المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن - الموسوعة العقدية - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: الأدلة من السنة المطهرة

- ‌الفصل الثاني: أقوال أهل السنة في مسمى الإيمان، وما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الأول: أقوال أئمة أهل السنة والجماعة في مسمى الإيمان وزيادته ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: نقل الإجماع على أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص

- ‌المطلب الثاني: أقوال السلف في أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص

- ‌المبحث الثاني: ما يدخل في مسمى الإيمان من الأوامر والنواهي

- ‌المبحث الثالث: ما روي عن الإمام مالك في زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌المبحث الأول: أوجه زيادة الإيمان ونقصانه

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: تعلم العلم النافع

- ‌المطلب الثاني: التأمل في آيات الله الكونية

- ‌المطلب الثالث: الاجتهاد في القيام بالأعمال الصالحة

- ‌المبحث الثالث: أسباب نقصان الإيمان

- ‌المبحث الأول: شعب الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على أن الإيمان مركب من شعب

- ‌الفصل الخامس: الاستثناء في الإيمان

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: بيان قول أهل السنة في الاستثناء ومأخذهم فيه وأدلتهم عليه

- ‌المبحث الثاني: نقل أقوال السلف في الاستثناء مع التوفيق بينها

- ‌المبحث الثالث: ما ورد عنهم من تبديع السؤال بـ (أمؤمن أنت)

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الشهادتان

- ‌المبحث الثاني: الصلاة

- ‌المبحث الثالث: الزكاة

- ‌المبحث الرابع: الصوم

- ‌المبحث الخامس: الحج

- ‌المبحث السادس: حكم تارك الأركان الأربعة

- ‌الفصل الثاني: هل الإسلام يزيد وينقص

- ‌الفصل الثالث: الاستثناء في الإسلام

- ‌المبحث الأول: هل الإسلام هو الإيمان

- ‌المبحث الثاني: حالات ورود لفظ الإيمان والإسلام في كلام الله ورسوله

- ‌المبحث الثالث: التلازم بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الرابع: ثمرة التفريق بين الإسلام والإيمان

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: أصل الإيمان، أو الإيمان المجمل، أو مطلق الإيمان

- ‌المبحث الثاني: الإيمان الواجب، أو الإيمان المفصل، أو الإيمان المطلق، أو حقيقة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: الإيمان المستحب، أو الإيمان الكامل بالمستحبات

- ‌المبحث الرابع: الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان

- ‌المبحث الخامس: دخول الأعمال في هذه المراتب الثلاثة

- ‌المبحث السادس: حكم التقصير في كل مرتبة من المراتب الثلاث

- ‌الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن

- ‌المبحث الأول: مرتبة الإسلام

- ‌المبحث الثاني: مرتبة الإيمان

- ‌المبحث الثالث: مرتبة الإحسان

- ‌تمهيد

- ‌المسألة الأولى: تعريف الصغائر

- ‌المسألة الثانية: الإصرار على الصغائر

- ‌المسألة الأولى: تعريف الكبيرة والفرق بينها وبين الصغيرة

- ‌المسألة الثانية: حكم الإصرار على المعصية

- ‌المبحث الثاني: الفاسق الملي

- ‌المطلب الأول: تعريف الفسق

- ‌المطلب الثاني: المقصود بالفاسق الملي

- ‌المبحث الثالث: حكم أهل الكبائر (الفاسق الملي) عند أهل السنة

- ‌المطلب الأول: هل عاصي أهل القبلة يوصف بالإيمان التام

- ‌المطلب الثاني: هل القول بعدم تكفير عصاة الموحدين على إطلاقه أم مقيد

- ‌المطلب الثالث: ما ورد من الذنوب تسميته كفرا، أو فيه نفي الإيمان عن صاحبه أو البراءة منه

- ‌المطلب الأول: أحكام الدنيا

- ‌المطلب الثاني: أحكام الآخرة من ثواب وعقاب

- ‌تمهيد:

- ‌المبحث الأول: أدلة أهل السنة على هذا الأصل

- ‌المبحث الثاني: ضوابط أهل السنة في مسألة اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد

- ‌المبحث الثالث: اجتماع الإيمان وبعض شعب الكفر في الشخص الواحد وأثره في مسألة الولاء والبراء

