الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: من كذب على رسول الله
وقد رَوى أبو بكر بن مردويه من حديث الوازع عن أبي سلمة عن أسامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن يَقُلْ عَلَيَّ مَا لم أقُلْ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) (1)
…
اختلاف العلماء في حكم من كذب على الرسول:
وللناس في هذا الحديث قولان:
أحدهما: الأخذ بظاهره في قتل من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء من قال: يكفر بذلك؛ قاله جماعة منهم أبو محمد الجُوَيْنِي حتى قال ابن عقيل عن شيخه أبي الفضل الهمداني: مبتدعة الإسلام والكذابون والواضعون للحديث أشد من الملحدين؛ لأن الملحدين قصدوا إفساد الدين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلدٍ سعوا في فساد أحواله، والملحدون كالمحاصرين من خارج فالدخلاء يفتحون الحصن، فهم شرّ على الإسلام من غير الملابسين له.
ووجه هذا القول: أن الكذب عليه كذبٌ على الله، ولهذا قال:((إِنَّ كَذِباً عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدِكُمْ)) (2) فإن ما أمر به الرسول فقد أمر الله به يجب اتباعه كوجوب اتباع أمر الله، وما أخبر به وجب تصديقه كما يجب تصديق ما أخبر الله به.
ومن كذَّبه في خبره أو امتنع من التزام أمره (فهو كمن كذّب خبر الله وامتنع من التزام أمره)، ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه أو أخبر عن الله خبراً كَذَبَ فيه كمسيلمة والعَنْسِي ونحوهما من المتنبئين فإنه كافر حلال الدم، فكذلك من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يبين ذلك أن الكذب عليه بمنزلة التكذيب له، ولهذا جمع الله بينهما بقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالحَقِّ لمَّا جَاءهُ [العنكبوت:68]، بل ربما كان الكاذب عليه أعظم إثماً من المكذِّب له، ولهذا بدأ الله به، كما أن الصادق عليه أعظمُ درجة من المصدِّق بخبره، فإذا كان الكاذب مثل المكذِّب أو أعظم، والكاذب على الله كالمكذب له، فالكاذب على الرسول كالمكذب له.
يوضّح ذلك أن تكذيبه نوع من الكذب؛ فإن مضمون تكذيبه الإخبار عن خبره أنه ليس بصدق، وذلك إبطال لدين الله، ولا فرق بين تكذيبه في خبر واحد أو في جميع الأخبار، وإنما صار كافراً لما تضمنه من إبطال رسالة الله ودينه. والكاذب عليه يُدخِل في دينه ما ليس منه عمداً، ويزعم أنه يجب على الأمة التصديق بهذا الخبر وامتثال هذا الأمر لأنَّهُ دين الله، مع العلم بأنه ليس لله بدين.
والزيادة في الدين كالنقص منه، ولا فرق بين مَن يكذب بآيةٍ من القرآن أو يضيف كلاماً ويزعم أنه سورة من القرآن عامداً لذلك.
(1) رواه الطبراني في ((طرق حديث من كذب علي متعمداً)) (70)، وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 83 - 84) من طريق أبي بكر بن مردويه. وكلاهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. قال الألباني في ((مشكاة المصابيح)) (5883): لم أقف على إسناده بهذا التمام. والحديث رواه ابن ماجه (34) بلفظ: ((من تقوّل عليَّ ما لم أقل
…
)). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. وعن أبي هريرة رضي الله عنه في ((الصحيحين)) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((
…
وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)) رواه البخاري (110)، ومسلم (3).
(2)
رواه البخاري (1291)، ومسلم (4). بلفظ:(أحد) بدلاً: من (أحدكم). من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
وأيضاً، فإن تعمد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف؛ لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به، بل وقد لا يجوز الأمر بها، وهذه نسبة له إلى السَّفَه، أو أنه يخبر بأشياء باطلة، وهذه نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح.
وأيضاً، فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان، أو صلاة سادسة زائدة ونحو ذلك، أو أنه حَرَّم الخبز واللحم عالماً بكذب نفسه؛ كفر بالاتفاق.
فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوْجب شيئاً لم يوجبه أو حرم شيئاً لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول، وزاد عليه بأن صَرَّح بأن الرسول قال ذلك، وأنه - أفتى القائل - لم يَقُلْه اجتهاداً واستنباطاً.
وبالجملة فمن تعمد الكذب الصريح على الله فهو كالمتعمد لتكذيب الله وأسوأ حالاً، ولا يخفى أن من كذب على من يجب تعظيمه؛ فإنه مستخفٌّ به مستهين بحرمته.
وأيضاً، فإن الكاذب عليه لا بد أن يشينه بالكذب عليه وتنقصه بذلك، ومعلوم أنه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سرح في قوله: كان يتعلم مني. أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة؛ كفر بذلك، فكذلك الكاذب عليه؛ لأنَّهُ إما أن يَأْثُر عنه أمراً أو خبراً أو فعلاً، فإن أثر عنه أمراً لم يأمر به فقد زاد في شريعته، وذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به، لأنه لو كان كذلك لأمر به صلى الله عليه وسلم، لقوله:((مَا تَرَكْتُ مِن شَيءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلى الجَنَّةِ إِلَاّ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا مِن شيءٍ يُبعدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلَاّ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ)) (1)، فإذا لم يأمر به فالأمر به غير جائز منه، فمن روى عنه أنه قد أمر به فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له الأمر به، وذلك نسبة له إلى السفه.
وكذلك إن يقل عنه خبراً، فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له الإخبار به لأخبر به؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين، فإذا لم يخبر به فليس هو مما ينبغي له أن يخبر به، وكذلك الفعل الذي ينقله عنه كاذباً فيه لو كان مما ينبغي فعله وترجح لَفَعَلَه، فإذا لم يفعله فتركه أولى.
