المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ما وقع من الحوادث سنة 841] - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ١٥

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الخامس عشر]

- ‌مقدمة

- ‌[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 836]

- ‌[3] ذكر سفر السلطان الملك الأشرف [برسباى] إلى آمد

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 837]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 838]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 839]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 840]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 841]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 825]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 826]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 827]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 828]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 829]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 830]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 831]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 832]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 833]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 834]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 835]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 836]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 837]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 838]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 839]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 840]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 841]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 842]

- ‌ذكر ما وقع له من ابتداء أمره إلى أن تسلطن

- ‌ذكر قتل قرقماس الشعبانى الناصرى

- ‌ذكر خبر عصيان تغرى برمش المذكور

- ‌فرار الملك العزيز

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 843]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 844]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 845]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 846]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 847]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 848]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 849]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 850]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 851]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 852]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 853]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 854]

- ‌ذكر مبدأ نكبة أبى الخير النحاس على سبيل الاختصار

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 855]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 856]

- ‌ابتداء مرض موت السلطان

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 857]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 842]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 843]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 844]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 845]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 846]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 847]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 848]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 849]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 850]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 851]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 852]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 853]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 854]

- ‌فهرس

- ‌الملوك والسلاطين الذين تولوا مصر من سنة 836- 854 ه

- ‌ الخلفاء العباسيون المعاصرون

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الأمم والقبائل والبطون والعشائر والأرهاط والطوائف والجماعات

- ‌فهرس البلاد والأماكن والأنهار والجبال وغير ذلك

- ‌فهرس الألفاظ الاصطلاحية وأسماء الوظائف والرتب والألقاب التى كانت مستعملة فى عصر المؤلف

- ‌فهرس وفاء النيل من سنة 825 هـ- 854 ه

- ‌فهرس أسماء الكتب الواردة بالمتن والهوامش

- ‌المراجع التى اعتمد عليها المحقق

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌[ما وقع من الحوادث سنة 841]

[ما وقع من الحوادث سنة 841]

السنة السابعة عشرة من سلطنة الملك الأشرف برسباى [على مصر]«1»

وهى سنة إحدى وأربعين وثمانمائة.

[فيها]«2» كانت وفاة الأشرف المذكور فى ذى الحجة حسبما تقدم ذكره.

[و]«3» فيها كان الطاعون بالديار المصرية وكان «4» مبدؤه من شهر رمضان وارتفع فى ذى القعدة فى آخره، ومات فيه خلائق من الأعيان والرؤساء وغيرهم، لكنه فى الجملة كان أضعف من طاعون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة «5» .

[وفيها]«6» توفى القاضى سعد الدين إبراهيم ابن القاضى كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين بركة، ناظر الخاص الشريف [وابن ناظر الخاص]«7» المعروف بابن كاتب جكم، فى يوم الخميس سابع عشر [شهر]«8» ربيع الأول، بعد مرض طويل وسنه دون الثلاثين سنة؛ وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى «9» [من تحت القلعة]«10» ودفن عند أبيه بالقرافة.

وكان شابا عاقلا سيوسا كريما مدبرا، ولى الخاص صغيّرا «11» بعد وفاة أبيه، فباشر بحرمة ونفذ الأمور وساس الناس وقام بالكلف السلطانية أتم قيام، [72] لا سيما لما سافر [الملك]«12» الأشرف إلى آمد فإنه تكفل عن السلطان بأمور كثيرة تكلف فيها كلفة كبيرة، كل ذلك وسيرته مشكورة، إلا أنه كان منهمكا فى اللذات التى تهواها النفوس، مع ستر وتجمل؛ سامحه الله [تعالى]«13» .

ص: 210

وتولى نظرّ الخاص من بعده أخوه الصاحب جمال الدين يوسف ابن القاضى كريم الدين عبد الكريم، وهو مستمر على وظيفته مضافة لنظر الجيش وتدبير الممالك فى زماننا هذا «1» ، إلى أن مات «2» حسبما يأتى ذكره فى مواطن كثيرة من هذا الكتاب [وغيره إن شاء الله تعالى]«3» .

وتوفى الأمير الكبير سيف الدين جانبك بن عبد الله الصوفى الظاهرى صاحب الوقائع والأهوال والحروب، فى يوم الجمعة خامس عشرين «4» [شهر]«5» ربيع الآخر بديار بكر وقطعت رأسه وحملت إلى مصر وطيف بها على رمح ثم ألقيت فى قناة سراب، وقد تقدم ذكر ذلك كله مفصلا فى مواضع كثيرة وما وقع للناس بسببه بالديار المصرية والبلاد الشرقية، غير أننا نذكر هنا أصله ومنشأه إلى أن مات، على طريق الإيجاز:

كان أصله من مماليك [الملك]«6» الظاهر برقوق الصّغار، وترقّى فى الدولة الناصرية [فرج]«7» إلى أن صار أمير مائة ومقدم ألف، ثم ولاه الملك المؤيد رأس نوبة النّوب، ثم نقله بعد مدة إلى إمرة سلاح، ثم أمسكه وحبسه إلى أن أطلقه الأمير ططر بعد موت المؤيد، وأنعم عليه بإمرة وتقدمة ألف ثم خلع عليه باستقراره أمير «8» سلاح بعد مسك قجقار القردمى، ثم خلع عليه بعد سلطنته باستقراره «9» أتابك العساكر بالديار المصرية، ثم أوصاه الملك الظاهر ططر عند موته بتدبير ملك ولده الملك الصالح محمد.

ومات [الملك]«10» الظاهر ططر، فصار جانبك المذكور «نظام الملك» و «مدبر الممالك» ، فلم يحسن التدبير ولا استمال أحدا من أعيان خجدا شيّته من الأمراء، فنفروا

ص: 211

عنه الجميع ومالوا إلى الأمير طرباى وبرسباى حسبما ذكرنا ذلك كله مفصلا مشبعا «1» ؛ ولا زالوا فى التدبير عليه حتى خذلوه فى يوم عيد النحر، بعد ما لبس آلة الحرب هو والأمير يشبك الجكمى الأمير آخور، وأنزلوه من باب السلسلة بإرادته راكبا وعليه آلة الحرب إلى بيت الأمير بيبغا المظفّرى، فحال دخوله إلى البيت قبض عليه وقيّد وحمل إلى القلعة، ثم إلى ثغر الإسكندرية، [بعد أن كان ملك مصر فى قبضته، وأمسك معه يشبك الجكمى أيضا وحبس بثغر الإسكندرية]«2» ، كل ذلك فى أواخر ذى الحجة من سنة أربع وعشرين.

ودام جانبك فى سجن الإسكندرية مكرما مبجلا، إلى أن حسّن له شيطانه الفرار منه فأوسع الحيلة فى ذلك، حتى فر من سجنه «3» فى سنة سبع وعشرين وثمانمائة، فعند ذلك حلّ به وبالناس بلاء الله المنزل المتداول سنين عديدة، ذهب فيها أرزاق جماعة، وحبس فيها جماعة كثيرة من أعيان الملوك وضرب فيها جماعة من أعيان الناس وأماثلهم بالمقارع، وجماعة كثيرة من الخاصكية أيضا ضربوا بالمقارع [والكسّارات]«4» ، وأما ما قاساه الناس من كبس البيوت ونهب أقمشتهم «5» وما دخل عليهم من الخوف والرجيف فكثير إلى الغاية، ودام ذلك نحو العشر سنين، فهذا ما حل بالناس لأجل هروبه.

وأمّا ما وقع له فأضعاف ذلك، فإنه صار ينتقل من بيت إلى بيت والفحص مستمر عليه فى كل يوم وساعة، حتى ضافت عليه الدنيا بأسرها وأراد أن يسلم نفسه غير مرة، وقاسى أهوالا كثيرة إلى أن خرج من مصر إلى البلاد الشامية وتوصل إلى بلاد الروم حسبما حكيناه، وانضم عليه جماعة من التركمان الأمراء وغيرهم، وقاموا

ص: 212

بأمره أحسن قيام حتى استفحل أمره، فغلب خموله وقلة سعادته تدبيرهم واجتهادهم، إلى أن مات.

وكان شجاعا فارسا مفنّنا مليح الشكل رشيق القد كريما رئيسا، إلا أنه كان قليل السعد مخمول الحركات مخذولا فى حروبه، حبس غير مرة ونفد عمره على أقبح وجه، ما بين حبس وخوف وذل وشتات وغربة، إلى أن مات بعد أن تعب وأتعب وأراح بموته «1» واستراح.