- ‌الفصل الثالث: أسباب ترك الإيمان والإعراض عنه

- ‌الفصل الأول: هل الإيمان مخلوق

- ‌الفصل الثاني: حكم إيمان المقلدين

- ‌الفصل الثالث: حكم من مات من أطفال المسلمين

- ‌الفصل الرابع: حكم من مات من أطفال المشركين

- ‌الفصل الخامس: حكم أهل الفترة

- ‌تمهيد في تعريف الناقض

- ‌الباب الأول: تعريف الكفر والردة، وضوابط إجراء الأحكام

- ‌المبحث الأول: تعريف الكفر

- ‌المبحث الثاني: أنواع الكفر

- ‌المبحث الثالث: ضابط التفريق بين الكفر الأكبر والأصغر

- ‌المبحث الرابع: قواعد في معرفة أنواع الكفر

- ‌المبحث الخامس: الكفر يكون قولاً باللسان، واعتقاداً بالقلب، وعملاً بالجوارح

- ‌الفصل الثاني: تعريف الردة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: الحكم بالظاهر وأدلته

- ‌المبحث الثاني: تكفير المعين والفرق بينه وبين تكفير المطلق

- ‌المطلب الأول: التكفير والتعذيب يكون بعد قيام الحجة

- ‌المطلب الثاني: كيفية قيام الحجة على المعين

- ‌المطلب الثالث: قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص

- ‌المبحث الرابع: عدم التكفير بكل ذنب

- ‌المبحث الخامس: اعتبار المقاصد

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: العذر بالجهل

- ‌المطلب الأول: تعريف الخطأ لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: الفرق بين الخطأ وبين الجهل

- ‌المطلب الثالث: أدلة العذر بالخطأ

- ‌المطلب الأول: تعريف التأويل لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتأويل

- ‌المطلب الثالث: الموقف من أهل التأويل

- ‌المطلب الرابع: التكفير بالمآل أو بلازم المذهب

- ‌المطلب الأول: تعريف الإكراه لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع الإكراه

- ‌المطلب الثالث: شروط الإكراه

- ‌المطلب الرابع: الإكراه على الكفر

- ‌المطلب الأول: تعريف التقليد لغة واصطلاحا

- ‌المطلب الثاني: أنواع التقليد

- ‌المطلب الثالث: التقليد في العقيدة وهل يعتبر عذرا

- ‌المبحث السادس: العجز

- ‌المطلب الأول: تعريف التقية

- ‌المطلب الثاني: العذر بالتقية

- ‌الباب الثاني: نواقض الإيمان في باب التوحيد

- ‌المبحث الأول: ما يناقض قول القلب

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية

- ‌المطلب الثاني: الشرك في الألوهية

- ‌المطلب الثالث: إنكار اسم أو صفة لله تعالى

- ‌المطلب الرابع: الإعراض عن دين الله

- ‌المطلب الخامس: الشك في حكم من أحكام الله أو خبر من أخباره

- ‌المطلب الأول: كفر الإباء والاستكبار

- ‌المطلب الثاني: الشرك الأكبر بعمل القلب

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالاعتقاد

- ‌المطلب الأول: حكم سب الله تعالى أو الاستهزاء به:

- ‌المطلب الثاني: هل من سب الله تقبل توبته وهل يستتاب كالمرتد

- ‌المبحث الثاني: أمثلة لنواقض الإيمان بالقول

- ‌المطلب الأول: الذبح والنذر الركوع والسجود والطواف

- ‌المطلب الثاني: الاستغاثة بغير الله تعالى

- ‌المطلب الثالث: دعاء الموتى

- ‌المبحث الثاني: شرك التشريع والحكم بغير ما أنزل الله

- ‌المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالفعل

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: رأي من يعتقد هذا الاعتقاد باختصار

- ‌المطلب الثاني: الرد على هذا الادعاء

- ‌المطلب الثالث: حكم من اعتقد هذا الاعتقاد

- ‌المبحث الثاني: ادعاء النبوة

- ‌المبحث الثالث: إنكار الكتب المنزلة أو شيء منها

- ‌المبحث الرابع: بغض أو كراهية بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل

- ‌المبحث السادس: كفر من سوغ اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السابع: من استهزأ بشيءٍ جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثامن: تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الشك في رسالته

- ‌المبحث التاسع: كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض

- ‌المطلب الأول: كفر وقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين

- ‌أولاً: الأدلة من القرآن على كفر ساب الرسول

- ‌ثانياً: الأدلة من السنة على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: من كذب على رسول الله

- ‌المبحث الثالث: سب الأنبياء

- ‌الفصل الثالث: النواقض العملية في باب النبوات (الاستهانة بالمصحف مثالاً)

