المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الرابع: الإكراه على الكفر - الموسوعة العقدية - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: الأدلة من السنة المطهرة

- ‌الفصل الثاني: أقوال أهل السنة في مسمى الإيمان، وما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الأول: أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان وزيادته ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص

- ‌المطلب الثاني: أقوال السلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌المبحث الثاني: ما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الثالث: ما روي عن الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأول: أوجه زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: تعلم العلم النافع

- ‌المطلب الثاني: التأمل في آيات الله الكونية

- ‌المطلب الثالث: الاجتهاد في القيام بالأعمال الصالحة

- ‌المبحث الثالث: أسباب نقصان الإيمان

- ‌المبحث الأول: شعب الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على أن الإيمان مركب من شعب

- ‌الفصل الخامس: الاستثناء في الإيمان

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ (أمؤمن أنت)

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الشهادتان

- ‌المبحث الثاني: الصلاة

- ‌المبحث الثالث: الزكاة

- ‌المبحث الرابع: الصوم

- ‌المبحث الخامس: الحج

- ‌المبحث السادس: حكم تارك الأركان الأربعة

- ‌الفصل الثاني: هل الإسلام يزيد وينقص

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإسلام

- ‌المبحث الأول: هل الإسلام هو الإيمان

- ‌المبحث الثاني: حالات ورود لفظ الإيمان والإسلام في كلام الله ورسوله

- ‌المبحث الثالث: التلازم بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: ثمرة التفريق بين الإسلام والإيمان

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: أصل الإيمان، أو الإيمان المجمل، أو مطلق الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الإيمان الواجب، أو الإيمان المفصل، أو الإيمان المطلق، أو حقيقة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: الإيمان المستحب، أو الإيمان الكامل بالمستحبات

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان

- ‌المبحث الخامس: دخول الأعمال في هذه المراتب الثلاثة

- ‌المبحث السادس: حكم التقصير في كل مرتبة من المراتب الثلاث

- ‌الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن

- ‌المبحث الأول: مرتبة الإسلام

- ‌المبحث الثاني: مرتبة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: مرتبة الإحسان

- ‌تمهيد

- ‌المسألة الأولى: تعريف الصغائر

- ‌المسألة الثانية: الإصرار على الصغائر

- ‌المسألة الأولى: تعريف الكبيرة والفرق بينها وبين الصغيرة

- ‌المسألة الثانية: حكم الإصرار على المعصية

- ‌المبحث الثاني: الفاسق الملي

- ‌المطلب الأول: تعريف الفسق

- ‌المطلب الثاني: المقصود بالفاسق الملي

- ‌المبحث الثالث: حكم أهل الكبائر (الفاسق الملي) عند أهل السنة

- ‌المطلب الأول: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام

- ‌المطلب الثاني: هل القول بعدم تكفير عصاة الموحدين على إطلاقه أم مقيد

- ‌المطلب الثالث: ما ورد من الذنوب تسميته كفرا، أو فيه نفي الإيمان عن صاحبه أو البراءة منه

- ‌المطلب الأول: أحكام الدنيا

- ‌المطلب الثاني: أحكام الآخرة من ثواب وعقاب

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: أدلة أهل السنة على هذا الأصل

- ‌المبحث الثاني: ضوابط أهل السنة في مسألة اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد

- ‌المبحث الثالث: اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد وأثره في مسألة الولاء والبراء

- ‌الفصل الثالث: أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه

- ‌الفصل الأول: هل الإيمان مخلوق

- ‌الفصل الثاني: حكم إيمان المقلدين

- ‌الفصل الثالث: حكم من مات من أطفال المسلمين

- ‌الفصل الرابع: حكم من مات من أطفال المشركين

- ‌الفصل الخامس: حكم أهل الفترة

- ‌تمهيد في تعريف الناقض

- ‌الباب الأول: تعريف الكفر والردة، وضوابط إجراء الأحكام

- ‌المبحث الأول: تعريف الكفر

- ‌المبحث الثاني: أنواع الكفر

- ‌المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر

- ‌المبحث الرابع: قواعد في معرفة أنواع الكفر

- ‌المبحث الخامس: الكفر يكون قولاً باللسان، واعتقاداً بالقلب، وعملاً بالجوارح

- ‌الفصل الثاني: تعريف الردة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الحكم بالظاهر وأدلته

