الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: شعب الإيمان
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (1) وقد اعتنى الأئمة بهذا الحديث واعتبروه أصلاً لإدخال الطاعات في الإيمان وعدوها من شعبه وألفوا في ذلك بعض المصنفات، ومن أغزرها (المنهاج في شعب الإيمان) للإمام أبي عبد الله الحليمي واختصره الإمام البيهقي في كتاب (الجامع لشعب الإيمان) مع عنايته بالأسانيد خلافاً للحليمي، واختصر كتاب البيهقي الإمام القزويني وجميعهم عدوا سبعاً وسبعين شعبة من شعب الإيمان مع شرحها
وممن اعتنى بحصر شعب الإيمان الإمام اللالكائي فقد ذكر في كتابه (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) اثنتين وسبعين خصلة من خصال الإيمان وذكر تحت كل خصلة ما يناسبها من الأحاديث (2).
وعد الإمام ابن بطه في الإيمان سبعين شعبة سرداً دون ذكر أدلتها (3).
وقال أبو حاتم بن حبان: تتبعت معنى هذا الحديث مدة وعددت الطاعات فإذا هي تزيد على العدد شيئا كثيراً فرجعت إلى السنن فعددت كل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين فرجعت إلى كتاب الله فقرأته بالتدبر وعددت كل طاعة عدها الله تعالى من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممت الكتاب إلى السنن وأسقطت المعاد فإذا هي كل شيء عده الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم من الإيمان تسع وسبعين شعبة لا يزيد عليها ولا تنقص فعلمت أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنن) (4).
وعدها أيضاً الحافظ ابن حجر فقال: (هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن، فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات وتشتمل على أربع وعشرين خصلة ثم ذكرها وأعمال اللسان وتشتمل على سبع خصال ثم ذكرها وأعمال البدن وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة ثم ذكرها، إلى أن قال: فهذه تسع وستون خصلة ويمكن عدها تسعاً وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر. والله أعلم)(5) وأخيراً ننقل كلاماً للقاضي عياض قال فيه: (وبقي بين هذين الطرفين - أي الشهادتان وإماطة الأذى - أعداد لو تكلف المجتهد تحصيلها بغلبة الظن وشدة التتبع لأمكنه وقد فعل ذلك بعض من تقدم، وفي الحكم بأن ذلك مراد النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها، ولا يقدح جهل ذلك في الإيمان، إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة والإيمان بأنها هذا العدد واجب في الجملة)(6).
الإيمان شعب، والكفر شعب:
قال الإمام الخطابي: وفي هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها، كالصلاة الشرعية، لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها. (7).
(1) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (5/ 911 - 940).
(3)
انظر: ((الإبانة)) لابن بطة (2/ 650 - 653)
(4)
ذكر ذلك في كتاب ((وصف الإيمان وشعبه)) نقلاً عن ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 504).
(5)
((فتح الباري)) (1/ 52 - 53).
(6)
نقلاً عن ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 4).
(7)
((معالم السنن)) بحاشية سنن أبي داود (5/ 56).
ويقول الإمام ابن القيم: الإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصوم، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل .. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب، وكذلك الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر
…
والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. (1) نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبد الله بن علي الوهيبي – 1/ 50
(وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعب يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان، وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية. فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختياراً – وهي شعبة من شعب الكفر – فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل) كتاب الصلاة لابن قيم الجوزية – ص70
إن الإيمان عند جمهور أهل السنة له شعب متعددة، كما أخبر بذلك أعلم الخلق صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإيمان، وكل شعبة منه تسمى إيماناً، فالصلاة وسائر أعمال الجوارح من الإيمان، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والرجاء من الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب (2).
وإذا كان الإيمان مشتملاً على شعب متعددة، ومتفاوتة، فإنه يتضمن بناء على تفاوت شعبه أركاناً، وواجبات، ومستحبات، وكما يقول ابن تيمية: الإيمان: مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة، فالناس فيه ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، كالحج وكالبدن والمسجد وغيرها من الأعيان والصفات، فمن أجزائه ما إذا ذهب، نقص عن الأكمل، ومنه ما نقص عن الكمال (3) وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول (4).
فالإيمان كالحج - مثلاً- في اشتمالهما على أركان، وواجبات، ومستحبات، ففي الحج أركان متى تركت، لم يصح الحج كالوقوف بعرفة، ومشتمل على واجبات من فعل أو ترك، يأثم بتركها أو فعلها عمداً، ويجب مع تركها الجبران بدم، كالإحرام من المواقيت المكانية، ورمي الجمار ونحو ذلك، ومشتمل على مستحبات من فعل وترك يكمل الحج بها، فلا يأثم بتركها، ولا يجب دم، مثل: رفع الصوت بالإهلال والإكثار منه، ودعائه في الطواف وغيرهما (5)، فكذا الإيمان كما سبق ذكره ومن ثم فإن الناس متفاوتون في الإيمان، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات بإذن ربه، ولقد تواترت النصوص الدالة على أن الإيمان يقبل التبعيض والتجزئة.
كقوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان)) (6) خلافاً للمبتدعة القائلين أن الإيمان لا يقبل التبعيض والتجزئة، وأنه شيء واحد. نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف – ص32
(1) كتاب ((الصلاة)) (ص53).
(2)
كتاب ((الصلاة)) لابن القيم (ص53) بتصرف.
(3)
أي الكمال الواجب، فالشارع لا ينفي الإيمان عن شيء، إلا لانتفاء ما هو واجب، لا لانتفاء ما هو مستحب. انظر:((مجموع الفتاوى)) (18/ 268) و ((منهاج السنة)) (5/ 208).
(4)
((مجموع الفتاوى)) (7/ 637)، وانظر:((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/ 806).
(5)
انظر: ((مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (12/ 472، 473، 7/ 514، 19/ 290، 291).
(6)
رواه البخاري (7510)، ومسلم (193). من حديث أنس رضي الله عنه.