- ‌الفصل الأول: إنكار الملائكة والجن

- ‌المبحث الأول: إنكار البعث

الفصل: ‌الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن

‌الفصل الثاني: التلازم بين الظاهر والباطن

وهي أصل آخر إليه يرجع الاختلاف في هذه المسألة، أعني مسألة الإيمان. فإن من لم يفرق بين الإيمان المطلق، ومطلق الإيمان لم يتصور اجتماع الثواب والعقاب، والطاعة والمعصية، والحسنة والسيئة، والسنة والبدعة في الشخص الواحد. وفي هذا يقول الشيخ ابن تيمية في (العقيدة الواسطية) عن أهل السنة والجماعة:(ولا يسلبون الفاسق الملِّي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى: وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنَا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مَّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَاّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كاَنَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مَّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [النساء: 92]. وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)) (1). ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرة. فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يُسلب مطلق الاسم) اهـ. فإن الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، الذي تناول فعل المأمور واجتناب المحذور والمحظور. أما مطلق الإيمان، فهذا يشمل الإيمان الكامل، والإيمان الناقص الذي صاحَبَه ذنبٌ كَبُرَ أو صَغُر دون الكفر أو الشرك النافي لأصل الإيمان، فهو الحد الأدنى من الإيمان، وهو القدر الذي يخلص به من الكفر.

فمطلق الإيمان، هو ما بقى فيه أصل الإيمان، وثبت لصاحبه اسم الإيمان، وصح نسبة الإيمان إليه ولو لم يكمله. مسألة الإيمان لعلي بن عبد العزيز الشبل – ص: 28

(1) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 162

وإن ظاهر العبد – عند أهل السنة والجماعة – هو الوجه الآخر لقلبه وباطنه، وأنه انعكاس مباشر له لا يتخلف عنه ولا يغايره، وإذا كان الباطن صالحاً كان الظاهر كذلك، وإذا كان الباطن فاسداً كان الظاهر كذلك فاسداً بحسبه؛ لأن الإيمان أصله في القلب، وهو: قول القلب من المعرفة والعلم والتصديق. عمل القلب من الإذعان والانقياد والاستسلام. ولكن من لوازم هذا الإيمان – إذا تحقق في القلب – تحقيقها في الظاهر، فالظاهر لا يتخلف عن الباطن ولا يضاده؛ لأنه ترجمان الباطن، ومرتبط به ارتباطاً وثيقاً. فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيماً إلا باستقامة الباطن، وكذلك العكس. والإيمان المطلوب شرعاً هو الإيمان الظاهر والباطن، وتلازم عمل القلب بعمل الجوارح؛ لأنه لا يصح إيمان العبد بواحدة دون الأخرى؛ فمن زعم وجود العمل في قلبه دون جوارحه؛ لا يثبت له اسم الإيمان؛ لأن الأعمال والأقوال الظاهرة من لوازم الإيمان التي لا تنفك عنه، قال الله تبارك وتعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: 22]. وقال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة: 81]. وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل رجل الجنة لا يأمن جاره بوائقه)) (1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)) (2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح هذا الحديث: (فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد؛ فإذا كان الجسد غير صالح، دل على أن القلب غير صالح، والقلب المؤمن صالح؛ فعلم أن من يتكلم بالإيمان، ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمناً، حتى أن المكره إذا كان في إظهار الإيمان؛ فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه؛ كما قال عثمان. وأما إذا لم يظهر أثر ذلك إلا بقوله، ولا بفعله قط؛ فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب؛ فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه)(3).

(1) رواه أحمد (3/ 198)(13071). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/ 220): رواه أحمد وفيه علي بن مسعدة وثقه يحيى بن معين وغيره وضعفه النسائي وغيره. والحديث حسنه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)): (2841).

(2)

رواه البخاري (52)، ومسلم (1599). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(3)

((مجموع الفتاوى)) (14/ 121).

ص: 163

وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في شرحه لهذا الحديث أيضاً: (إن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه.

فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات.

وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب.

ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، مبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك؛ فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم

فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئاً من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهية معصيته

وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله وحده؛ فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب

ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله؛ فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهراً وباطناً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح الجوارح؛ فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله، وإرادة الله ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله) (1).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب، فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي التصديق لما في القلب، ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح؛ كما قال أبو هريرة – رضي الله عنه – إن القلب ملك، والأعضاء جنوده؛ فإن طاب الملك، طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده)(2).

وقال أيضاً: (فهذا الموضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء إنه إذا أقر بالواجب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان،

وأن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع؛ سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزء من الإيمان) (3).

(1) انظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 210) في شرح (الحديث السادس) من الأربعين النووية.

(2)

((مجموع الفتاوى)) (7/ 644).

(3)

((مجموع الفتاوى)) (7/ 616).

ص: 164

وقال في موضع آخر: (وهنا أصول تنازع الناس فيها: منها أن القلب هل يقوم به تصديق، أو تكذيب، ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح، وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس؛ أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح، فمن قال: إنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه، ولم يتكلم قط بالإسلام، ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف؛ فهذا لا يكون مؤمناً في الباطن، وإنما هو كافر)(1).