- ‌المبحث الثاني: تكفير المعين والفرق بينه وبين تكفير المطلق

- ‌المطلب الأول: التكفير والتعذيب يكون بعد قيام الحجة

- ‌المطلب الثاني: كيفية قيام الحجة على المعين

- ‌المطلب الثالث: قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص

- ‌المبحث الرابع: عدم التكفير بكل ذنب

- ‌المبحث الخامس: اعتبار المقاصد

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: العذر بالجهل

- ‌المطلب الأول: تعريف الخطأ لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: الفرق بين الخطأ وبين الجهل

- ‌المطلب الثالث: أدلة العذر بالخطأ

- ‌المطلب الأول: تعريف التأويل لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتأويل

- ‌المطلب الثالث: الموقف من أهل التأويل

- ‌المطلب الرابع: التكفير بالمآل أو بلازم المذهب

- ‌المطلب الأول: تعريف الإكراه لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع الإكراه

- ‌المطلب الثالث: شروط الإكراه

- ‌المطلب الرابع: الإكراه على الكفر

- ‌المطلب الأول: تعريف التقليد لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع التقليد

- ‌المطلب الثالث: التقليد في العقيدة وهل يعتبر عذرا

- ‌المبحث السادس: العجز

- ‌المطلب الأول: تعريف التقية

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتقية

- ‌الباب الثاني: نواقض الإيمان في باب التوحيد

- ‌المبحث الأول: ما يناقض قول القلب

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية

- ‌المطلب الثاني: الشرك في الألوهية

- ‌المطلب الثالث: إنكار اسم أو صفة لله تعالى

- ‌المطلب الرابع: الإعراض عن دين الله

- ‌المطلب الخامس: الشك في حكم من أحكام الله أو خبر من أخباره

- ‌المطلب الأول: كفر الإباء والاستكبار

- ‌المطلب الثاني: الشرك الأكبر بعمل القلب

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالاعتقاد

- ‌المطلب الأول: حكم سب الله تعالى أو الاستهزاء به:

- ‌المطلب الثاني: هل من سب الله تقبل توبته وهل يستتاب كالمرتد

- ‌المبحث الثاني: أمثلة لنواقض الإيمان بالقول

- ‌المطلب الأول: الذبح والنذر الركوع والسجود والطواف

- ‌المطلب الثاني: الاستغاثة بغير الله تعالى

- ‌المطلب الثالث: دعاء الموتى

- ‌المبحث الثاني: شرك التشريع والحكم بغير ما أنزل الله

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالفعل

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: رأي من يعتقد هذا الاعتقاد باختصار

- ‌المطلب الثاني: الرد على هذا الادعاء

- ‌المطلب الثالث: حكم من اعتقد هذا الاعتقاد

- ‌المبحث الثاني: ادعاء النبوة

- ‌المبحث الثالث: إنكار الكتب المنزلة أو شيء منها

- ‌المبحث الرابع: بغض أو كراهية بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل

- ‌المبحث السادس: كفر من سوغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السابع: من استهزأ بشيءٍ جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثامن: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الشك في رسالته

- ‌المبحث التاسع: كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض

- ‌المطلب الأول: كفر وقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين

- ‌أولاً: الأدلة من القرآن على كفر ساب الرسول

- ‌ثانياً: الأدلة من السنة على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: من كذب على رسول الله

- ‌المبحث الثالث: سب الأنبياء

- ‌الفصل الثالث: النواقض العملية في باب النبوات (الاستهانة بالمصحف مثالاً)

- ‌الفصل الأول: إنكار الملائكة والجن

- ‌المبحث الأول: إنكار البعث

الفصل: ‌المطلب الرابع: الإكراه على الكفر

‌المطلب الرابع: الإكراه على الكفر

الأصل في ذلك قوله سبحانه: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].

