الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد:
من كان مذهبه أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه، يرى الاستثناء في الإيمان على اعتبار أنه لا يقطع بتكميل الإيمان وبالإتيان به على الدرجة العالية المطلوبة، بخلاف من يرى أن الإيمان شيء واحد لا يتجزأ ولا يزيد ولا ينقص، وأن أهله فيه سواء؛ فصاحب هذا القول يرى عدم جواز الاستثناء في الإيمان ويقطع بإيمانه، بل ويعد من استثنى في إيمانه شاكاً.
وبهذا يعلم مدى صلة هذه المسألة بمسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وإن كان الجميع يعد من مسائل الإيمان ومباحثه المهمة.
ومما يوضح قوة صلة هذه المسألة بسابقتها؛ أن هذه المسألة تبحث دائماً في كتب العقيدة تلو مسألة زيادة الإيمان ونقصانه للارتباط بين المسألتين ولتعلق نتائج كلٍّ بنتائج الأخرى، وهذا يعلم بمطالعة كتب العقيدة.
ثم بين المسألتين ارتباط من جهة أخرى؛ وهي أن كلتا المسألتين حدث الخوض فيهما بسبب الإرجاء الذي نشأ في الأمة بفعل أهل الأهواء، ولهذا ذمّ سلف الأمة الإرجاء وما يشتمل عليه من عقائد منحرفة، منها عدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه، ومنها القطع بالإيمان عند الله وبكمال الإيمان.
يقول محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: (احذروا رحمكم الله قول من يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، ومن يقول: أنا مؤمن عند الله، وأنا مؤمن مستكمل الإيمان، هذا كله مذهب أهل الإرجاء)(1).
ثم ساق بسنده إلى الأوزاعي أنه قال: (ثلاث هن بدعة: أنا مؤمن مستكمل الإيمان، وأنا مؤمن حقاً، وأنا مؤمن عند الله تعالى)(2).
وأول الخوض في مسألة الاستثناء هذه وسببه هم المرجئة، بل إن أصل الإرجاء وأُس نشأته هو ترك الاستثناء في الإيمان، كما قال عبدالرحمن بن مهدي رحمه الله:(إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء)(3)، وفي لفظ آخر له (أول الإرجاء ترك الاستثناء)(4)، وفي لفظ ثالث له:(أصل الإرجاء من قال إني مؤمن)(5).
ولهذا كان أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره يكرهون سؤال الرجل لغيره أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب عن ذلك؛ لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقاً بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق، لأنه يجزم بأنه مؤمن، ولا يجزم بأنه فعل كما أمر به.
(1)((الشريعة)) للآجري (ص: 146).
(2)
((الشريعة للآجري)) (ص: 146)، وذكره يحيى بن أبي الخير العمراني في كتابه:((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) (3/ 795).
(3)
رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: 136)، وابن بطة في ((الإبانة)) (2/ 871).
(4)
رواه الخلال في ((السنة)) (3/ 598).
(5)
رواه الطبري في ((تهذيب الآثار)) برقم (1023).
فلما علم السلف مقصدهم ذلك صاروا يكرهون الجواب أو يفصلون فيه (1) بل ويعدون السؤال هذا بدعة محدثة، وما أروع ما قاله الأوزاعي في هذا، وذلك حينما سُئل عن الرجل يسأل الرجل أمؤمن أنت؟ فأجاب رحمه الله: (إن المسألة عما تسأل عنه بدعة والشهادة به تعمق لم نكلفه في ديننا، ولم يشرعه نبينا، ليس لمن يسأل عن ذلك فيه إمام، القول به جدل والمنازعة فيه حدث، ولعمري ما شهادتك لنفسك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إن لم تكن كذلك، وما تركك الشهادة لنفسك بها بالتي تخرجك من الإيمان إن كنت كذلك، وإن الذي يسألك عن إيمانك ليس بشك في ذلك منك، ولكنه يريد أن ينازع الله تبارك وتعالى علمه في ذلك حتى تزعم أن علمه وعلم الله في ذلك سواء فاصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا وكف عما كفوا واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم، وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعدما رد عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم فأشربهم قلوب طوائف منهم واستحلتها ألسنتهم وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف.
ولست بآيس أن يدفع الله عز وجل شر هذه البدعة إلى أن يصيروا إخواناً في دينهم ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: لو كان هذا خيراً ما خصصتم به دون أسلافكم فإنه لم يدخر عنهم شيء خبيء لكم دونهم لفضل عندكم، وهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله له وبعثه فيهم ووصفه بهم فقال: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا
…
[الفتح: 26]، إلى آخر السورة) (2)، اهـ.
يرحمه الله ما أروع بيانه، وما أجود نصحه وتبيانه، ولا والله لا خير فيمن لم يسعه ما وسعهم فإنهم عن علم ثاقب وقفوا، وعن بصيرة نيرة كفوا، والخير كل الخير في اتباعهم.
ثم إن الآثار المروية عن السلف يرحمهم الله في ذم الإرجاء بعامة، وفي ذم ترك الاستثناء وذم سؤال الناس عن إيمانهم بخاصة كثيرة جداً، وكذلك النصوص عنهم في تبديع أهل هذه المسائل كثيرة
…
ثم إنه لما خاض هؤلاء في هذه المسألة بباطل، وقلبوا فيها الأمور، وناقضوا الحقائق، لزم أهل الحق أن يتصدوا لهذا التيار وأن يجابهوا هذا الباطل بدحضه ورده وإحقاق الحق مكانه، لهذا كثر كلام أهل السنة في هذه المسألة وطال نقاشهم وردهم لهذا الباطل في كتبهم المفيدة ورسائلهم العديدة فنفع الله بها من شاء من خلقه.
زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبدالرزاق البدر - بتصرف - ص 455
(1)((الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 448 - 449).
(2)
((الشريعة للآجري)) (ص: 139). وانظر: ((الحجة في بيان المحجة)) لأبي القاسم التيمي (1/ 112).