وقال كذلك: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها؛ مثل أن يؤدي الأمانة، أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه؛ من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم (2).

وقال - أيضاً- رحمه الله: (إذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة؛ كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان؛ فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً، وجود هذا كاملاً؛ كما يلزم من نقص هذا، نقص هذا؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل، كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع)(3).

وقال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله: (وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد. وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه. وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله. وإذا زال تصديق القلب، لم ينفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة.

وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق؛ فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة؛ فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده؛ كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه، واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول؛ بل ويرون به سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به.

وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب؛ فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولاسيما إذا كان ملزوماً لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم

فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح، إذ لو أطاع القلب وانقاد؛ أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، وهو حقيقة الإيمان.

فإن الإيمان ليس مجرد التصديق

وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبيينه؛ بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه، والعمل بموجبه، وإن سمي الأول هدى؛ فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء؛ كما أن اعتقاد التصديق، وإن سمي تصديقاً؛ فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته) (4).

(1)((مجموع الفتاوى)) (14/ 120).

(2)

((مجموع الفتاوى)) (7/ 621).

(3)

((مجموع الفتاوى)) (7/ 582).

(4)

((كتاب الصلاة وحكم تاركها)) لابن قيم الجوزية (ص54).

ص: 165

وقال العلامة المحقق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: (ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن؛ فإن كان الظاهر منخرماً؛ حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً؛ حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات؛ بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً، والأدلة على صحته كثيرة جداً، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وطاعة المطيع، وعصيان العاصي، وعدالة العدل، وجرحة المجرح، وبذلك تنعقد العقود وترتبط المواثيق، إلى غير ذلك من الأمور؛ بل هو كلية التشريع، وعمدة التكليف بالنسبة إلى إقامة حدود الشعائر الإسلامية الخاصة والعامة)(1). الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري -بتصرف – ص91

ويتحقق الالتزام الباطن بقبول الشريعة، والرضى بها، والتسليم بأحكامها مع تحقيق الالتزام بالعمل الظاهر، الذي هو أيضاً شرط في أصل الدين من حيث الجملة.

ومن هنا يفترق حكم المؤمن عن المنافق في أحكام الآخرة، من جهة النظر إلى عدم تحقيق الالتزام الباطن بالنسبة للمنافق، ولو كان قد حقق الالتزام الظاهر.

كما أنه يتفق حكم المسلم والمنافق في أحكام الدنيا، من جهة النظر إلى تحقيق الالتزام الظاهر بالنسبة للمنافق أيضاً، مع أنه لم يحقق الالتزام الباطن.

فلابد في أحكام الآخرة من تحقيق الالتزام الباطن والظاهر. وأما أحكام الدنيا فيكفي فيها تحقيق الالتزام الظاهر، لأنه لا سلطان لأحد غير الله على البواطن.

وكلامنا هنا في حقيقة أصل الدين هو فيما يتعلق بالإيمان المنجي في أحكام الآخرة، لا مجرد الإسلام الحكمي في الدنيا، وعلى هذا فلابد من تحقيق الالتزام بالشريعة باطناً وظاهراً.

1 -

الالتزام الباطن: وهو الفارق بين المؤمن والمنافق

فإن المؤمن مع التزامه الظاهر بالشرع ملتزم به باطناً أيضاً. أما المنافق فإنه ولو التزم في الظاهر بالشريعة لكنه في الباطن والحقيقة غير ملتزم بها.

ولهذا كان معظم سياق الآيات الواردة في بيان اشتراط هذا الالتزام فيما يختص بالمنافقين، أو أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم ملتزمون بحكم الله، مع أنهم في الحقيقة على غير ذلك.

من ذلك قول الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. ففي هذه الآية نفي للإيمان عمن لم يتحاكم إلى شرع الله، فيقبله ويرضى به، بحيث لا يجد في نفسه اعتراضاً أو حرجاً من ذلك، بل يسلم له تسليماً.

يقول الإمام ابن القيم: الرضى بالقضاء الديني الشرعي واجب. وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان. فيجب على العبد أن يكون راضياً به، بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض، قال الله تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]. فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً وهذا حقيقة الرضى بحكمه (2).

(1)((الموافقات)) للشاطبي (1/ 367).

(2)

((مدارج السالكين)) لابن قيم الجوزية (2/ 192).

ص: 166

ويقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا [النساء: 60]. وهذه الآية كالتي قبلها، فيها نفي الإيمان عمن يريد التحاكم إلى غير شريعة الله، وأن ادعاءهم الإيمان مع تحاكمهم إلى غير الشريعة زعم باطل وادعاء متناقض، إذ كيف يتحاكمون إلى الطاغوت وهو كل ما عدا شرع الله، ثم يزعمون مع ذلك أنهم مؤمنون بشرع الله.