وتوفى الأمير سيف الدين تمراز المؤيدى نائب صفد ثم نائب غزة مخنوقا [73] بسجن الإسكندرية، فى «2» ثالث عشرين جمادى الآخرة، وكان أصله من مماليك [الملك]«3» المؤيد شيخ وخاصكيّته، وكان مقربا عنده ثم تغير عليه لأمر اقتضى ذلك، وضربه وأخرجه إلى الشام على إقطاع هيّن بطرابلس، ثم نقل بعد موت [الملك]«4» المؤيد إلى إمرة بدمشق. فلما كانت وقعة تنبك البجاسى وافقه على العصيان، فلما ظفر [الملك]«5» الأشرف بالبجاسى فر تمراز هذا واختفى مدة، ثم ظفر به وسجن بقلعة دمشق، ثم أطلق وأنعم عليه بإقطاع بها، ثم نقله الأشرف إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، ثم أقره فى نيابة صفد فلم تشكر سيرته ورمى بعظائم، فعزله السلطان وولاه نيابة غزة عوضا عن يونس الرّكنى. وانتقل يونس إلى نيابة صفد، فلما ولى غز أساء السيرة [أيضا]«6» وظلم وعسف وأفحش فى القتل وغيره، فطلبه السلطان إلى الديار المصرية وأمسكه وحبسه بالإسكندرية ثم قتله خنقا؛ ولا أعرف من أحوال تمراز غير ما ذكرته أنه مذموم السيرة كثير الظلم.

وتوفى الأمير جانبك بن عبد الله السيفى يلبغا الناصرى المعروف بالثور، أحد

ص: 213

أمراء الطبلخاناه والحاجب الثانى، وهو يلى شدّ بندر جدّة بمكة، فى حادى عشر شعبان. وكان أميرا ضخما متجملا فى مركبه وملبسه ومماليكه، وهو الذي أخرب المسطبة التى كانت ببندر جدة التى كان من طلع عليها «1» واستجار بها لم يؤخذ [منها]«2» ، ولو كان ذنبه ما عسى أن يكون، حتى [و]«3» لو قتل نفسا وطلع فوقها لا يؤخذ منها.

وكانت هذه العادة قديما بجدة، فأخرب جانبك [المذكور]«4» المسطبة المذكورة، ووقع بينه وبين عرب تلك البلاد وقعة عظيمة قتل فيها جماعة. وانتصر جانبك المذكور ومشى له ما قصده من هدم المسطبة المذكورة ومحى أثرها إلى يومنا هذا، يرحمه «5» الله [تعالى]«6» على هذه الفعلة، فإنها من أجمل «7» الأفعال وأحسنها دنيا وأخرى، ولم ينتبه لذلك من جاء «8» قبله من الأمراء حتى وفّقه الله تعالى لمحو هذه السنّة القبيحة التى كانت ثلمة فى الإسلام وأهله «9» . قلت: كم ترك الأول للآخر.

وتوفى الشيخ شمس الدين محمد بن خضر بن داؤد بن يعقوب الشهير بالمصرى، الحلبى الأصل الشافعى، أحد موقّعى الدّست بالقدس [الشريف]«10» ، فى يوم الأحد النصف من [شهر]«11» رجب؛ وكان ديّنا خيرا وله رواية عالية بسنن ابن ماجة وحدّث وأسمع سنين.

وتوفى شيخ الإسلام علامة الوجود علاء الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد ابن محمد بن محمد بن محمد «12» البخارى العجمى الحنفى، الإمام العالم الزاهد المشهور،

ص: 214

فى خامس [شهر]«1» رمضان بدمشق. [وسمّاه بعضهم عليّا وهو غلط]«2» ، ومولده فى سنة تسع وسبعين وسبعمائة ببلاد العجم، ونشأ بمدينة بخارى «3» ، وتفقّه بأبيه وعمه علاء الدين عبد الرحمن، وأخذ الأدبيات والعقليات عن العلامة سعد الدين التفتازانى وغيره، ورحل فى شبيبته فى طلب العلم إلى الأقطار، واشتغل «4» على علماء عصره إلى أن برع فى المعقول والمنقول والمفهوم والمنظوم واللغة العربية، [وترقى فى التصوف والتسليك]«5» وصار إمام عصره، وتوجه إلى الهند واستوطنه مدة «6» ، وعظم أمره عند ملوك الهند إلى الغاية، لما شاهدوه من غزير علمه وعظيم زهده وورعه.

ثم قدم إلى مكة المشرفة وأقرأ «7» بها مدة، ثم قدم إلى الديار المصرية واستوطنها سنين كثيرة وتصدّى للإقراء والتدريس، وقرأ عليه غالب علماء عصرنا من كل مذهب وانتفع الجميع بعلمه وجاهه وماله، وعظم أمره بالديار المصرية بحيث أنه منذ قدم القاهرة إلى أن خرج منها لم يتردد إلى واحد من أعيان الدولة حتى ولا السلطان، وتردد إليه جميع أعيان أهل مصر من السلطان إلى من دونه؛ كل ذلك وهو مكب على الأشغال، مع ضعف كان يعتريه ويلازمه فى كثير من الأوقات، وهو لا يبرح عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والقيام فى ذات الله بكل ما تصل قدرته إليه.

ثم بدا له التوجه إلى دمشق فسار إليها، بعد أن سأله السلطان فى الإقامة «8» بمصر [غير مرة]«9» فلم يقبل؛ وتوجه [74] إلى دمشق وسكنها إلى أن مات بها.

ص: 215

ولم يخلف بعده مثله، لأنه كان جمع بين العلم والعمل مع الورع الزائد والزهد والعبادة والتحرى فى مأكله ومشربه من الشبهة وغيرها، وعدم قبوله العطاء من السلطان وغيره، وقوة قيامه فى إزالة البدع ومخاشنته لعظماء الدولة فى الكلام، وعدم اكتراثه بالملوك واستجلاب خواطرهم، وهو مع ذلك لا يزداد إلا مهابة وعظمة فى نفوسهم، بحيث أن السلطان كان إذا دخل عليه لزيارته يصير فى مجلسه كآحاد الأمراء، من حين يجلس عنده إلى أن يقوم عنه، والشيخ علاء الدين يكلمه فى مصالح المسلمين ويعظه بكلام غير منمّق، خارج عن الحد فى الكثرة، والسلطان «1» سامع له مطيع. وكذلك لما سافر السلطان إلى آمد، أول ما دخل إلى دمشق ركب إليه وزاره وسلّم عليه، فهذا شئ لم نره وقع لعالم من علماء عصرنا جملة كافية. وهو أحد من أدركناه من العلماء الزهّاد العبّاد، رحمه الله [تعالى]«2» ونفعنا بعلمه وبركته.

وتوفى الشيخ الإمام العالم «3» العلامة علاء الدين على بن موسى بن إبراهيم الرومى الحنفى فى قدمته الثانية إلى مصر، فى يوم الأحد العشرين من شهر رمضان بالقاهرة، وكان ولى مشيخة المدرسة الأشرفية المستجدة بخط العنبريّين بالقاهرة، ثم تركها وسافر إلى الروم، ثم قدم بعد سنين إلى مصر ثانيا وأقام بها إلى أن مات.

وكان بارعا فى علوم كثيرة محققا بحاثا إماما فى المعقول والمنقول، تخرّج بالشيخين: الشريف الجرجانى والسعد التفتازانى، إلى أن برع وتصدى للإقراء والتدريس مدة طويلة، ووقع له أمور طويلة مع فقهاء الديار المصرية، وتعصبوا عليه، وهو ينتصب عليهم وأبادهم، لأنه كان عارفا بعلم الجدل، كان يلزم أخصامه بأجوبة مسكتة، ولهذا حطّ عليه بعض علماء عصرنا بأن قال: كان يفحش فى اللفظ، ولم ينسبه إلى جهل بل ذكر عنه [العلم]«4» الوافر، والفضل ما شهدت

ص: 216

به الأعداء؛ ولا أعلم فيه ما ينقصه غير أنه كان مستخفا بعلماء مصر، لا ينظر أحدا منهم فى درجة الكمال.

وكان مما يقطع به أخصامه فى المباحث أنه كان حضر عدة مباحث بين الجرجانى والتفتازانى وغيرهما من العلماء، وحفظ ما وقع بينهم من الأجوبة والأسئلة «1» ، وصار يسأل الناس بتلك الأسئلة والقوم ليس «2» فيهم من هو [فى]«3» تلك الطبقة، فكلّ من سأله سؤالا من ذلك وقف وعجز عن الجواب المرضى وقصر، فيتقدم عند ذلك الشيخ علاء الدين ويذكر الجواب فيعجب كل أحد. وبالجملة فإنه كان عالما مفنّنا، رحمه الله [تعالى]«4» .

وتوفى القاضى ناصر الدين محمد بن بدر الدين حسن الفاقوسى الشافعى، أحد أعيان موقّعى الدّست بالديار المصرية، فى ليلة الاثنين تاسع شوال بالطاعون، عن بضع «5» وسبعين سنة؛ وكان حشما وقورا، وله فضل وأفضال، وحدّث سنين، وسمع منه خلائق، وكان معدودا من الرؤساء «6» بالديار المصرية. وكان مولده بالقاهرة فى ليلة الجمعة خامس عشرين صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة، والفاقوسى نسبة إلى قرية بالشرقية من أعمال مصر تسمى منية الفاقوس.

