الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الرد على هذا الادعاء
الرد على هذه الفكرة بشكل مجمل:
1 -
التكاليف الشرعية مشروطة بالعلم والقدرة، فمتى ما تحققت وجب العمل، ولذلك يسقط التكليف عمن لا يمكنه العلم كالطفل والمجنون، كما يسقط عمن يعجز، كسقوط الجهاد عن الأمي والأعرج والمريض، وكما لا تجب الطهارة بالماء، والصلاة قائماً، والصوم على من يعجز عنه (1)
…
الخ، أما غير هؤلاء فلا يسقط عنهم شيء من التكاليف باتفاق المسلمين.
2 -
أعظم الناس درجة ومنزلة ومعرفة لله عز وجل هم الأنبياء والمرسلون ومع ذلك لم يستغنوا عن الشريعة، بل كانوا أشد الناس عبادة وإقامة للشعائر، واجتناباً للفواحش والمنكرات.
3 -
معلوم إجماع العلماء على كفر من استحلّ محرماً من المحرمات الظاهرة المتواترة، وكفرِ جاحدٍ أو منكرٍ واجباً من الواجبات الظاهرة والمتواترة، فكيف بمن يستحل جميع المحرمات، وجحد جميع الواجبات؟
4 -
من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى عليهم السلام، فإذا لم يجز الخروج من شريعته إلى شريعة رسول، فكيف بالخروج عن شريعته، وعن الرسل جميعاً؟ (2).
5 -
حقيقة الولاية تُنال بتقوى الله عز وجل والتزام الأوامر والنواهي: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62 - 63]، وكلما ازداد المرء عبوديةً وعلماً ازدادت واجباته وصار مطالباً بأمور وزيادات لا يطالب بها من لم يصل إلى ذلك، لا أنه يخلع عن عنقه ربقة التكليف.
6 -
أما استدلالهم بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، فهي عليهم لا لهم، قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلاً دون الموت، وقرأ قوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين، وذلك مثل قوله: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلى قوله: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:42 - 47] فهذا قالوه وهم في جهنم، وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين حتى أتاهم اليقين، ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]، وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون، وهو اليقين
…
(3). ويقول الإمام ابن كثير: ويستدل بها (أي هذه الآية) على تخطئة من ذهب من الملاحدة، إلى أن المراد باليقين المعرفة فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادةً ومواظبةً على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين ههنا الموت كما قدمنا (4).
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/ 244).
(2)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 422).
(3)
((مجموع الفتاوى)) (11/ 418، 419)، وانظر:(11/ 539، 540).
(4)
((تفسير ابن كثير)) (2/ 560).
7 -
وأخيراً نأتي إلى أشهر استدلالاتهم، وهو احتجاجهم بقصة الخضر مع موسى التي وردت في القرآن الكريم في سورة الكهف ووردت في (صحيح البخاري) وغيره، فقد جعلوا هذه القصة دليلاً على أن هناك ظاهراً شرعياً، وحقيقة صوفية تخالف الظاهر، وجعلوا إنكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة أمراً مستغرباً، وجعلوا الخضر مصدراً للوحي والإلهام، ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها إلى الخضر، وليس منهم صغير أو كبير ممن دخل في طريقهم إلا وادعى لقيا الخضر والأخذ عنه، كما زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله، بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل البعثة وبعدها (1)
…
إلخ، هذه الخيالات والخزعبلات، كل هذه الأشياء لا تعنينا هنا، فهي تحتاج إلى دراسات موسعة، وقد ألف في شأن الخضر عدة كتب (2)، وإنما الذي يهمنا في هذا المبحث دعوى: أن بعض الأولياء يسوغ له الخروج عن الشريعة، لأن الخضر وهو من أعظم الأولياء خرج عن شريعة موسى.
يجيب على هذه الدعوى الإمام ابن تيمية- رحمه الله في عدة مواضع من كتبه (3)، - وستأتي إجابته في المطلب الثالث - قال ابن عباس رضي الله عنه: حدثني أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موسى رسول الله عليه السلام قال: ذكر الناس يوماً، حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولَّى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحداً أعلم منك؟ قال: لا فعتب عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى. قال: أي رب فأين؟ قال: بمجمع البحرين
…
إلى أن لقي الخضر، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: بأرض من سلام؟ (4) من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً
…
يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه
…
)) (5) ثم ذكر باقي القصة المذكورة في القرآن.
والآن نأتي إلى ردّ الإمام ابن تيمية على هذه الشبهة، قال رحمه الله تعالى: الأول: موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس (6)، ولو أدركه من هو أفضل من الخضر: كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه، فكيف بالخضر سواء كان نبياً أو ولياً؟ ولهذا قال الخضر لموسى: أنا على علمٍ من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا.
(1) انظر: ((الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة)) د. عبدالرحمن عبد الخالق (ص: 125).
(2)
رصد بعض الباحثين أكثر من عشرين كتاباً، أُلِّفت عن الخضر، من أشهرها:((الحذر في أمر الخضر)) لملا علي القاري، و ((الروض النضر في الكلام عن الخضر)) لمرعي المقدسي، و ((الزهر النضر في نبأ الخضر)) لابن حجر العسقلاني، و ((عجالة المنتظر في شرح حال الخضر)) لابن الجوزي. انظر: مقدمة كتاب ((الحذر في أمر الخضر)) لملا القاري، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف (ص: 45 - 49).
(3)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/ 234، 3/ 422، 4/ 318،10/ 334، 344، 11/ 402 - 426، 539، 607).
(4)
بأرض من سلام، استفهام جاء في بعض الروايات، هل بأرض من سلام؟ قال في الفتح: وهو استفهام استبعاد يدل على أن أهل تلك الأرض لم يكونوا إذ ذاك مسلمين، ((فتح الباري)) (8/ 270).
(5)
رواه البخاري (4726).
(6)
انظر: ((الحذر في أمر الخضر)) لملا قاري (ص: 144).
الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفاً لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإنَّ خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفاً من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيراً، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتلٍ جاز قتله، قال ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان، قال له: إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم (1). وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض، والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفاً شرع الله (2).
الثالث: يمكن أن يقال: إن ما فعله الخضر كان عن وحي من الله تعالى وليس مجرد خيال، وهذا لا يمكن أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس، إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، ومن ادَّعى حصوله فقد كفر (3). نواقض الإيمان الاعتقادية لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي - بتصرف - 2/ 78
(1) رواه أحمد (1/ 224)(1967)، ومحمد بن نصر المروزي في ((السنة)) (153)، عن عطاء بن يسار قال:((كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان؟ وعن الخمس لمن هو؟ وعن الصبي متى ينقطع عنه اليتم؟ وعن النساء هل كان يخرج بهن أو يحضرن القتال؟ وعن العبد هل له في المغنم نصيب؟ قال: فكتب إليه ابن عباس: أما الصبيان؛ فإن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم)). قال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): صحيح.
(2)
((مجموع الفتاوى)) (11/ 263، 264)، ومثله:(11/ 425، 426)، (12/ 234)، (13/ 266).
(3)
انظر: ((الفكر الصوفي)) (ص: 132).