الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: الإكراه على الكفر
الأصل في ذلك قوله سبحانه: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].
والمشهور في سبب نزولها ما رواه أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: ((أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك، قال: مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد)) (1)، قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله:(واتفقوا على أنه (أي عمار) نزل فيه إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ [النحل:106]. (2). قال أبو بكر الجصاص عن هذه الآية: (هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه)(3)، بل إن هذا أصل العذر بالإكراه في الأصول والفروع، قال ابن العربي:(لما سمح الله تعالى في الكفر به، وهو أصل الشريعة، عند الإكراه، ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به)(4).
قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]: (فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرهاً، لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله)(5)، وقال الإمام ابن الجوزي – رحمه الله: إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]. أي: ساكن إليه راض به، وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106]. قال قتادة: (من أتاه بإيثار واختيار)، وقال ابن قتيبة:(من فتح له صدره بالقبول)، وقال أبو عبيدة:(المعنى: من تابعته نفسه، وانبسط إلى ذلك، يقال: ما ينشرح صدري بذلك، أي: ما يطيب)(6)، وقال الإمام الشوكاني: وَلَكِن من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106](أي: اعتقد وطابت به نفسه، واطمأن إليه)(7)، إذاً لابد من طمأنينة القلب بالإيمان، وبغض وكراهية الكفر، وهذا شرط مجمع عليه (8).
(1) رواه الحاكم (2/ 357) والبيهقي (8/ 208، 209). قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/ 295): إسناده صحيح وزاد بعضهم وفي هذا أنزلت: من كفر بالله من بعد إيمانه .. الآية. وقال ابن حجر في ((الدراية)) (2/ 197): إسناده صحيح إن كان محمد بن عمار سمعه من أبيه. وقال الألباني في ((فقه السيرة)) (103): في ثبوت هذا السياق نظر وعلته الإرسال.
(2)
((الإصابة)) (2/ 512)، وانظر بعض الآثار المصرحة بذلك في ((تفسير الطبري)) (24/ 122)، و ((طبقات ابن سعد)) (3/ 249)، و ((الدر المنثور)) (5/ 170).
(3)
((أحكام القرآن)) (3/ 192).
(4)
((أحكام القرآن)) (3/ 1180).
(5)
((تفسير ابن كثير)) (2/ 587).
(6)
((زاد المسير)) (4/ 496).
(7)
((فتح القدير)) (3/ 196).
(8)
اشترط بعض الفقهاء للنطق بكلمة الكفر، أن يكون الإكراه تاماً (ملجئا)، واشترط آخرون التعريض والتورية بالكفر حال الإكراه، ولم يسندوا كلامهم بأدلة معتبرة، انظر بعض هذه الأقوال في بدائع الصنائع (7/ 177)((حاشية ابن عابدين)) (6/ 134)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/ 1178)، و ((أحكام الجصاص)) (3/ 192، 194)، و ((الإكراه وأثره في التصرفات))، د. عيسى شقره (ص: 115 – 118)، و ((الإكراه وأثره في الأحكام)) د. عبد الفتاح الشيخ (ص: 63 – 66).
قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر: (أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته)(1).
وقال ابن العربي – رحمه الله: (وأما الكفر بالله، فذلك جائز له (أي المكرَه) بغير خلاف على شرط أن يلفظ وقلبه منشرح بالإيمان، فإن ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثماً كافراً، لأن الإكراه لا سلطان له في الباطن، وإنما سلطانه على الظاهر) (2).
لكن ينبغي أن نعلم، أنه وإن جاز قول الكفر أو فعله بسبب الإكراه – إلا أن الصبر أفضل وأعظم أجراً، قال ابن بطال – رحمه الله:(أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل، أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة)(3)، ويقول الإمام ابن العربي – رحمه الله:(إن الكفر وإن كان بالإكراه جائزاً عند العلماء فإن من صبر على البلاء ولم يفتتن حتى قتل فإنه شهيد، ولا خلاف في ذلك، وعليه تدل آثار الشريعة التي يطول سردها)(4).
وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله: (والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله)(5).
واستدلوا لذلك بأحاديث كثيرة من أشهرها حديث خباب بن الأرت – رضي الله عنه – وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)) (6).
قال الإمام القرطبي – رحمه الله: (فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر، وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة)(7).
ويتأكد الصبر في حق من يفتدي به العوام ويتبعونه في تصرفاته وأقواله، فلو تلفظ – مثل هذا – بالكفر رخصة – مع احتمال أن الكثير من العوام لا يعرفون حقيقة الأمر، وهو أن ما أظهره خلاف ما يبطنه، فيؤدي هذا التصرف إلى فتنتهم، بل قد يصل الأمر إلى التحريم في حقه بسبب ما يسببه من فساد (8)، وفي هذا المعنى قول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل – رحمه الله – حين سئل عن العالم وهل يأخذ بالتقية قال:(إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟)(9). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– ص 2/ 5
…
كما أجمعوا على أن من أكره على الكفر، فاختار القتل؛ أعظم أجراً عند الله تعالى ممن اختار الرخصة؛ وذلك لأن الصبر والأخذ بالعزيمة له منزلة رفيعة عند الله تعالى، وأولى من الأخذ بالرخص، ولو كانت مباحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر؛ فأمره ونهاه فقتله)) (10).
(1)((فتح الباري)) (12/ 314)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (10/ 182).
(2)
((أحكام القرآن)) (3/ 1178).
(3)
((فتح الباري)) (12/ 317)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (10/ 188).
(4)
((أحكام القرآن)) (3/ 1179).
(5)
((تفسير ابن كثير)) (2/ 588)، وانظر ((المغني)) (8/ 146)، و ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/ 192).
(6)
رواه البخاري (6943).
(7)
((تفسير القرطبي)) (10/ 188).
(8)
انظر ((عوارض الأهلية عند الأصوليين)) (ص: 495).
(9)
((البحر المحيط)) لأبي حيان (2/ 424).
(10)
رواه الحاكم (3/ 215). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)): صحيح.
أما من نطق بالكفر، وقال: قصدت المزاح؛ فهو كافر ظاهراً وباطناً، إذ حكم الكفر يلزم الجاد، والهازل، والمازح على السواء، وفي الآخرة أمرهم إلى الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة كفر؛ فإنه يكفر بذلك ظاهراً وباطناً، ولا يجوز أن يقال: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام)(1). الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص265
هل للإكراه حد يستوي فيه جميع أفراد المعينين؟
والجواب:
أنه ليس للإكراه حد منضبط يحكم به على جميع المعينين، بل يختلف الحكم فيه باختلاف النظر في ثلاثة أمور هي:
1 -
حال المكره، فإن الناس يختلفون في قدراتهم ومكانتهم وتحملهم للإكراه.
2 -
حال من وقع منه الإكراه، فإن الأمر في ذلك أيضاً مختلف.
3 -
الأمر الذي وقع عليه الإكراه. وهذا ظاهر أيضاً، فليس الإكراه على الكفر كالإكراه على المعصية، وليس الإكراه على مجرد القول كالإكراه على القول والفعل أو مجرد الفعل وهكذا.
فأما اختلاف الناس في قدراتهم فظاهر، فقد يكون إكراها في حق إنسان ما ليس بإكراه في حق غيره، لاختلافهما في تحمل الإكراه، حتى قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:(ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاما يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به)(2).
ثم إن إكراه العالم مثلاً ليس كإكراه غيره، فإنه قد يضل بعض الناس بتقية العالم وأخذه بالرخصة.
ولهذا شدد الإمام أحمد رحمه الله في هذا الأمر حين سئل عن العالم وهل له أن يأخذ بالتقية في فتواه فقال: (إذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟)(3).