وتوفى الأمير سيف الدين آقبردى بن عبد الله الفجماسى نائب غزة بها، وكان أصله من مماليك الأمير قجماس والد إينال باى، ترقّى بعده إلى أن صار أمير عشرة بمصر ودام على ذلك سنين كثيرة، إلى أن ولى نيابة غزة بالبذل «7» بعد أن قبض تمراز المؤيدى، فلم تطل مدته ومات، وكان تركى الجنس غير مشكور السيرة.

وتوفى دولات خجا الظاهرى، والى القاهرة ثم محتسبها، بالطاعون فى يوم السبت

ص: 217

أول ذى القعدة. وكان أصله تركى الجنس من أوباش مماليك الظاهر برقوق، أعرفه قبل أن يلى الوظائف وهو من جملة حرافيش المماليك السلطانية، ثم ولّاه [الملك]«1» الأشرف الكشف ببعض الأقاليم فأباد المفسدين وقويت حرمته، فمن يومئذ صار ينقله من وظيفة إلى أخرى، حتى ولى القاهرة مرتين وعدة أقاليم، ثم ولّاه حسبة [75] القاهرة.

وقد تقدم من ذكره نبذة كبيرة فى ترجمة [الملك]«2» الأشرف، وفى الجملة أنه كان ظالما فاجرا فاسقا غشوما شيخا جاهلا «3» ضالا «4» خبيثا، عليه من الله ما يستحقه، ولولا أنه شاع ذكره لكثرة ولاياته وأرّخه جماعة من أعيان المؤرخين، ما ذكرته فى هذا الكتاب ونزّهته عن ذكر مثله.

وتوفى الأمير- ثم القاضى- صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله الفوّىّ الأصل المصرى، كاتب السر الشريف بالديار المصرية، بالطاعون فى ليلة الأربعاء خامس ذى القعدة. [و]«5» مولده فى [شهر]«6» رمضان سنة تسعين وسبعمائة، ونشأ بالقاهرة تحت كنف والده الصاحب بدر الدين، وتزيّا بزى الجند وولى الحجوبية فى دولة [الملك]«7» الناصر فرج، ثم ولى الأستادّارية فى الدولة المظفّرية ثم عزل، ثم أعيد إليها بعد سنين، ثم عزل بأبيه، وصودر ولزم داره سنين طويلة هو ووالده، إلى أن ولاه [الملك]«8» الأشرف بعد سنة خمس وثلاثين حسبة القاهرة.

وأخذ صلاح الدين بعد ذلك يتقرب بالتحف والهدايا للسلطان ولخواصه، إلى أن اختص به ونادمه، وصار يبيت عنده فى ليالى البطالة بالقلعة، وحج أمير الركب

ص: 218

الأول، وعاد فولّاه كتابة السر على حين غفلة، بعد عزل القاضى محب الدين محمد بن الأشقر، من غير سعى، فى يوم الخميس ثانى عشرين ذى الحجة سنة أربعين وثمانمائة، وترك زىّ الجند ولبس زىّ الفقهاء، وصار يدعى بالقاضى بعد الأمير، فباشر كتابة السر بحرمة وافرة وعظم فى الدولة، فلم تطل أيامه ومات فى حياة والده، واستقر والده عوضه فى كتابة السر.

وكان صلاح الدين حشما متواضعا كريما، يكتب المنسوب، إلا أنه كان من الكذبة الذين «1» يضرب بكذبهم المثل، يحكى عنه من ذلك أشياء كثيرة، ورأيت أنا منه نوعا، غير أن الذي حكى [لى]«2» عنه أغرب، وقد جربت أنا كذبه بأنه لا يضر ولا ينفع، وهو أن غالب كذبه كان على نفسه، فيما وقع له قديما وحديثا، فهذا شىء لا يضر أحدا، ولعل الله أن يسامحه فى ذلك.

وتوفى الشهابى أحمد بن [على]«3» ابن الأمير سيف الدين قرطاى بن عبد الله سبط بكتمر الساقى، بالطاعون فى ليلة الاثنين عاشر ذى القعدة. ومولده فى يوم الأحد ثالث عشرين شعبان سنة ست وثمانين وسبعمائة بالقاهرة، ومات ولم يخلف بعده مثله فى أبناء جنسه، لفضائل جمعت فيه، من حسن كتابة ونظم القريض، وحلو محاضرة وجودة مذاكرة؛ وكان سمينا جدا لا يحمله إلا الجياد من الخيل، رحمه الله تعالى «4» . [ومن شعره] «5» :[المجتث]

حبىّ المعذّر وافى «6»

[من]«7» بعد هجر بوصل

ص: 219

وقال:

صف لى عذارى

فقلت: يا حبّ نملى «1»

وله [أيضا]«2» فى مليح يسمى خصيب «3» : [الطويل]

رعى الله أيام الرّبيع وروضها

بها الورد يزهو مثل خدّ حبيبى

وإنّى وحقّ الحبّ «4» ليس ترحّلى

سوى لمكان ممرع وخصيب

وتوفى الأمير إسكندر بن قرا يوسف صاحب تبريز مشتتا عن بلاده بقلعة ألنجا «5» ، ذبحه ابنه شاه قوماط «6» فى ذى القعدة خوفا من شره؛ وملك بعده البلاد أخوه جهان شاه بن قرا يوسف. وكان شجاعا مقداما «7» قويا فى الحروب، أباد قرايلك فى مدة عمره، وتقاتل مع شاه رخ بن تيمور لنك غير مرة، وهو ينهزم على أقبح وجه. وكان إسكندر أيضا على قاعدة أولاد قرا يوسف: لا يتدين بدين، إلا أنه كان أحسن حالا من أخويه شاه محمد وأصبهان؛ وقد مرّ من ذكر إسكندر هذا وإخوته جملة كبيرة تعرف منها أحوالهم.

وتوفى نور الدين على بن مفلح وكيل بيت المال، وناظر البيمارستان [المنصورى]«8» فى يوم الجمعة ثانى عشرين ذى القعدة، بالطاعون. وكان معدودا من بياض الناس «9» ، وله ترداد إلى الرؤساء، غير أنه كان عاريا من العلوم.

ص: 220

وتوفى الأمير الكبير سودون من عبد الرحمن نائب [76] الشام ثم أتابك العساكر بالديار المصرية بطّالا بثغر دمياط فى يوم السبت العشرين من ذى الحجة؛ لم يخلف بعده مثله حشمة ورئاسة وعقلا وتدبيرا وشكالة.

وقد مرّ من ذكره فى واقعة الأمير قانى باى نائب الشام فى الدولة المؤيدية أنه كان نائب طرابلس، ووافق قانى باى المذكور، وانهزم بعد قتل قانى باى إلى قرا يوسف بالشرق، وأنه كان ولى نيابة غزة فى الدولة الناصرية فرج، وتقدمة ألف بالقاهرة، وأنه قدم على الأمير ططر بعد موت المؤيد، واستقر بعد سلطنة [الملك]«1» الأشرف دوادارا كبيرا عوضا عن الأشرف المذكور، ثم نقل إلى نيابة دمشق بعد عصيان تنبك البجاسى فدام مدة يسيرة، ثم نقل إلى أتابكية العساكر بالديار المصرية عوضا عن جارقطلو [بحكم انتقال جارقطلو]«2» إلى نيابة دمشق عوضه، ثم مرض وطال مرضه إلى أن أخرج عنه السلطان إقطاعه وعزله عن الأتابكية، ثم سيّره بعد مدة أشهر إلى ثغر دمياط بطّالا فدام به إلى أن مات. وكان أجلّ المماليك الظاهرية [برقوق]«3» ، وهو أحد من أدركناه من ضخماء الملوك وعظمائهم، مع حسن الشكالة والزى البهيج رحمه الله تعالى.

أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة وعشرون أصبعا؛ مبلغ الزيادة: عشرون ذراعا وخمسة عشر أصبعا «4» .

ص: 221

ذكر سلطنة الملك العزيز [يوسف]«1» ابن السلطان «2» الملك الأشرف برسباى الدّقمافى «3»

السلطان الملك العزيز جمال الدين أبو المحاسن يوسف ابن السلطان الملك الأشرف [سيف الدين أبى نصر]«4» برسباى الدّقماقى الظاهرى الجاركسى، التاسع من ملوك الجراكسة وأولادهم، والثالث والثلاثون من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية، تسلطن بعد موت أبيه بعهد منه إليه، فى آخر يوم السبت ثالث عشر ذى الحجة قبل غروب الشمس بنحو ساعة، ولبس خلعة السلطنة من باب الستارة بقلعة الجبل، وقد تكامل حضور الخليفة والفضاة والأمراء وأعيان الدولة، وبايعه الخليفة المعتضد بالله داؤد وفوّض عليه خلعة السلطنة السواد «5» الخليفتى، وركب من باب الستارة وجميع الأمراء مشاة بين يديه، حتى نزل على باب النصر السلطانى من قلعة الجبل، ودخل إليه وجلس على سرير الملك وعمره يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، وقبّل الأمراء الأرض بين يديه على العادة ونودى بسلطنته بالقاهرة ومصر، ثم أخذ الأمراء فى تجهيز والده فجهز وغسل وكفن وصلى عليه، ودفن بالصحراء حسبما ذكرناه فى ترجمته، ولقبوه بالملك العزيز وتم أمره فى الملك ودقّت الكوسات «6» بالقلعة.