يقول الإمام ابن كثير: هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد. وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا. (1).

ومما جاء أيضاً في بيان حقيقة المنافقين قول الله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 47 - 51].

وهذه الآيات أيضاً دعوى من المنافقين أنهم مؤمنون، مع أنهم إذا دعوا إلى حكم الله أعرضوا عنه، فأي إيمان لمن لم يقبل حكم الله ويسلم به.

والآيات لا تدل على أن إعراضهم عن حكم الله كان معلناً ظاهراً لكل أحد، وإلا كانوا كافرين كفراً ظاهراً، كما أنهم كافرون كفراً باطناً. لكنهم قد يستخفون بذلك، مع إظهارهم قبول حكم الله، لئلا يطبق عليهم حكم المرتدين عن دين الله. لأن المؤمن لا يمكن أن يرضى بحكم غير حكم الله على الحقيقة، ولو حصل منه مخالفة له في الظاهر، لشهوة أو نحوها. ولهذا قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36]. فالرضى بدين الله والتحاكم إليه شرط في تحقيق أصل الدين الذي لا نجاة بدونه.

وهذا الرضى لا يكفي فيه مجرد التصديق، بل لابد مع التصديق من الانقياد والتسليم. بل قد يكون الكافر مصدقاً بالرسالة ولا يحكم بإيمانه حتى يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. بل الكافر المعاند لابد أن تقوم عليه الحجة بصدق الرسالة ويعلم ذلك، كما كان أبو طالب مصدقاً برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يقول:

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية ديناً

(1)((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 520).

ص: 167

لكن كان كافراً لعدم التزامه وتسليمه بما علم أنه حق وصدق. (1)

ومن زعم أن الإيمان هو مجرد التصديق فلابد أن يتناقض في مثل حال أبي طالب، ممن عرف الحق وأيقن به. وإن زعم الفرق بين التصديق بالشيء والعلم بأنه حق تناقض أيضاً، لأن هذا مما لا يمكن تصوره عند جميع الخلائق. (2)

وقد صدق كثيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا بذلك وأقروا، ومع ذلك لم يحكم بإسلامهم، لعدم رضاهم بالشريعة وانقيادهم لها واتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم.

من ذلك

ما ورد من قصة أبي حارثة، وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نصارى نجران.

قال ابن القيم عنه: (وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والى جنبه أخ له يقال: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة بل أنت تعست، فقال ولم يا أخي؟ فقال والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فقه هذه القصة: (وفيها أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته، فإذا تمسك بدينه بعد هذه الإقرار لا يكون ردة منه ونظير هذا قول الحبرين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل فلما أجابهما قالا نشهد أنك نبي قال: (فما يمنعكما من اتباعي؟) قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود، ولم يلزمهما بذلك الإسلام، ونظير ذلك شهادة عمه أبي طالب بأنه صادق، وأن دينه من خير أديان البرية ديناً، ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام.

ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط. بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ظاهراً وباطناً) (3).

ويقول الإمام ابن حجر في فوائد قصة قدوم وفد نجران: (وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام)(4).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان حقيقة الإيمان، وأنه لا يكفي فيه مجرد التصديق، بل لابد من الالتزام بشرع الله والتحاكم إليه: (لفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين:

أحدهما: الإخبار. وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.

(1) انظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (3/ 41 - 43).

(2)

انظر كلاماً نفيساً عن هذه المسألة في ((التسعينية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية من الوجه الثامن عشر إلى الوجه الثاني والعشرين.

(3)

((زاد المعاد)) لابن قيم الجوزية (3/ 629 - 630)، (3/ 638 - 639). وانظر:((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (1/ 368)، و ((السيرة النبوية الصحيحة)) لأكرم العمري (ص542)، وأصل القصة في الصحيحين. وانظر: البخاري (4380)، ومسلم (2420). من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.

(4)

((فتح الباري)) (8/ 95).

ص: 168

والثاني: إنشاء الالتزام. كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81]. فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول، وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر لا يقال فيه آمن له، بخلال الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر، والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمناً للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين) (1).

2 -

الالتزام الظاهر:

لابد من التنبيه هنا إلى أن الغاية من الكلام عن الالتزام الظاهر وكونه من أصل الدين هي بيان الحكم الشرعي لهذه المسألة، كما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، عند الكلام عن حقيقة الإيمان، واشتراط تلازم الظاهر والباطن.