والمشهور في سبب نزولها ما رواه أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: ((أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك، قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد)) (1)، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله:(واتفقوا على أنه (أي عمار) نزل فيه إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ [النحل:106]. (2). قال أبو بكر الجصاص عن هذه الآية: (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه)(3)، بل إن هذا أصل العذر بالإكراه في الأصول والفروع، قال ابن العربي:(لما سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به)(4).

قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]: (فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً، لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله)(5)، وقال الإمام ابن الجوزي – رحمه الله: إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]. أي: ساكن إليه راض به، وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106]. قال قتادة: (من أتاه بإيثار واختيار)، وقال ابن قتيبة:(من فتح له صدره بالقبول)، وقال أبو عبيدة:(المعنى: من تابعته نفسه، وانبسط إلى ذلك، يقال: ما ينشرح صدري بذلك، أي: ما يطيب)(6)، وقال الإمام الشوكاني: وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106](أي: اعتقد وطابت به نفسه، واطمأن إليه)(7)، إذاً لابد من طمأنينة القلب بالإيمان، وبغض وكراهية الكفر، وهذا شرط مجمع عليه (8).

(1) رواه الحاكم (2/ 357) والبيهقي (8/ 208، 209). قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 295): إسناده صحيح وزاد بعضهم وفي هذا أنزلت: من كفر بالله من بعد إيمانه .. الآية. وقال ابن حجر في ((الدراية)) (2/ 197): إسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه. وقال الألباني في ((فقه السيرة)) (103): في ثبوت هذا السياق نظر وعلته الإرسال.

(2)

((الإصابة)) (2/ 512)، وانظر بعض الآثار المصرحة بذلك في ((تفسير الطبري)) (24/ 122)، و ((طبقات ابن سعد)) (3/ 249)، و ((الدر المنثور)) (5/ 170).

(3)

((أحكام القرآن)) (3/ 192).

(4)

((أحكام القرآن)) (3/ 1180).

(5)

((تفسير ابن كثير)) (2/ 587).

(6)

((زاد المسير)) (4/ 496).

(7)

((فتح القدير)) (3/ 196).

(8)

اشترط بعض الفقهاء للنطق بكلمة الكفر، أن يكون الإكراه تاماً (ملجئا)، واشترط آخرون التعريض والتورية بالكفر حال الإكراه، ولم يسندوا كلامهم بأدلة معتبرة، انظر بعض هذه الأقوال في بدائع الصنائع (7/ 177)((حاشية ابن عابدين)) (6/ 134)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/ 1178)، و ((أحكام الجصاص)) (3/ 192، 194)، و ((الإكراه وأثره في التصرفات))، د. عيسى شقره (ص: 115 – 118)، و ((الإكراه وأثره في الأحكام)) د. عبد الفتاح الشيخ (ص: 63 – 66).

ص: 343

قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر: (أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته)(1).

وقال ابن العربي – رحمه الله: (وأما الكفر بالله، فذلك جائز له (أي المكرَه) بغير خلاف على شرط أن يلفظ وقلبه منشرح بالإيمان، فإن ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثماً كافراً، لأن الإكراه لا سلطان له في الباطن، وإنما سلطانه على الظاهر) (2).

لكن ينبغي أن نعلم، أنه وإن جاز قول الكفر أو فعله بسبب الإكراه – إلا أن الصبر أفضل وأعظم أجراً، قال ابن بطال – رحمه الله:(أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل، أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة)(3)، ويقول الإمام ابن العربي – رحمه الله:(إن الكفر وإن كان بالإكراه جائزاً عند العلماء فإن من صبر على البلاء ولم يفتتن حتى قتل فإنه شهيد، ولا خلاف في ذلك، وعليه تدل آثار الشريعة التي يطول سردها)(4).

وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله: (والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله)(5).

واستدلوا لذلك بأحاديث كثيرة من أشهرها حديث خباب بن الأرت – رضي الله عنه – وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)) (6).

قال الإمام القرطبي – رحمه الله: (فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر، وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة)(7).

ويتأكد الصبر في حق من يفتدي به العوام ويتبعونه في تصرفاته وأقواله، فلو تلفظ – مثل هذا – بالكفر رخصة – مع احتمال أن الكثير من العوام لا يعرفون حقيقة الأمر، وهو أن ما أظهره خلاف ما يبطنه، فيؤدي هذا التصرف إلى فتنتهم، بل قد يصل الأمر إلى التحريم في حقه بسبب ما يسببه من فساد (8)، وفي هذا المعنى قول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل – رحمه الله – حين سئل عن العالم وهل يأخذ بالتقية قال:(إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟)(9). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– ص 2/ 5

كما أجمعوا على أن من أكره على الكفر، فاختار القتل؛ أعظم أجراً عند الله تعالى ممن اختار الرخصة؛ وذلك لأن الصبر والأخذ بالعزيمة له منزلة رفيعة عند الله تعالى، وأولى من الأخذ بالرخص، ولو كانت مباحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر؛ فأمره ونهاه فقتله)) (10).

(1)((فتح الباري)) (12/ 314)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (10/ 182).

(2)

((أحكام القرآن)) (3/ 1178).

(3)

((فتح الباري)) (12/ 317)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (10/ 188).

(4)

((أحكام القرآن)) (3/ 1179).

(5)

((تفسير ابن كثير)) (2/ 588)، وانظر ((المغني)) (8/ 146)، و ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/ 192).

(6)

رواه البخاري (6943).

(7)

((تفسير القرطبي)) (10/ 188).

(8)

انظر ((عوارض الأهلية عند الأصوليين)) (ص: 495).

(9)

((البحر المحيط)) لأبي حيان (2/ 424).

(10)

رواه الحاكم (3/ 215). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)): صحيح.

ص: 344

أما من نطق بالكفر، وقال: قصدت المزاح؛ فهو كافر ظاهراً وباطناً، إذ حكم الكفر يلزم الجاد، والهازل، والمازح على السواء، وفي الآخرة أمرهم إلى الله تعالى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

(فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر؛ فإنه يكفر بذلك ظاهراً وباطناً، ولا يجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام)(1). الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص265

هل للإكراه حد يستوي فيه جميع أفراد المعينين؟

والجواب:

أنه ليس للإكراه حد منضبط يحكم به على جميع المعينين، بل يختلف الحكم فيه باختلاف النظر في ثلاثة أمور هي:

1 -

حال المكره، فإن الناس يختلفون في قدراتهم ومكانتهم وتحملهم للإكراه.

2 -

حال من وقع منه الإكراه، فإن الأمر في ذلك أيضاً مختلف.

3 -

الأمر الذي وقع عليه الإكراه. وهذا ظاهر أيضاً، فليس الإكراه على الكفر كالإكراه على المعصية، وليس الإكراه على مجرد القول كالإكراه على القول والفعل أو مجرد الفعل وهكذا.

فأما اختلاف الناس في قدراتهم فظاهر، فقد يكون إكراها في حق إنسان ما ليس بإكراه في حق غيره، لاختلافهما في تحمل الإكراه، حتى قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:(ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به)(2).

ثم إن إكراه العالم مثلاً ليس كإكراه غيره، فإنه قد يضل بعض الناس بتقية العالم وأخذه بالرخصة.

ولهذا شدد الإمام أحمد رحمه الله في هذا الأمر حين سئل عن العالم وهل له أن يأخذ بالتقية في فتواه فقال: (إذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟)(3).