وكان خليفة الوقت يوم سلطنته، المعتضد بالله داؤد العباسى؛ والقضاة: قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن [علىّ] بن حجر الشافعى، وقاضى القضاة بدر الدين محمود العينى الحنفى، وقاضى القضاة شمس الدين محمد البساطى المالكى، وقاضى القضاة محبّ الدين أحمد بن نصر الله البغدادى الحنبلى.

ص: 222

ومن الأمراء أصحاب الوظائف من المقدمين، وغالبهم كان مجردا بالبلاد الشامية، فالذين «1» كانوا بالديار المصرية: الأمير الكبير أتابك العساكر جقمق العلائى، والأمير قراخجا الحسنى، والأمير تنبك من بردبك الظاهرى، والأمير تغرى بردى البكلمشى المعروف بالمؤذى؛ والذين «2» كانوا بالتجريدة بالبلاد الشامية: مقدم العساكر الأمير قرقماس الشعبانى الناصرى أمير سلاح، وآقبغا التّمرازى أمير مجلس، وأركماس الظاهرى الدوادار الكبير، وتمراز القرمشى الظاهرى رأس نوبة النّوب، وجانم الأشرفى الأمير آخور الكبير، ويشبك السّودونى حاجب الحجاب، وخجا سودون السّيفى بلاط الأعرج، وقراجا الأشرفى، لتتمة ثمانية من مقدمى الألوف، فجملة الحاضرين والمسافرين ثلاثة عشر أميرا من المقدمين.

وأما من كان من أصحاب الوظائف من أمراء الطبلخاناه والعشرات: فشادّ الشراب خاناه عظيم المماليك الأشرفية إينال الأبوبكريّ الأشرفى الفقيه العالم، ونائب القلعة تنبك السّيفى نوروز الخضرىّ المعروف بالجقمقى كلا شىء، والحاجب الثانى أسنبغا الناصرى [77] المعروف بالطيّارى، والزّرد كاش تغرى برمش السيفى يشبك بن أزدمر، فهؤلاء وإن كانوا أمراء طبلخاناه وعشرات فمنازلهم منازل مقدمى الألوف، لأن الأعصار الخالية كان لا يلى كلّ وظيفة من هذه الوظائف إلا مقدم ألف، ويظهر ذلك من لبسهم الخلع فى المواسم وغيرها؛ وكان الدوادار الثانى تمر باى السيفى تمربغا المشطوب، ورأس نوبة ثانى طوخ من تمراز الناصرى، والأمير آخور الثانى يخشباى المؤيدى ثم الأشرفى، والخازندار على باى الساقى الأشرفى وهو أمير عشرة، وأستادّار الصحبة مغلباى الجقمقى «3» أمير عشرة، والزمام الطواشى الحبشى جوهر الجلبانى اللالا، والخازندار الطواشى الحبشى جوهر القنقبائى أمير عشرة أيضا، ومقدم المماليك الطواشى الرومى خشقدم اليشبكى أمير طبلخاناه، ونائبه فيروز الرّكنى أمير عشرة.

ص: 223

ومباشرو الدولة كاتب السر الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله الفوّىّ، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل الدمشقى، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، وناظر الخاص الشريف الصاحب جمال الدين يوسف ابن كاتب جكم، والأستادّار جانبك مملوك عبد الباسط صورة- ومعناها أستاذه عبد الباسط، ولولا مخافة أن أتّهم بالنسيان لوظيفة الأستادارية ما ذكرناه هنا- ومحتسب القاهرة القاضى الإمام نور الدين على السّويفى أحد أئمة السلطان، ووالى القاهرة عمر الشّوبكى.

و [من]«1» عاصره من ملوك الأقطار وأمراء الحجاز ونواب البلاد الشامية وغيرها: فممالك العجم بيد القان معين الدين شاه رخ بن تيمور لنك، وهو صاحب خراسان وجرجان وخوارزم وما وراء النهر ومازندران وجميع عراق العجم وغالب ممالك الشرق، إلى دلى من بلاد الهند، وإلى حدود أذربيجان التى كرسيّها مدينة تبريز؛ وصاحب تبريز يومذاك إسكندر بن قرا يوسف، وقد تشتّت عنها منهزما من شاه رخ؛ وقتل فى هذه السنة أخوه أصبهان بن قرا يوسف صاحب بغداد وغالب عراق العرب «2» ، وقد خربت تلك الممالك فى أيامه وأيام أخيه شاه محمد؛ وملوك ديار بكر [من وائل]«3» عدة كبيرة، فصاحب ماردين وآمد وأرزن وأرقنين وغيرهم أولاد قرايلك؛ وحصن كيفا بيد الملك الكامل صلاح الدين خليل الأيوبى، وقلعة أكلّ بيد دولات شاه الكردى، والجزيرة بيد عمر البختىّ، وإقليم شماخى بيد السلطان خليل، والروم بيد ثلاثة ملوك، أعظمهم السلطان مراد بك بن محمد بن عثمان صاحب برصّا، وأدرنا بولى «4» ، وغيرها.

ص: 224

وبجانب آخر: إسفنديار «1» بن أبى يزيد، وباقى أطراف الروم مع السلطان إبراهيم بن قرمان، مثل لارنده وقونية وغيرهما؛ وبلاد المغرب: فصاحب تونس وبجاية وبلاد إفريقية أبو عمرو عثمان بن أبى عبد الله محمد ابن مولاى أبى فارس عبد العزيز الحفصى، وبلاد تلمسان والغرب الأوسط: أبو يحيى بن أبى حمّود، [و] «2» بممالك فاس ثلاثة «3» ملوك: أعظمهم صاحب فاس، وهو أبو محمد عبد الحق بن عثمان بن أحمد بن إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن المرينى، وملك أندلس أبو عبد الله محمد بن الأيسر ابن الأمير نصر ابن السلطان أبى عبد الله بن نصر المعروف بابن الأحمر صاحب غرناطة.

وصاحب مكة المشرفة زين الدين أبو زهير بركات بن حسن بن عجلان الحسينى «4» ؛ وأمير المدينة الشريف إميان بن مانع بن على الحسينى؛ وأمير الينبوع الشريف عقيل بن زبير بن نخبار. وببلاد «5» اليمن: الظاهر يحيى ابن الملك الأشرف إسماعيل من بنى رسول «6» ، وهو صاحب تعزّ وعدن وزبيد وما والاها «7» ؛ وصاحب صنعاء وبلاد صعدة الإمام صلاح الدين محمد؛ وبلاد الفرنج ستّ عشرة «8» مملكة يطول الشرح فى تسميتها «9» ؛ وببلاد الحبشة: الحطىّ الكافر ومحاربه ملك المسلمين شهاب الدين أحمد بن بدلاى «10» ابن السلطان سعد الدين أبى البركات محمد

ص: 225

ابن أحمد بن على بن ناصر الدين محمد بن دلحوى بن منصور بن عمر بن ولشمع «1» الجبرتى «2» الحنفى.

ونواب البلاد الشامية: نائب [78] دمشق الأتابك إينال الجكمى، ونائب حلب حسين بن أحمد البهسنى المدعو تغرى برمش، ونائب طرابلس جلبان الأمير آخور، [وفى معتقده أقوال كثيرة]«3» ، ونائب حماه قانى باى الحمزاوى، ونائب صفد إينال العلائى الناصرى، أعنى السلطان الملك «4» الأشرف إينال؛ ونائب غزة آقبردى القجماسى، ومات بعد أيام؛ ونائب الكرك خليل بن شاهين؛ ونائب القدس طوغان العثمانى؛ ونائب ملطية حسن بن أحمد أخو نائب حلب؛ وحسن الأكبر- انتهى.

قلت: وفائدة ما ذكرناه هنا من ذكر أصحاب الوظائف من الأمراء وغيرهم، يظهر بتغيير الجميع وولاية غيرهم بعد مدة يسيرة فى أوائل سلطنة [الملك]«5» الظاهر جقمق، لتعلم تقلبات الدهر وأن الله على كل شىء قدير.

وأما ذكر ملوك الأطراف وغيرهم فهو نوع استطراد لا يخلو من فائدة، وليس فيه خروج مما نحن بصدده- انتهى.

*** ولما تم أمر السلطان الملك العزيز ونودى بسلطنته وبالنفقة على المماليك السلطانية فى يوم الاثنين خامس عشر ذى الحجة، لكل مملوك مائة دينار، سكن قلق الناس وسرّوا جميعا بولايته، ولم يقع فى ذلك اليوم هرج ولا فتنة ولا حركة، واطمأنت

ص: 226

الناس، وباتوا على ذلك وأصبحوا فى بيعهم وشرائهم «1» ؛ غير أن المماليك صاروا فرقا «2» مختلفة، والقالة موجودة بينهم فى الباطن.