لكن دون الخوض في أحكام المعينين وتبين أحوالهم. حيث إن بعض الطوائف قد رتبوا على هذه القضية الحكم على الناس بالكفر ابتداء، وأن كل من لم يتحققوا من إسلامه بشروط وحدود ابتدعوها فالأصل فيه الكفر، كما ذهب آخرون إلى القول بالتوقف في الحكم بكفرهم أو إسلامهم، حتى يتبينوا تحقيق المعين لأمور جعلوها حداً للإسلام، مع أنه لا تلازم بين الحكم بثبوت وصف الإسلام للمعين وبين ما تسميه تلك الطوائف الحد الأدنى للإسلام.

إن قضية الالتزام الظاهر وكونه من أصل الدين غير قضية الحكم على المعينين. ويتبين ذلك بأمرين:

الأول: إن الالتزام الظاهر في حقيقته التزام تفصيلي، وإنما هو داخل في أصل الدين من حيث الجملة، بخلاف الالتزام الباطن، فإنه التزام إجمالي يكفي في تحقيقه مجرد إرادته إرادة إجمالية، بالرضى بدين الإسلام والعزم على الالتزام به.

ولهذا لا يعذر أحد – ممن بلغته الدعوة – بجهل أو تأول أو إكراه فيما يتعلق بالالتزام الإجمالي، بخلاف الالتزام التفصيلي، فإنه يشترط في الالتزام به على التفصيل قيام الحجة التفصيلية على المعين وقدرته على التزامه. ومعنى ذلك أن الناس يختلفون فيه بحسب بلوغ الحجة الرسالية وبحسب قدراتهم بعد ذلك، سواء في ذلك ما يتعلق بمعرفة جميع المأمورات، أو ما يتعلق بمعرفة المنهيات، ومنها أعمال الشرك الظاهر التي قد تخفى على بعض الناس، وقد يفعلونها بغير قصد ما يكون به الشرك.

(1)((مجموع الفتاوى)) (7/ 530 - 531).

ص: 169

وعليه فلا يمكن اشتراط حد أدنى للإسلام. لأنه لا يمكن معرفة حال المعين وكونه لم يحقق الالتزام الظاهر إلا من جهة تلبسه بناقض، لأن الأصل المفترض فيمن أقر بالشهادتين أنه ملتزم بمقتضاهما. فإن كان نقضه للالتزام من جهة تلبسه ببعض أعمال الشرك مثلاً فلابد من إقامة الحجة عليه، والتبين عن حاله، وتعريضه للتوبة أولاً، فإن أبى وأصر كان كافراً، وإن رجع فهو مسلم. ولا إشكال في معاملته قبل ذلك بمقتضى الإسلام، لأن ذلك ظاهر حاله، إلا من كان من حاله على يقين.

الثاني: إن هناك فرقاً بين الحكم المطلق وحكم المعين. فالحكم المطلق يتعلق بالوصف الشرعي وبيان مناط الحكم فيه. وأما حكم المعين فلابد فيه من توفر شروط وانتفاء موانع.

وهذه القاعدة هي أصل قواعد أهل السنة فيما يتعلق بتكفير المعين ولهذا كان الإمام أحمد- رحمه الله – مع تكفيره للجهمية الذين يقولون إن القرآن مخلوق من حيث الحكم المطلق لا يكفر كل معين منهم بذلك. بل كان رحمه الله يدعو للخليفة وغيره ممن حبسه ويستغفر لهم، وقد حللهم من كل ما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين لم يجز الاستغفار لهم (1).

ولأجل عدم التفريق بين الحكم الشرعي المطلق وحكم المعين ضل فريقان فيما يتعلق بالالتزام الظاهر وعلاقته بالحكم على المعين، فذهب فريق إلى أنه لابد للحكم للمعين بالإسلام من تبين الالتزام الظاهر، ثم اختلفوا في حده، فمنهم من قال هو ترك النواقض، ومنهم من تجاوز فاشترط أعمالاً محددة جعلها الحد الأدنى لثبوت وصف الإسلام.

وذهب المرجئة إلى نقيض هذا الاتجاه فألغوا اعتبار الالتزام الظاهر من جهة الالتزام بجنس العمل بالكلية من أصل الدين لنفس الشبهة، وهي أن الالتزام الظاهر لو كان داخلاً في أصل الدين لكان شرطاً في إجراء الأحكام على المعينين.

