الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: تعريف الكبيرة والفرق بينها وبين الصغيرة
اختلف العلماء في تعريفها فبعضهم يعبر عن جانب منها من خلال الاستدلال ببعض النصوص دون بقيتها، وحاول البعض الآخر أن يأتي بتعريف شامل وسنستعرض بعض هذه التعريفات باختصار ثم نأتي بالقول الصحيح من خلال كلام الأئمة المحققين (1).
1 -
قال الرافعي في (الشرح الكبير): (الكبيرة هي الموجبة للحد، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة، هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل، ولكن الثاني أوفق لما ذكروه من تفصيل الكبائر (2). قال الحافظ في (الفتح): وكيف يقول عالم إن الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في (الصحيحين) بالعقوق واليمين الغموس وشهادة الزور وغير ذلك (3).
وقال بعدما جمع ما ورد التصريح بأنه من الكبائر: (إذا تقرر ذلك عرف فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحد، لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحد (4). أما من عرفها بأنها ما ورد فيها الوعيد فهو أقرب إلى الصحة
…
قال الحافظ في (الفتح): ولا يدل عليه إخلاله بما فيه الحد، لأن كل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد على فعله. (5).
2 -
ومن الأقوال في تعريفها: أنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، قال شيخ الإسلام عن هذا القول:(يوجب (هذا القول) أن تكون الحبة من مال اليتيم، ومن السرقة، والخيانة والكذبة الواحدة، وبعض الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرة، وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر، إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة ....... إلخ) (6).
3 -
وعرفها إمام الحرمين بقوله: (كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقاقة الديانة)(7).
ومثله قول أبي حامد الغزالي: (كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف ووجدان ندم تهاوناً واستجراء عليها فهي كبيرة، وما يحمل على فلتات اللسان ولا ينفك عن ندم يمتزج بها وينغص التلذذ بها فليس بكبيرة)(8).
واعتُرض على هذا التعريف، لأنه يشمل صغائر الخسة وليست بكبائر، وكذلك يرد على هذا التعريف أن من ارتكب كبيرة من الكبائر المنصوص عليها كالزنا مثلاً لا يشمله التعريف إن صاحب فعله الخوف أو الندم (9).
4 -
قال ابن عبد السلام: (إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فان نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو ربت عليها فهي من الكبائر)(10).
واعترض على ذلك بتعذر الإحاطة بمفاسد الكبائر كلها حتى نعلم أقلها مفسدة (11).
(1) ناقش هذه التعريفات عدد من الأئمة منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (11/ 650، 657)، وابن حجر العسقلاني في ((الفتح)) (10/ 410، 411)، (12/ 182، 184)، وابن حجر الهيتمي في ((الزواجر)) (1/ 5 - 9)، وابن كثير في ((تفسير القرآن العظيم)) (4/ 486، 487).
(2)
نقلاً عن: ((فتح الباري)) لابن حجر (12/ 184).
(3)
((فتح الباري)) (12/ 184).
(4)
((فتح الباري)) (12/ 183).
(5)
((فتح الباري)) (12/ 184)، وانظر:((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 657).
(6)
((مجموع الفتاوى)) (11/ 656).
(7)
نقلاً عن ((فتح الباري)) (10/ 410).
(8)
نقلاً عن: ((الزواجر)) لابن حجر الهيتمي (1/ 7).
(9)
انظر: ((الزواجر)) (1/ 7).
(10)
((قواعد الأحكام)) (1/ 19).
(11)
انظر: ((الزواجر)) (1/ 8).
5 -
وذهب بعض العلماء ومنهم الإمام الطبري إلى تعريفها بالعدد من غير ضبطها بحد قال رحمه الله: (وأولى ما قيل في تأويل (الكبائر) بالصحة، ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما قاله غيره) .. فالكبائر إذاً: الشرك به، وعقوق الوالدين، وقتل النفس
…
) (1)
ومقصود الإمام الطبري حصر الكبائر بما نص عليه الصلاة والسلام بأنه كبيرة دون غيره مما عليه حد أو وعيد ولم ينص على أنه كبيرة، ولازم هذا القول إخراج بعض الذنوب كالسرقة والرشوة مثلاً من أن تكون من الكبائر لعدم ورود نص يصرح بأنها من الكبائر، على الرغم من أن مفسدة هذه أكبر من بعض المنصوص عليها.
6 -
ومن أشهر التعريفات ما نقل عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وغيرهم: أن الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن الصلاح: (لها أمارات منها: إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن)(2).
وقال الماوردي من الشافعية: (الكبيرة ما وجبت فيه الحدود أو توجه إليها الوعيد)(3) وورد مثل ذلك عن الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلي (4) ورجحه القرطبي (5) وابن تيمية والذهبي (6) وغيرهم.
ولعل هذا التعريف أشمل التعاريف وأقربها للصواب لعدة اعتبارات ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية من أهمها:
أنه يشمل كل ما ثبت في النصوص أنه كبيرة كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة، ويشمل أيضاً ما ورد فيه الوعيد كالفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين واليمين الغموس وشهادة الزور، ويشمل كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، وما قيل فيه من فعله فليس منا، وما ورد من نفي الإيمان عن من ارتكبه كقوله صلى الله عليه وسلم:((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. )) (7)(8) فكل من نفي الله عنه الإيمان والجنة أو كونه من المؤمنين فهو من أهل الكبائر، لأن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة.