ولما كان يوم الأحد رابع عشر ذى الحجة، حضر الأمراء والخاصكيّة للخدمة بالقصر على العادة، وأنعم السلطان الملك العزيز على الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله بجزيرة الصابونى «3» زيادة على ما بيده، وكتب إلى البلاد الشامية ولجميع الممالك بسلطنته.

ثم فى يوم «4» الاثنين ابتدأ السلطان بنفقة المماليك السلطانية بعد أن جلس بالمقعد الملاصق [لقاعة]«5» الدّهيشة المطل على الحوش السلطانى، وبجانبه الأمير الكبير جقمق العلائى وبقية الأمراء. وشرع السلطان فى دفع النفقة إلى المماليك السلطانية، لكل واحد مائة [دينار]«6» ، كبيرهم وصغيرهم وجليلهم وحقيرهم بالسوية، فحسن ذلك ببال الناس وكثر الدعاء للسلطان وعطفت القلوب على محبته. ثم عيّن للتوجه إلى البلاد الشامية للبشارة الأمير إينال الأحمدى الظاهرى الفقيه أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، وعلى يده مع البشائر كتب للأمراء المجردين بالبلاد الشامية تتضمن موت [الملك]«7» الأشرف وسلطنة ولده الملك العزيز هذا.

ثم قدم رسول الأمير حمزة بن قرايلك صاحب ماردين وأرزن وصحبته شمس الدين القلمطاوى، ومعهما هدية وكتاب يتضمن دخول حمزة [المذكور]«8» فى طاعة السلطان، وأنه أقام الخطبة وضرب السكة إلى السلطان ببلاده، وأنه صار من

ص: 227

جملة نواب السلطان، وكان الأمراء المجردون «1» كاتبوه فى دخوله فى طاعة السلطان فأجاب؛ وفى جملة الهدية دراهم ودنانير بسكة السلطان [الملك]«2» الأشرف برسباى، فخلع على قاصده وأكرمه.

ثم خلع السلطان فى يوم الثلاثاء سادس عشر ذى الحجة على الأمير طوخ مازى الناصرى- ثانى رأس نوبة- باستقراره فى نيابة غزة بعد موت آقبردى القجماسى.

كل ذلك والسلطان يطيل السكوت فى المواكب السلطانية [و]«3» لا يتكلم فى شئ من الأمور، وصار المتكلم فى الدولة ثلاثة أنفس: الأمير الكبير جقمق العلائى، والأمير إينال الأبوبكرى الأشرفى شادّ الشراب خاناه، والزينى عبد الباسط ناظر الجيش؛ فمشى الحال على ذلك أباما ثلاثة «4» .

فلما كان يوم السبت العشرين من ذى الحجة، وقع بين الأمير إينال الأبوبكرى المذكور وبين جكم الخاصكى- خال [الملك]«5» العزيز- مفاوضة آلت إلى شر؛ وابتدأت الفتنة من يومئذ، وعظّم الأمر بينهما «6» من له غرض فى إثارة الفتن لغرض من الأغراض. وكان سبب الشر إنكار جكم على إينال لتحكمه فى الدولة، وأمره ونهيه، وكونه صار يبيت بالقلعة، فغضب إينال أيضا ونزل إلى داره، ومال إليه جماعة كبيرة من إنياته بطبقة الأشرفية. ثم نزل عبد الباسط إلى داره من الخدمة، فتجمع عليه جماعة كبيرة من المماليك الأشرفية وأحاطوا به وأوسعوه سبّا، وربما أراد بعضهم ضربه والأخراق به، لولا ما خلّصه [79] بعض من كان معه من أمراء المؤيدية بأن تضرع للمماليك المذكورين ووعدهم بعمل المصلحة حتى تفرقوا عنه، وتوجه إلى داره على أقبح وجه.

ص: 228

واستمر من هذا اليوم الكلمة مختلفة وأحوال الناس متوقفة، وصار كل من المماليك الأشرفية يريد أن يكون هو المتكلم فى الدولة، ويقدم إنياته ويجعلهم خاصكيّة.

كل ذلك والأمير الكبير جقمق سامع لهم ومطيع، وصار يدور معهم كيف ما أرادوا، وإينال المشدّ يزداد غضبه ويكثر من القالة، لتحكم جكم فى الباطن، والشر ساكن فى الظاهر، والمملكة مضطربة ليس للناس [فيها]«1» من يرجع إلى كلامه.

فلما كان يوم السبت سابع عشرين ذى الحجة أنعم السلطان الملك العزيز على الأتابك جقمق العلائى بإقطاعه الذي كان «2» بيده فى حياة والده، بعد أن سأل السلطان الأتابك جقمق فى ذلك غير مرة، وأنعم بإقطاع الأتابك جقمق على الأمير تمراز القرمشى رأس نوبة النّوب، وهو أحد الأمراء المجردين إلى البلاد الشامية، وأنعم بإقطاع تمراز المذكور على تمرباى التمربغاوى الدوادار الثانى، والجميع تقادم ألوف لكن التفاوت فى كثرة الخراج وزيادة المغلّ فى السنة.

وأنعم بإقطاع تمرباى المذكور على الأمير علىّ باى الأشرفى الساقى الخازندار، وأنعم بإقطاع طوخ مازى الناصرى- المنتقل إلى نيابة غزة قبل تاريخه- على الأمير يخشباى الأشرفى الأمير آخور الثانى، وأنعم بإقطاع يخشباى المذكور على الأمير يلخجا من مامش الساقى الناصرى رأس نوبة، والجميع أيضا طبلخاناة.

وأنعم بإقطاع يلخجا الساقى على السيفى قانى باى الجاركسى وصار أمير عشرة، بعد أن جهد الأتابك جقمق فى أمره وسعى فى ذلك غاية السعى، وأرسل بسببه إلى عبد الباسط وإلى الأمير إينال المشد غير مرة حتى تم له ذلك. وخلع السلطان على الأمير إينال الأبوبكرى المشد باستقراره دوادارا ثانيا عوضا عن تمر باى؛ كل ذلك والقالة موجودة بين جميع العسكر ظاهرا وباطنا.

ص: 229

ثم أصبح من الغد فى يوم الأحد خلع السلطان على الأمير على باى الخازندار، باستقراره شادّ الشراب خاناه، عوضا عن إينال الأبوبكريّ.

ثم فى يوم الاثنين استقر دمرداش الأشرفى، أحد أصاغر المماليك الأشرفية، والى القاهرة عوضا عن [عمر]«1» الشّوبكى، وانفض الموكب ونزل الأتابك إلى جهة بيته.

فلما كان فى أثناء الطريق اجتمع عليه جماعة كبيرة من المماليك الأشرفية وطلبوا منه أرزاقا، فأوعدهم وخادعهم وتخلص منهم، فتوجهوا إلى الزينى عبد الباسط ناظر الجيش فاختفى منهم، وقد صار فى أقبح حال منذ مات [الملك]«2» الأشرف، من الذلة والهوان ومما داخله [من]«3» الخوف من المماليك الأشرفية من كثرة التهديد والوعيد، وقد احتار فى أمره وهم على الهروب غير مرة.

واستهلت سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة يوم الثلاثاء، وقد ورد الخبر بقدوم عرب لبيد إلى البحيرة، فندب السلطان تغرى بردى البكلمشى المؤذى «4» أحد مقدمى الألوف، فخرج من القاهرة فى يوم الجمعة رابع المحرم وصحبته عدة من المماليك السلطانية «5» . وفى هذا اليوم خلع السلطان على خاله جكم باستقراره خازندارا كبيرا عوضا عن على باى الأشرفى، واستمر على إقطاع جنديته من غير إمرة.

ثم فى يوم الاثنين خامس عشر المحرم نزل الطلب إلى شيخ الشيوخ سعد الدين سعد الديرى، وخلع عليه باستقراره قاضى قضاة الحنفية بالديار المصرية بعد عزل قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى، بعد تمنع كبير وشروط منها: أنه لا يقبل رسالة أحد منهم- أعنى أكابر الدولة- وأنه لا يتجوّه عليه فى شىء، وأشياء غير ذلك؛ ونزل إلى داره بالجامع المؤيدى وقد سر الناس بولايته غاية السرور.

ص: 230

وفيه أنعم السلطان على سبعة من الخاصكية، لكل منهم بإمرة عشرة، وهم: قانم من صفر خجا المؤيّدى المعروف بالتاجر أحد الدوادارية، وجكم النّوروزى المجنون، وقانبك الأبوبكريّ الأشرفى الساقى، وجانبك الساقى الأشرفى المعروف بقلق سيز «1» ، وجانم الأشرفى أحد الدوادارية المعروف برأس نوبة سيّدى، وجرباش الأشرفى رأس نوبة [80] الجمدارية المعروف بمشدّ سيّدى، والسابع ما أدرى: أهو جكم خال [الملك]«2» العزيز أو هو آقبردى المظفّرى الظاهرى [برقوق]«3» رأس نوبة الجمدارية؟

وفيه أيضا خلع السلطان على مراد قاصد الأمير حمزة بك بن قرايلك ورسم بسفره وصحبته شمس الدين القلمطاوى أحد موقّعى حلب، وجهز السلطان صحبتهما مبارك شاه البريدى وعلى يده جواب كتاب الأمير حمزة بشكره والثناء عليه، وتشريف له بنيابة السلطنة بممالكه، وفرس بقماش ذهب، وهدية هائلة، ما «4» بين قماش سكندرى وسلاح وغيره، ونسخة يمين، وأجيب الأمراء المجردون أيضا عن كتبهم، ورسم لهم أن يسرعوا فى الحضور إلى الديار المصرية.