والحقيقة أنه

لا تلازم بين الأمرين من هذه الجهة. وهكذا نرى أن شبهة المرجئة والخوارج واحدة من حيث الأصل وهي قولهم إن العمل إذا كان من الإيمان فيلزم أن ينتفي الإيمان بانتفاء بعضه، وإلى هذا ذهب الخوارج، أو لا ينتفي الإيمان بذلك فلا يكون العمل من الإيمان، وإلى هذا ذهب المرجئة. إذ عندهم أن الإيمان شيء واحد يذهب كله أو يبقى كله، لا يزيد ولا ينقص، وهم في هذا لم يفرقوا بين جنس العمل الذي اشترطه أهل السنة لتحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة وبين جزء العمل الذي يكون تخلفه لمماً أو كبيرة تنقص الإيمان لكنها لا تهدمه. وإنما ينتفي الإيمان بالنواقض. ونعود الآن إلى بيان حقيقة الالتزام الظاهر المشروط في أصل الدين فنجد أنه يتضمن أمرين:

الأول: ترك النواقض. ولا خلاف في اشتراطه لتحقيق الالتزام الظاهر وبقاء وصف الإسلام، وأن من تلبس بناقض، وتوفرت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه فهو كافر، لكنهم قد يختلفون في حقيقة الكفر، بناء على الاختلاف في حقيقة الإيمان.

فمن لا يعتبر العمل من الإيمان لا يكفر بتركه، لأن تركه عنده ليس كفراً. ومن يسوغ دعاء الأموات فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يكفر من يفعل ذلك، لأن ذلك عنده ليس كفراً، وإنما هو من المجاز العقلي. ونحو ذلك.

الثاني: الالتزام بجنس العمل، وهو إجماع أهل السنة والجماعة، ومعنى قولهم:(الإيمان قول وعمل) أي أن مجرد الإقرار لا يكفي لثبوت وصف الإسلام وبقائه للمعين دون الالتزام بالعمل.

(1) انظر للتفصيل في ذلك ((مجموع الفتاوى)) (12/ 484 - 501) وهذا اقتباس منه.

ص: 170

وهذا هو مناط النزاع بين أهل السنة والمرجئة، الذين بنوا قولهم على أصول فلسفية نظرية تجريدية، وانتهوا إلى أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان وحقيقته، كما أنه ليس لازماً له. بل يكون الإيمان عندهم كاملاً متحققاً في الباطن ولو لم يعمل الإنسان أي طاعة ولم يترك أي معصية كما صرحوا بذلك. وأصل خطئهم في مسمى الإيمان أنهم أرادوا أن يجعلوا للإيمان حداً تعرف به حقيقته وماهيته التي لابد أن يستوي فيها جميع أفراد المعينين من المؤمنين، بحيث لا يقبل النقص ولا الزيادة (1).

ولا يكون ذلك عندهم إلا بمعرفة المقومات الذاتية التي لا يمكن تحققه إلا بها، وبتخلف بعضها تنتفي حقيقة الإيمان وماهيته بالكلية. بخلاف الخواص العرضية - كما يقولون- التي ليست شرطاً في تحقيقه وإنما هي ثمرة من ثمراته.

يقول الرازي مستشكلاً كلام الإمام الشافعي في أن الفاسق لا يخرج من الإيمان، مع قوله إن العمل من الإيمان: قال الشافعي رضي الله عنه: الفاسق لا يخرج عن الإيمان، وهذا في غاية الصعوبة، لأنه لو كان الإيمان اسماً لمجموع أمور فعند فوات بعضها فقد فات ذلك المجموع فوجب أن لا يبقى الإيمان (2).

ثم نظروا بحسب هذه القاعدة إلى العمل، فوجدوا أن من نحكم بإسلامهم يختلفون في الالتزام به، وأن من ترك بعض الأعمال لا يحكم بكفره، ولم يجدوا حدًّا أدنى من الأعمال مشروطة لثبوت وصف الإسلام، ولم يفرقوا بين ما يشترط لتحقيق الإيمان وما يشترط لثبوت وصف الإسلام للمعين، فنفوا أن يكون الالتزام بالعمل داخلاً في أصل الدين بالكلية.

يقول أحدهم في ذلك: (الدرجة الثالثة: أن يوجد التصديق بالقلب والشهادة باللسان دون الأعمال بالجوارح، وقد اختلفوا في حكمه. فقال أبو طالب المكي: العمل من الإيمان ولا يتم دونه. وادعى الإجماع فيه. واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه، كقوله تعالى: الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إذ يدل على أن العمل وراء الإيمان، لا من نفس الإيمان، وإلا فيكون العمل في حكم المعاد. والعجيب أنه قد ادعى الإجماع في هذا

وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر، والقائل بهذا قائل بعين مذهب المعتزلة (3)، إذ يقال له من صدق بقلبه وشهد بلسانه، ومات في الحال فهل هو في الجنة؟ فلابد وأن يقول نعم، وفيه حكم بوجود الإيمان دون العمل (4)، فنزيد ونقول لو بقي حياً ودخل عليه وقت صلاة فتركها ثم مات أو زنى ثم مات فهل يخلد في النار؟ (5).