وصدق الإمام أحمد رحمه الله، فإنه ما وقع اللبس والغبش في الأمة إلا بمداهنة العلماء وتجرؤ الجهال بالإفتاء بلا علم. وقد جعل رحمه الله من نفسه مثلاً في ذلك، فلم يداهن ولم يلن حين فتن على القول بخلق القرآن لما علم من افتتان الناس وانطماس وجه الحق لو فعل ذلك.
وأما اختلاف الإكراه باختلاف حال من يقع منه فظاهر وفرق بين من يعلم أنه عازم على إنفاذ وعيده وبين المهدد الذي يحتمل منه ذلك فقط وفرق أيضاً بين من كان له سلطة في تحقيق ما توعد به وبين من كان دون ذلك.
وأما اختلاف الإكراه باختلاف الأمر المكره عليه فأمر التفاوت فيه واسع، فما كان إكراها في أمر قد لا يكون إكراها في أمر آخر.
يقول الإمام النووي في بيان هذا التفاوت: (لا يشترط سقوط الاختيار، بل إذا أكرهه على فعل يؤثر العاقل الإقدام عليه حذراً مما تهدده به حصل الإكراه. فعلى هذا ينظر فيما يطلبه منه، وما هددوه به، فقد يكون الشيء إكراهاً في مطلوب دون مطلوب وفي شخص دون شخص)(4).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نفس المسألة: (تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره. فليس المعتبر في كلمات الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها. فإن الإمام أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب أو قيد ولا يكون الكلام إكراها، وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها بمسكنه فلها أن ترجع، على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء عشرتها فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراها.
(1)((الصارم المسلول)) (ص: 532).
(2)
((المحلى)) لابن حزم (8/ 336).
(3)
((البحر المحيط)) لأبي حيان (2/ 424).
(4)
((روضة الطالبين)) للإمام النووي (8/ 60).
ومثل هذا لا يكون إكراها على الكفر، فإن الأسير إذا خشي الكفار أن لا يزوجوه أو أن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر (1).
وقد يعظم الأمر وينحسر الإعذار بالتقية حتى لا يعذر بها كما في حال المكره على الكفر مع الدوام على ذلك لا في حالة عارضة. ولهذا لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه أله أن يرتد؟ فكرهه كراهة شديدة، وقال: ما يشبه هذا عندي الذي أنزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاؤوا، وهؤلاء يريدونهم على الإقامة على الكفر وترك دينهم) (2).
وبعد كل هذا:
فإنه إذا كان الرضى بالكفر الظاهر هو مناط التكفير على الحقيقة، ولم يمكن الحكم عليه ومعرفته إلا من حيث دلالة الظاهر عليه، وكان الإكراه مانعاً من الحكم بتكفير المعين، ولم يكن الإكراه محدوداً بحد منضبط يستوي فيه جميع أفراد المكلفين، فلم يبق إذن إلا اعتبار الإكراه ما أمكن أن يكون عذراً في درء الحكم بوصف الكفر للمعين، حتى إذا لم يمكن بحال أن يكون المعين مكرهاً ولو ادعاه كان كافراً.
ومعلوم أن مجرد احتمال عدم الإكراه أمر نسبي يختلف من معين إلى آخر، وأنه لابد للتحقق منه من تبين حال كل معين على التفصيل، قبل الحكم عليه بأن ما ادعاه إكراهاً، محتمل أو غير محتمل.
وهنا قد يحصل الخلاف في حكم معين، وهل هو معذور أم غير معذور، للاختلاف في أن ما اعتذر به من الإكراه محتمل أو غير محتمل
وهذا خلاف في تحقيق مناط الحكم. لكن الذي لا يصح الخلاف فيه هو مناط الحكم لا تحقيق مناطه. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني- ص: 378
(1)((مجموعة التوحيد)) (ص: 297).
(2)
((المغني)) لابن قدامة (8/ 147).