وفى هذه الأيام كثر الكلام بين الأمراء والخاصكية بسبب التوجه إلى البلاد الشامية وحمل تقاليد النواب بالاستمرار، إلى [أن كان]«5» يوم السبت تاسع عشر المحرم خلع السلطان على الأمير أزبك «6» السيفى قانى باى «7» أحد أمراء العشرات ورأس نوبة- المعروف بجحا- وعين لتقليد الأمير إينال الجكمى نائب الشأم، باستمراره على عادته، وكان تقدم أن السلطان خلع على الأمير إينال الفقيه بتوجهه إلى نائب حلب، وخلع السلطان على إينال الخاصكى بتوجهه إلى الأمير جلبان نائب طرابلس،

ص: 231

وعلى دولات باى الخاصكى [بالتوجه]«1» إلى قانى باى الحمزاوى نائب حماه، وعلى يشبك الخاصكى بالتوجه إلى إينال العلائى الناصرى نائب صفد، كل ذلك والنواب فى التجريدة صحبة الأمراء المصريين.

[و]«2» فى هذا اليوم حل بالزينى عبد الباسط أمور غير مرضية من بعض المماليك الأشرفية فى وقت الخدمة السلطانية، هذا بعد ما نزل به قبل تاريخه فى هذه الأيام من «3» أنواع من المكاره، ما بين تهديد ولكم وإساءة، احتاج من أجلها إلى بذل الأموال لهم ولمن يحميه منهم ليخلص «4» من شرهم، فلم يتم له ذلك.

ثم فى ثالث عشرين المحرم قدم ركب الحاج إلى القاهرة، وأمير [حاج]«5» المحمل آقبغا من مامش الناصرى المعروف بالتركمانى «6» ، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، بعد أن حل بالحاج من البلاء ما لا مزيد عليه، من أخذهم وأخذ أموالهم ونهيهم، وقد فعلت الأعراب بهم ما فعله التّمريّة «7» فى أهل البلاد الشامية، ومعظم المصيبة كانت بالركب الغزّاوى، فلم يلتفت أحد من أهل الدولة لذلك «8» ، لشغل كل واحد بما يرومه من الوظائف والإقطاعات وغيرها «9» ، ودع الدنيا تخرب ويحصل له مراده.

ثم فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين «10» المحرم قدم إلى القاهرة مماليك نواب البلاد

ص: 232

الشامية، وعلى أيديهم مطالعات تتضمن أنهم ملكوا مدينة أرزنكان «1» وأنه خطب بها باسم [السلطان]«2» الملك الأشرف برسباى، ولم يعلموا إذ ذاك بموته.

ثم فى يوم الخميس أول صفر عملت الخدمة السلطانية ونزل كل واحد إلى داره، فلما كان عبد الباسط بالقرب من باب الوزير تجمع عليه عدة من المماليك الأشرفية وتحاوطوه وأوسعوه سبّا ووعيدا، وهمّوا به، وأراد [بعضهم]«3» ضربه، حتى منعه عنه من كان معه من الأمراء، وتخلص منهم وولى هاربا يريد القلعة، حتى دخلها وهم فى أثره؛ فامتنع بها فأقام بالقلعة يومه كلّه وبات بها وهو يطلب الإعفاء من وظيفتى نظر الجيش والأستادارية.

وأصبح السلطان من الغد جلس بالحوش السلطانى على الدّكّة، وطلع الأمير الكبير جقمق نظام الملك واستدعى عبد الباسط إلى حضرة السلطان، والسلطان على عادته من السكات لا يتكلم فى شىء من أمور المملكة، وليس ذلك لصغر سنّه، وإنما هو لأمر يريده الله تعالى. فلما حضر عبد الباسط كلّمه الأمير الكبير فى استمراره على وظيفته، فشكا «4» له ما يحلّ «5» به، فلم يلتفت إلى شكواه وخلع عليه باستمراره، وعلى مملوك جانبك باستمراره على وظيفته الأستادارية، ونزلا إلى دورهما ومعهما جماعة كبيرة.

ثم فى يوم الأحد رابع صفر ورد على السلطان كتاب الأمير إينال الجكمى نائب الشام بوصوله بالعساكر المصرية والشامية من البلاد النمالية إلى حلب، وأن الأمير حسين بن أحمد المدعو تغرى برمش نائب حلب تأخر عنهم لما بلغه موت [الملك]«6»

ص: 233

الأشرف، وأنه أراد أن يكبس على الأمراء المصريين، فبلغهم ذلك فاحترزوا على نفوسهم [81] منه إلى أن دخلوا إلى حلب.

ثم فى يوم السبت عاشر صفر رسم [السلطان]«1» بأن تقتصر الخدمة السلطانية على أربعة أيام فى الجمعة، وأن تكون الخدمة بالقصر فقط عندما يحضر الأتابك جقمق، وأن تبطل خدمة الحوش لغيبة الأتابك منه، وهذا ابتداء أمر الأتابك جقمق وظهوره فى الدولة، لكثرة من انضم عليه من الطوائف من الأمراء وأعيان المماليك السلطانية.

ثم قدم كتاب نائب حلب يتضمن رحيل العساكر من حلب إلى دمشق فى سادس عشرين المحرم، وأنه قدم إلى حلب بعدهم فى ثامن عشرينه، وأنه كان تخوّف من الأمراء المصريين أن يقبضوا عليه فلهذا تخلف عنهم، وأنه فى طاعة السلطان وتحت أوامره، فلم يجب بشىء لشغل أهل الدولة بما هم فيه من تنافر قلوب بعضهم من بعض، وقد وقع أيضا بين المماليك الأشرفية [وبين خجداشهم، وأعظمهم الأمير إينال الأبوبكريّ الدوادار الثانى.

فلما كان يوم الاثنين ثانى عشر تجمع المماليك الأشرفية] «2» بالقلعة يريدون قتل الأمير إينال الأبوبكريّ الدوادار الثانى «3» [المقدم ذكره]«4» ، ففرّ منهم بحماية بعضهم له، ونزل إلى داره، فوقفوا خارج القصر وسألوا الأمير جقمق بأن يكون هو المستبد فى الأمر والنهى والتحكم فى الدولة، وأن ترفع يد إينال وغيره من الحكم فى المملكة، فأجاب إلى ذلك ووعدهم بكل خير، ونزل. وقد اتسع للأتابك جقمق- بهذا الكلام- الميدان، ووجد لدخوله فى المملكة بابا كبيرا، فإنه كان عظم جمعه قبل ذلك لكنه كان تخشّى كثرة المماليك الأشرفية، فلما وقع الآن بينهم المباينة خفّ عنه أمرهم قليلا وقوى أمره؛ كل ذلك ولم يظهر منه الميل للوثوب على [الملك]«5»

ص: 234

العزيز بالكلية، غير أنه يوافق القوم فى الإنكار على فعل المماليك الأشرفية وكثرة شرورهم لا غير.

ولما كان صباح النهار المذكور، وهو يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر، وقف جماعة كبيرة «1» من الأشرفية تحت القلعة بغير سلاح ووقع بينهم وبين خجداشيّتهم الذين هم من طبقة الأشرفية من إنيات «2» إينال وإخوته، وقعة هائلة بالدبابيس، ثم انفضوا وعادوا من الغد فى يوم الأربعاء إلى مكانهم بسوق الخيل.

فلما وقع ذلك تحقق المماليك القرانيص وقوع الخلف بين المماليك الأشرفية، فقاموا عند ذلك وتجمعوا عند الأمير الكبير، ومعهم الأمير إينال المذكور بإنياته وخجداشيّته من المماليك الأشرفية وهم جمع كبير أيضا، وتكلموا مع الأمير الكبير بالقيام فى نصرة إينال المذكور، وليس ذلك مرادهم وإنما قصدهم غير ذلك، لكنهم لم يجدوا مندوحة لغرضهم أحسن من هذه الحركة، وأظهروا الميل الكلى إلى نصرة إينال، وصاروا له أصدقاء وهم فى الحقيقة أعدى العدى «3» ، فمال الأتابك جقمق إلى نصرة إينال لكوامن كانت عنده من القوم، وقد صار بهذه القضية فى عسكر هائل وجمع كبير من المماليك الظاهرية [برقوق]«4» وهم خجداشيته، والمماليك الناصرية [فرج]«5» والمماليك المؤيدية شيخ والسّيفية وعالم كبير من المماليك الأشرفية أصحاب إينال.