(1) بل وأصل ضلال كل من خالف أهل السنة في مسمى الإيمان كما سبق بيانه.

(2)

((أصول الدين)) للرازي (ص128).

(3)

هذا مما يدل على جهل هؤلاء بحقيقة قول السلف في مسمى الإيمان، فإن أهل السنة لا يلتزمون بقول المعتزلة ولا يلزمهم، وقد دخل سوء الفهم على هؤلاء من عدم تفريقهم بين جزء العمل وجنس العمل، وما هو المشروط في تحقيق أصل الدين عند أهل السنة منهما.

(4)

وهل يكلف المؤمن بالعمل قبل أن يجب عليه؟ بل يعكس عليه السؤال ويقال لو بقي حياً وامتنع عن العمل فهل يكفي مجرد إقراره، وهذا مناط النزاع.

(5)

بدأ الآن في إبطال أن يكون للإيمان حد أدنى من الأعمال، وإذا ثبت ذلك عنده فليست الأعمال كلها شرطاً في أصل الدين، بناء على قاعدتهم في أن حقيقة الإيمان ثابتة، يستوي فيها جميع أفراد المعينين.

ص: 171

فإن قال نعم فهذا مراد المعتزلة. وإن قال لا فهو تصريح بأن العمل ليس ركناً من نفس الإيمان، ولا شرطاً في وجوده، ولا في استحقاق الجنة (1)، وإن قال أردت به أن يعيش مدة طويلة ولا يصلي ولا يقدم على شيء من الأعمال الشرعية فما ضابط تلك المدة، وما عدد تلك الطاعات التي بتركها يبطل الإيمان، وما عدد الكبائر التي بارتكابها يبطل الإيمان، وهذا لا يمكن التحكم بتقديره، ولم يصر إليه صائر أصلاً) (2).

ويقول شارح (العقائد النسفية) في بيان حقيقة الإيمان وماهيته، ونتيجة ذلك فيما يتعلق بالالتزام بالعمل:(إن حقيقة الإيمان لا تزيد ولا تنقص، لما مر من أنه التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، حتى إن من حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه باق على حاله، لا تغير فيه أصلاً)(3).

بل إنهم تجاوزوا مجرد إخراج العمل من مسمى الإيمان فاختلفوا في الإقرار، وهل هو شرط للإيمان داخل في حقيقته أم أنه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط. وذلك بناء على التزامهم بأصلهم في تصور ماهية الإيمان، وقولهم في أن جزء الماهية لا يمكن تخلفه، وإلا تخلفت الماهية بالكلية.

يقول صاحب (شرح المسايرة): لا وجود للشيء إلا بوجود ركنه والإنسان مؤمن على التحقيق من حين آمن بالله تعالى إلى أن مات، بل إلى الأبد، وإنما يكون مؤمناً بوجود الإيمان وقيامه به حقيقة، ولا وجود للإقرار في كل لحظة.

فدل على أنه مؤمن بما معه من التصديق القائم بقلبه، الدائم بتجدد أمثاله، لكن الله أوجب الإقرار ليكون شرطاً لإجراء أحكام الدنيا، إذ لا وقوف للعباد على ما في الضمائر، فتجري أحكام الآخرة على التصديق بدون الإقرار، حتى إن من أقر ولم يصدق فهو مؤمن عندنا، وعند الله تعالى هو من أهل النار. ومن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو كافر عندنا وعند الله مؤمن من أهل الجنة (4).

يكفي في بيان عدم اعتبارهم العمل من الإيمان، وعدم اشتراطهم الالتزام به كلية للنجاة في الآخرة، ولا مجال للتوسع في النقول عنهم في ذلك، فكلهم على ذلك وهو مقتضى وصفهم بالإرجاء.

لكن الذي نريد بيانه هنا هو ما استندوا عليه لبيان مذهبهم أن الإيمان حقيقة واحدة هي التصديق، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وأن الأعمال، بل والإقرار عند بعضهم ليست شرطاً في تحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني - بتصرف – ص61

(1) لأن ركن الماهية لا يمكن تخلفه كما يقولون. ونعود إلى التنبيه إلى أن هذا الإشكال مبني على عدم فهم قول أهل السنة في العمل المشروط في أصل الدين، وأنه جنس العمل لا آحاد العمل، وإنما يعرف تركه في الظاهر من جهة الإصرار على ذلك.

(2)

((سفينة الراغب ودفينة المطالب)) محمد راغب باشا (ص199).

(3)

((شرح العقائد النسفية)) لسعد الدين التفتازاني (ص444 - 445).

(4)

((المسامرة بشرح المسايرة)) للكمال بن الهمام (ص292 - 293).

ص: 172