فحاصله أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في جميع أحواله، فما تركه من القول والفعل فتركه أولى من فعله، وما فَعَله ففِعْله أكمل من تركه، فإذا كذب الرجل عليه متعمداً (أو) أخبر بما لم يكن (فذلك) الذي أخبر به عنه نقص بالنسبة إليه؛ إذ لو كان كمالاً لوجد منه، ومن انتقص الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر.
واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه، لكن يتوجه أن يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهةً وبين الذي يكذب عليه بواسطةٍ، مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا فإن هذا إنما كذب على ذلك الرجل، ونسب إليه ذلك الحديث، فأما إن قال: هذا الحديث صحيح، أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالماً بأنه كذب، فهذا قد كذب عليه، وأما إذا افتراه ورواه روايةً ساذجة ففيه نظر، لاسيما والصحابة عدول بتعديل الله لهم.
فالكذب لو وقع من أحدٍ ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين، فأراد صلى الله عليه وسلم قَتل من كذب عليه وعَجَّل عقوبته ليكون ذلك عاصماً من أن يدخل في العدول مَن ليس منهم من المنافقين ونحوهم.
(1) رواه الحاكم (2/ 5)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7/ 299)، والبغوي في ((شرح السنة)) (7/ 242)، وفي ((تفسيره)) (6/ 254). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (5/ 54): فيه انقطاع. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (2866): الحديث حسن على أقل الأحوال.
وأما من روى حديثاً يعلم أنه كذب فهذا حرام، كما صحّ عنه أنه قال:((مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيْثاً يَعْلَم أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبِين)) (1)، لكن لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر؛ لأنه صادق في أن شيخه حدثه به، لكن لعلمه بأن شيخه كَذَبَ فيه لم تكن تحلُّ له الرواية، فصار بمنزلة أن يشهد على إقرارٍ أو شهادةٍ أو عقدٍ وهو يعلم أن ذلك باطل، فهذه الشهادة حرام، لكنه ليس بشاهد زور.
وعلى هذا القول فمن سبّه فهو أولى بالقتل ممن كذب عليه، فإن الكاذب عليه قد زاد في الدين ما ليس منه، وهذا قد طعن في الدين بالكلية وحينئذ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة، فكذلك الساب له وأولى.
فإن قيل: الكذب عليه فيه مفسدة - وهو أن يصدق في خبره فيزاد في الدين ما ليس منه أو ينتقص منه ما هو منه - والطاعن عليه قد علم بطلان كلامه بما أظهر الله من آيات النبوة.
قيل: والمحدث عنه لا يقبل خبره إن لم يكن عدلاً ضابطاً، فليس كل من حدث عنه قبل خبره، لكن قد يظن عدلاً وليس كذلك، والطاعن عليه قد يُؤثر طعنه في نفوس كثير من الناس، ويُسقِط حرمته من كثير من القلوب، فهو أوكد على أن الحديث عنه له دلائل يميز بها بين الكذب والصدق.
الثاني: أن الكاذب عليه تُغلظ عقوبته، لكن لا يكفر ولا يجوز قتله؛ لأن موجبات الكفر والقتل معلومة، وليس هذا منها، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له، ومن قال هذا فلا بد أن يقيد قوله بأن لم يكن الكذب عليه متضمناً لعيبٍ ظاهرٍ، فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاماً يدل على نقصه وعيبه دلالةً ظاهرةً مثل حديث عَرَق الخيل ونحوه من التُّرَّهَاتِ فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهراً، ولا ريب أنه كافر حلال الدم.
وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه كان منافقاً فقتله لذلك، لا للكذب.
وهذا الجواب ليس بشيءٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من سنته أنه يقتل أحداً من المنافقين الذين أخبر الثقة عنهم بالنفاق أو الذين نزل القرآن بنفاقهم فكيف يقتل رجلاً بمجرد علمه بنفاقه؟ ثم إنه سمى خلقاً من المنافقين لحذيفة وغيره، ولم يقتل منهم أحداً.
وأيضاً، فالسبب المذكور في الحديث إنما هو كذبه على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً له فيه غرض، وعليه رتب القتل، فلا يجوز إضافة القتل إلى سببٍ آخر، وأيضاً، فإن الرجل إنما قصد بالكذب نيل شهوته، ومثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار.
وأيضاً، فإما أن يكون نفاقه لهذه الكذبة أو لسببٍ ماضٍ فإن كان لهذه فقد ثبت أن الكذب عليه نفاق، والمنافق كافر، وإن كان النفاقُ متقدماً وهو المقتضي للقتل لا غيره، فعلام تأخير الأمر بقتله إلى هذا الحين؟ وعلام لم يؤاخذه الله بذلك النفاق حتى فعل ما فعل؟
وأيضاً، فإن القوم أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله، فقال:((كَذَبَ عَدُوُّ الله)) ثم أمر بقتله إن وجد حياً، وقال:((ما أراكَ تجده حَيّاً)) (2) لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن ذنبه يوجب تعجيل العقوبة. الصارم المسلول لابن تيمية - 2/ 319
(1) رواه مسلم في مقدمة ((الصحيح))، باب: وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذّابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه (39)، وأحمد (5/ 14) (20175). من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.
(2)
رواه ابن عدي في ((الكامل)) (5/ 81). من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. وقال: [فيه] صالح بن حيان عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (7/ 374): منكر. وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (4/ 1469): حسن. وقال المعلمي في ((الأنوار الكاشفة)) (137): راويه عن ابن بريده صالح بن حيان وهو ضعيف له أحاديث منكرة.