: 257

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبدالرحمن بن حسن: (ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4])(1).

ومما يدل على أن ذلك هو الأصل، تبادره إلى الذهن، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه في قصة خسوف الشمس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:((وَأُرِيتُ النارَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ، قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ)) (2). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- 1/ 139

(1)((الرسائل المفيدة)) للشيخ عبد اللطيف جمع الشيخ سليمان بن سحمان (ص21).

(2)

رواه البخاري (1052)، ومسلم (907).

ص: 258