وبقى العسكر قسمين: قسم مع الأمير الكبير جقمق، وهم من ذكرنا ومعظم الأمراء من مقدمى الألوف، وغالب أمراء الطبلخانات والعشرات، ما خلا جماعة من أمراء الأشرفية؛ وقسم آخر بالقلعة عند السلطان الملك العزيز، وهم أكثر المماليك الأشرفية، وعندهم الخليفة والخزائن والزّردخانة، إلا أنهم جهال بمكايد الأخصام

ص: 235

ووقائع الحروب، لم تمر بهم التجارب ولا مارسوا الوقائع. وأعظم من هذا أنهم لم يقرّبوا أحدا من الأكابر وأرباب المعرفة، فضلّوا وأضلوا وذهبوا وأذهبوا وأضعفوا بسوء تدبيرهم قواهم، وتركوا الملك باختلاف آرائهم «1» لمن عداهم، على ما سيأتى بيان ذلك كله فى محله.

هذا، وكل من الطائفتين يدّعى طاعة الملك العزيز غير أن الخصم «2» هو إينال، وقد التجأ إلى الأمير الكبير جقمق نظام الملك فقبله الأمير الكبير بمن معه، وقام فى الظاهر بنصرة إينال أتم قيام وفى الحقيقة إنما هو قام بنصرة نفسه، وقد ظهر ذلك لكل أحد حتى لإينال غير أنه صار يستبعد ذلك لعظم خديعة جقمق له، وأيضا لأنه أحوجه الدهر أن يكون من حزبه، كما قيل:

وما من حبّه أحنو عليه

ولكن بغض قوم آخرين

[82]

ولما وقع ذلك استفحل أمر الأتابك، وتكاثف جمعه، ومعظم من قام فى هذه القضية معه المماليك المؤيّدية، وقد أظهروا ما كان فى ضمائرهم من الأحقاد القديمة فى الدولة الأشرفية، وأخذوا فى الكلام مع الأتابك وتقوية جنابه على الوثوب بالمماليك الأشرفية الذين بقلعة الجبل، وهو يتثاقل عن ذلك حتى يتحقق من أمرهم ما يثق به، وصار يعتذر لهم بأعذار كثيرة: منها قلة المال والسلاح، وأن الذين «3» بقلعة الجبل أقوياء بالقلعة والمال والسلطان والسلاح. فقالوا: هو ما قلت، غير أن هؤلاء جهلة لا يدرون الوقائع ولا مقاومة الحروب ولا أمر العواقب، ونحن أعرف بذلك منهم، وجمعنا يقاتل معك من غير أن تبذل لهم الأموال.

ولا زالوا به حتى أذعن لهم، بعد أن بلغه عن بعضهم أنه يقول عنه: «الأمير

ص: 236

الكبير دقن المرأة» ، وأشياء غير ذلك، كونه لا يوافقهم على الركوب، وأنهم يقولون:

«إن كان الأمير الكبير ما يوافقنا أقمنا لنا أستاذا غيره» .

ولما وافقهم الأمير الكبير على الركوب، أشاروا عليه بعدم الطلوع إلى الخدمة السلطانية من الغد فى موكب يوم الخميس خامس عشر صفر، فقبل منهم ذلك وأصبح يوم الخميس المذكور وقد كثر جمعه، وتحول من داره التى تجاه الكبش على بركة الفيل، إلى بيت نوروز الحافظى تجاه مصلاة المؤمنى، وقد اجتمع عليه خلائق من المماليك من سائر الطوائف وعليهم السلاح الكامل وآلة الحرب. وقبل أن يركب الأمير الكبير جقمق عند وضع رجله فى الركاب قال:«هذا دقن المرأة بيركب [حتى] «1» نبصر إيش تفعل الرجال الفحوله» فصلحوا بأجمعهم: «نقاتل بين يديك إلى أن نفنى أو ينصرك الله على من يعاديك» .

ثم سار بجموعه حتى وافى البيت المذكور فوقف على باب الدار، وقد اجتمع عليه جمع من المماليك والزّعر «2» والعامة، فوعدهم الأمير الكبير بالنفقة والإحسان إليهم، كل ذلك ولم يقع إلى الآن قتال. فلما تحقق المماليك الأشرفية ركوب الأمير الكبير، ورأوهم من أعلى قلعة الجبل، أخرجوا السلطان من الدور إلى القصر المطل على «3» الرّميلة واجتمعوا عليه بالقصر وغيره، وقد لبسوا السلاح أيضا.

وكان كبراء الأشرفية الذين «4» بالقلعة عند الملك العزيز، من أمراء الأشرفية وغيرهم جماعة: منهم الأمير يخشباى الأشرفى الأمير «5» آخور الثانى، وعلى باى شادّ الشراب

ص: 237

خاناة وتنبك النّوروزى المعروف بالجقمقى نائب قلعة الجبل، وخشكلدى من سيّدى بك الناصرى رأس نوبة، وكزل السّودونى المعلم رأس نوبة، وجكم الخازندار خال [الملك]«1» العزيز، وجماعة أخر ممن تأخر فى أمسه من المماليك الأشرفية، ومعظم الخاصكيّة الأشرفية، أصحاب الوظائف وغيرهم، ما خلا من نزل منهم مع الأمير إينال الأبوبكريّ، واستعدوا لقتال الأمير الكبير ومن معه، وباتوا تلك الليلة، بعد أن تناوشوا فى بعض الأحيان بالرمى بالنشاب، ولم يقع قتال فى مقابله.

وأصبحوا فى «2» يوم الجمعة سادس عشر صفر على ما باتوا عليه، واستمر كل طائفة من الفريقين على تعبيتهم إلى بعد صلاة العصر، فزحف بعض «3» أصحاب الأمير الكبير إلى باب القرافة، وهدموا جانبا من سور ميدان القلعة وغيره، ودخلوا إلى الميدان، فنزل إليهم طائفة من السلطانية ركبانا ومشاة وقاتلوهم مواجهة، حتى هزموهم وأخرجوهم من الميدان، وتراموا بالنشاب ساعة فحال بينهم الليل، وبات كل طائفة منهم على حذر. وتوجهت الأشرفية الذين بالقلعة، وفتحوا [باب]«4» الزردخانة السلطانية، وأخذوا من السلاح الذي بها ما أرادوا، ونصبوا «5» مكاحل النفط على سور القلعة، وأخذوا فى أهبة القتال.

حتى أصبحوا يوم السبت سابع عشر صفر وقد استفحل أمر السلطانية من عصر أمسه، فتجمعت الجقمقيّة وابتدأوا بقتال السلطانية، فوقع بين الطائفتين قتال بالنشاب والنفوط، فهلك من العامة خلائق ممن كان من حزب الأمير جقمق؛ كل ذلك وأمر السلطانية «6» يقوى إلى بعيد «7» الظهر، فلاح «8» عليهم الخذلان من غير أمر

ص: 238

يوجب [83] ذلك، ومشت القضاة «1» بين السلطان والأمير الكبير جقمق غير مرة، فى الصلح والكفّ عن القتال وحقن دماء المسلمين، وإخماد الفتنة.

هذا وقد ترجح جهة الأمير الكبير جقمق، وطمعت عساكره فى السلطانية، فقال الأمير الكبير: أصطلح بشرط أن يرسل السلطان إلىّ بأربعة نفر، وهم: جكم خال [الملك]«2» العزيز الخازندار، وتنم الساقى، وأزبك البواب، ويشبك الفقيه الأشرفى الدوادار؛ فأذعن السلطان ومن عنده لذلك بعد كلام كثير، فنزل «3» الأربعة من القلعة، بعد صلاة العصر من يوم السبت المذكور، مع من كان تردد فى الصلح، وساروا حتى دخلوا بيت الأمير الكبير، فحال وقع بصره عليهم قبض عليهم واحتفظوا بهم.

وركب الأمير الكبير فرسه وساروا معه أعيان أصحابه إلى أن صار فى وسط الرّميلة تجاه باب السلسلة، فنزل عن فرسه بعد أن فرش [له]«4» ثوب سرج جوخ، وقبّل الأرض بين يدى السلطان الملك العزيز لكونه أرسل إليه أخصامه، ثم ركب فى أصحابه وعاد إلى بيته بالكبش ومعه المقبوض عليهم، إلى أن نزل بداره فى موكب جليل إلى الغاية.

وأخذ أمر [الأمير]«5» الكبير [جقمق]«6» من هذا اليوم فى زيادة وقوة، وأمر [الملك]«7» العزيز ومماليك أبيه [الأشرفية]«8» فى نقص ووهن «9» وإدبار.

وأصبح بكرة يوم الأحد ثامن عشر صفر أرسل الأمير الكبير إلى السلطان «10»

ص: 239

فى طلب جماعة أخر من المماليك الأشرفية، فنزل إليه الأمير يخشباى الأمير آخور الثانى، والأمير على باى شادّ الشراب خاناه، وهما من عظماء القوم والمشار إليهما من القلعية الأشرفية، وقبّلا يد الأمير الكبير جقمق، فأكرمهما الأمير الكبير ووعدهما بكل خير، ثم أمر فى الحال بطلب [الأمير] الطواشى خشقدم اليشبكى مقدم المماليك السلطانية فحضر إليه وقبّل يده، فأمره الأمير الكبير أن يتقدم بنزول جميع من فى الأطباق من المماليك الأشرفية وهدّده إن لم يفعل ذلك، فاستبعد الناس وقوع ذلك لكثرة المماليك الأشرفية وشدة بأسهم.