وصدق الإمام أحمد رحمه الله، فإنه ما وقع اللبس والغبش في الأمة إلا بمداهنة العلماء وتجرؤ الجهال بالإفتاء بلا علم. وقد جعل رحمه الله من نفسه مثلاً في ذلك، فلم يداهن ولم يلن حين فتن على القول بخلق القرآن لما علم من افتتان الناس وانطماس وجه الحق لو فعل ذلك.

وأما اختلاف الإكراه باختلاف حال من يقع منه فظاهر وفرق بين من يعلم أنه عازم على إنفاذ وعيده وبين المهدد الذي يحتمل منه ذلك فقط وفرق أيضاً بين من كان له سلطة في تحقيق ما توعد به وبين من كان دون ذلك.

وأما اختلاف الإكراه باختلاف الأمر المكره عليه فأمر التفاوت فيه واسع، فما كان إكراها في أمر قد لا يكون إكراها في أمر آخر.

يقول الإمام النووي في بيان هذا التفاوت: (لا يشترط سقوط الاختيار، بل إذا أكرهه على فعل يؤثر العاقل الإقدام عليه حذراً مما تهدده به حصل الإكراه. فعلى هذا ينظر فيما يطلبه منه، وما هددوه به، فقد يكون الشيء إكراهاً في مطلوب دون مطلوب وفي شخص دون شخص)(4).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نفس المسألة: (تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره. فليس المعتبر في كلمات الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها. فإن الإمام أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب أو قيد ولا يكون الكلام إكراها، وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها بمسكنه فلها أن ترجع، على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء عشرتها فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراها.

(1)((الصارم المسلول)) (ص: 532).

(2)

((المحلى)) لابن حزم (8/ 336).

(3)

((البحر المحيط)) لأبي حيان (2/ 424).

(4)

((روضة الطالبين)) للإمام النووي (8/ 60).

ص: 345

ومثل هذا لا يكون إكراها على الكفر، فإن الأسير إذا خشي الكفار أن لا يزوجوه أو أن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر (1).

وقد يعظم الأمر وينحسر الإعذار بالتقية حتى لا يعذر بها كما في حال المكره على الكفر مع الدوام على ذلك لا في حالة عارضة. ولهذا لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه أله أن يرتد؟ فكرهه كراهة شديدة، وقال: ما يشبه هذا عندي الذي أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاؤوا، وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم) (2).

وبعد كل هذا:

فإنه إذا كان الرضى بالكفر الظاهر هو مناط التكفير على الحقيقة، ولم يمكن الحكم عليه ومعرفته إلا من حيث دلالة الظاهر عليه، وكان الإكراه مانعاً من الحكم بتكفير المعين، ولم يكن الإكراه محدوداً بحد منضبط يستوي فيه جميع أفراد المكلفين، فلم يبق إذن إلا اعتبار الإكراه ما أمكن أن يكون عذراً في درء الحكم بوصف الكفر للمعين، حتى إذا لم يمكن بحال أن يكون المعين مكرهاً ولو ادعاه كان كافراً.

ومعلوم أن مجرد احتمال عدم الإكراه أمر نسبي يختلف من معين إلى آخر، وأنه لابد للتحقق منه من تبين حال كل معين على التفصيل، قبل الحكم عليه بأن ما ادعاه إكراهاً، محتمل أو غير محتمل.

وهنا قد يحصل الخلاف في حكم معين، وهل هو معذور أم غير معذور، للاختلاف في أن ما اعتذر به من الإكراه محتمل أو غير محتمل

وهذا خلاف في تحقيق مناط الحكم. لكن الذي لا يصح الخلاف فيه هو مناط الحكم لا تحقيق مناطه. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني- ص: 378

(1)((مجموعة التوحيد)) (ص: 297).

(2)

((المغني)) لابن قدامة (8/ 147).

ص: 346