أنه مأثور عن السلف من الصحابة والتابعين بخلاف غيره.
أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الصغائر والكبائر بخلاف غيره.
(1) انظر: ((تفسير الطبري)) (8/ 253)، وانظر تعريفات تشبه ما قاله الطبري معتمدة على بعض النصوص فمنهم من عرف الكبائر بأنها سبع أو تسع أو أربع ويورد النصوص المؤيدة لقوله، انظر:(8/ 235–253).
(2)
نقلاً عن ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 85).
(3)
نقلاً عن ((فتح الباري)) (10/ 410).
(4)
نقلاً عن ((فتح الباري)) (10/ 410).
(5)
انظر: ((فتح الباري)) (10/ 411).
(6)
نقلاً عن ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 85).
(7)
رواه البخاري (2475)، ومسلم (75). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8)
انظر: ((مجموع الفتاوى)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (11/ 651 - 655) باختصار.
أن الله تعالى قال: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء: 31]، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنته أو ما يقتضي ذلك، فإنه خارج عن هذا الوعد فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب العقوبة عليه (1). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي - 1/ 109
فالنصوص التي فيها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة فالمقصود فيه نفي كمال الإيمان أو الإيمان الواجب. الأحاديث في نفي الإيمان عمن ارتكب الكبائر وترك الواجبات كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) (2) يقول ابن رجب تعليقاً على ذلك: فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته. (3) ويقول ابن تيمية: ( .... ثم إن نفي الإيمان عند عدمها دال على أنها واجبة فالله ورسوله لا ينفيان اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة إلا بأم القرآن)) (4).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) (5). الأحاديث التي فيها نفي الإيمان كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) (6)
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. الحديث ()(7).
وقوله: ((لا إيمان لمن لا أمانة له .. الخ)).
(1) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 654 - 655).
(2)
رواه أحمد (3/ 135)(12406)، وابن حبان (1/ 422) (194). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الذهبي في ((المهذب)): سنده قوي، وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (7179): صحيح.
(3)
((جامع العلوم والحكم)) (ص25).
(4)
رواه البخاري (756)، ومسلم (394). من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(5)
رواه أحمد (3/ 135)(12406)، وابن حبان (1/ 422) (194). من حديث أنس رضي الله عنه. قال البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 100): حسن. وقال الذهبي في ((المهذب)) (7/ 3805): إسناده قوي. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (1/ 73) كما أشار لذلك في مقدمته. وقال الألباني في ((صحيح الجامع الصغير)) (7179): صحيح.
(6)
رواه البخاري (15)، ومسلم (44). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(7)
رواه البخاري (2475)، ومسلم (75). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال النووي: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة)(1). ما ورد من نفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر هو داخل في هذا المعنى الذي ذكرنا، أي أن المنفي ليس اسم الإيمان والدخول فيه إنما المنفي هو حقيقة الإيمان وكماله، يقول الإمام أبو عبيد:(فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً وإنما وقع معناه هاهنا على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكملوا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال ما هو بولده، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك وإنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة البر، وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أحكامها وأسماؤها فكذلك هذه الذنوب التي ينفي بها الإيمان إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك ولا يقال لهم مؤمنون (2) وبه الحكم عليهم) (3). أما أهل السنة فأجمعوا على أن المنفي هنا (يعني قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (4).) كمال الإيمان جمعاً بين هذا النص وغيره من النصوص، قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله، تعليقاً على هذا الحديث:
…
يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر – إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام – من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم، أوضح الدلائل على صحة قولنا، أن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان بفعله ذلك (5). وقال النووي رحمه الله:(فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الإبل ولا عيش إلا عيش الآخرة)(6) وقال المروزي رحمه الله، (فالذي صح عندنا في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (7). وما روي عنه من الأخبار مما يشبه هذا أن معنى ذلك كله أن من فعل تلك الأفعال لا يكون مؤمناً مستكمل الإيمان، لأنه ترك بعض الإيمان، نفى عنه الإيمان، يريد به الإيمان الكامل. وإقامة الحدود عليه دليل على أن الإيمان لم يزل كله عنه، ولا اسمه، ولولا ذلك لوجب استتابته، وقتله، وسقطت الحدود) (8).
إذاً لا مناص من تفسير هذا الحديث وما في معناه بأن المنفي كمال الإيمان أو الإيمان الواجب وليس أصل الإيمان، لأنا لو قلنا إن المنفي أصل الإيمان لوقعنا في تناقض ولضربنا بعض النصوص ببعض، إذ يلزم من هذا القول إسقاط الحدود، ورد الأحاديث المصرحة بدخول الموحد الجنة وإن زنى وإن سرق، وخروجه من النار الخ. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – 1/ 50
(1)((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 41).
(2)
أي: بقاء اسم الإيمان وأصله دون حقيقته وكماله.
(3)
((الإيمان)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: 90، 91).
(4)
رواه البخاري (5578) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
((التمهيد)) لابن عبد البر (9/ 243، 244).
(6)
((شرح صحيح مسلم)) للنووي (2/ 41).
(7)
رواه البخاري (5578) ومسلم (57) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8)
((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 576).