فحالما طلع خشقدم وأمرهم بالنزول أجابه الجميع بالسمع والطاعة، ونزل صبيان طبقة بعد طبقة إلى بيت الأمير الكبير، وقد حضر عنده قضاة القضاة الأربعة «1» وأهل الدولة وأعيانها، وحلّفوا الأمير الكبير على طاعة السلطان، ثم حلّفوا المماليك الأشرفية على طاعة الأمير الكبير، وحكم قاضى القضاة سعد الدين [بن]«2» الديرى الحنفى بسفك دم من خالف هذا اليمين.

وعند انقضاء الحلف، أمر الأمير الكبير بنزول جميع المماليك الأشرفية من أطباقهم بالقلعة إلى إسطبلاتهم، ما خلا المماليك الصغار فاعتذروا عن قلة مساكنهم بالقاهرة، فلم يقبل الأمير الكبير أعذارهم وشدّد عليهم، والناس تظن غير ذلك، فخرجوا. وفى الحال أخذوا فى تحويل متاعهم ونزلوا من الأطباق، بعد أن ظن كل أحد منهم أنه لا بد له من إثارة فتنة وشر كبير تسفك فيه دماء كثيرة قبل نزولهم، فلم يقع شىء من ذلك، ونزلوا من غير قتال ولا إكراه؛ وخلت الطباق منهم فى أسرع وقت خذلانا «3» من الله تعالى، وتركوا السلطان والخزائن والسلاح والقلعة، ونزلوا من غير أمر يوجب النزول، وهم نحو الألف وخمسمائة نفر، هذا خلاف من كان انضم عليهم من الناصرية والمؤيدية والسيفية، ولله در القائل:[السريع]

ص: 240

ما يفعل الأعداء فى حاهل

ما يفعل الجاهل فى نفسه

وتعجب الناس من نزولهم، حتى الأمير الكبير جقمق، وصار يتحدث بذلك أوقاتا فى سلطنته، فإنه كان أولا تخوف منهم أن يقبضوا عليه عند طلوعه إلى القلعة غير مرة، ولهج الناس بذلك كثيرا وبلغ الأتابك أنهم يريدون أن يقبضوا عليه وعلى عبد الباسط وعلى الصاحب جمال الدين ناظر الخاص، فقال: وإيش يمنعهم من ذلك؟ وانقطع عن الخدمة السلطانية أياما، حتى كلمه أصحابه فى الطلوع وشجعوه وقالوا له: نحن نطلع فى خدمتك ولا يصيبك مكروه حتى تذهب أرواحنا. كل ذلك قبل أن يقع الشرّ بين الأمير إينال وخجداشيته، فهذا كله ذكرناه لتعرف به شدة بأس المماليك الأشرفية وكثرة عددهم.

[84]

فلما تكامل نزول [المماليك]«1» الأشرفية من الأطباق إلى حال سبيلهم، وهذا أول مبدأ زوال ملك السلطان الملك العزيز [يوسف]«2» ، ومن يومئذ أخذ الأمير إينال الأبوبكريّ الأشرفىّ فى الندم بما وقع منه من الانفراد عن خجداشيته والانضمام على الأتابك جقمق، حتى إنه صار يبكى فى خلواته ويقول:«ليتنى كنت حبست بثغر الإسكندرية، ودام تحكم ابن أستاذى «3» وخجداشيتى. وما عسى خجداشيتى كانوا يفعلون بى؟» . وندم حيث لا ينفع الندم، وربما بلغ الأمير الكبير عنه «4» ذلك فأخذ يحلف له أنه لا يريد الوثوب على السلطنة، ولا خلع الملك العزيز، وأنه لا يريد إلا أن يكون نظام ملكه ومدبّر ممالكه، وأشياء غير ذلك.

قلت: وأنا أظن أن الأمير إينال ما طال حبسه إلا بهذا المقتضى، والله أعلم.

ثم فى يوم الأحد هذا قدم الأمير تغرى بردى البكلمشى المؤذى أحد مقدمى

ص: 241

الألوف من البحيرة بمن كان صحبته من المماليك السلطانية، وكان الأتابك أرسل يستحثه «1» فى القدوم عليه ليكون من حزبه على قتال الأشرفية؛ فتقاعد عنه إلى أن انتهى أمر الوقعة وحضر، فأخذ الأتابك جقمق يوبخه لعدم حضوره، وهو يعتذر بعدم وصول الخبر إليه ويقبّل يده.

ثم ورد الخبر على السلطان بأن العسكر المجرد من الأمراء وصل إلى دمشق فى خامس صفر.

ثم فى يوم الثلاثاء العشرين من صفر شفع الملك العزيز فى خاله جكم ورفقته، فأفرج عنهم الأتابك جقمق وخلع على كل منهم كاملية مخمل بفرو سمور [و]«2» بمقلب سمور.

ثم فى يوم الخميس ثانى عشرين صفر طلع الأمير الكبير جقمق إلى الخدمة السلطانية ومعه سائر الأمراء وأرباب الدولة، ومنع المماليك الأشرفية من الدخول إلى القصر فى وقت الخدمة، إلا من له نوبة عند السلطان من أصحاب الوظائف، وكان الأتابك جقمق شرط عليهم ذلك عند تحليفهم.

وحضر الأمير الكبير الخدمة، وخلع عليه السلطان تشريفا عظيما «3» باستمراره على حاله، ونزل من وقته إلى باب السلسلة، وسكن الحراقة من الإسطبل السلطانى بعد أن نقل إليها قماشه ورخته «4» فى أمسه؛ وبعد أن أمر الأمير يخشباى الأمير أخور الثانى بالنزول من الإسطبل إلى بيته قبل تاريخه، فنزل يخشباى إلى داره، وكانت دار قطلو بغا الكركى التى «5» تجاه دار منجك اليوسفى بالقرب من الجامع الحسينى، وجلس وأغلق عليه باب الدار، ومنع الناس من التردد إليه، وصار كالمرسم عليه؛ وهذا أيضا من أعجب العجب، كون الشخص يكون على إقطاعه ووظيفته ويصير على هذه المثابة.

ص: 242

وسكن الأمير الكبير بالسلسلة وتصرف فى أمور المملكة من غير مشارك، واستبد بتدبير أحوال السلطنة من ولاية الوظائف والإنعام بالإقطاعات والإمريات على من يريد ويختار، فصار الملك العزيز ليس له من السلطنة إلا مجرد الاسم فقط. فعظم ذلك على المماليك الأشرفية، وأنكروا سكنى الأمير الكبير بباب السلسلة، واتفقوا ووقفوا فى جمع كبير بالرّميلة وأكثروا من الكلام فى ذلك، ثم انفضّوا من غير طائل وفى أملهم أن الأمراء إذا قدموا من سفرهم أنكروا على الأمير الكبير ما فعله وقاموا بنصرة [الملك]«1» العزيز، وانتظروا ذلك.

وأخذ الأتابك جقمق فى تحصين باب السلسلة والقلعة وأشحنهما بالسلاح والرجال، وصارت الأعيان من كل طائفة تبيت عنده بباب السلسلة فى كل ليلة، والأمراء والأعيان تتردد «2» إلى خدمته وتركت الخدمة السلطانية، واحتجّ الأمير الكبير بتركها أنه بلغه أن المماليك الأشرفية اتفقوا على قتله إذا طلع إلى الخدمة السلطانية، وجعل ذلك عذرا له عن عدم حضور الخدمة، وصار هو المخدوم والمشار إليه، وتردد مباشرو الدولة إلى بابه وسائر الناس، وتلاشى أمر السلطان [الملك]«3» العزيز إلى الغاية.

ولهج الناس بسلطنة الأتابك جقمق، وشاع ذلك بين الناس، وصار الأتابك كلما بلغه ذلك أنكره وأسكت القائل بذلك [ولسان حاله ينشد] «4» :[الكامل]

[85]

لا تنطقنّ بحادث فلربما

نطق اللسان بحادث فيكون

هذا والأتابك جقمق متخوف فى الباطن من الأمراء المجردين، لكونهم جمعا كبيرا «5» وفيهم جماعة من حواشى [الملك]«6» الأشرف ومماليكه، مثل أركماس

ص: 243

الظاهرى الدوادار الكبير، وتمراز القرمشى رأس نوبة النّوب، وجانم الأشرفى الأمير آخور الكبير، وقراجا الأشرفى، وخجا سودون السّيفى بلاط الأعرج، وفيهم أيضا من تحدثه نفسه بالوثوب على الأمر وهو الأمير قرقماس الشعبانى الناصرى أمير سلاح المعروف بأهرام ضاغ «1» ؛ فلهذا صار الأتابك جقمق يقدم رجلا ويؤخر أخرى.

ثم قدم الخبر بخروج الأمراء من مدينة غزة إلى جهة الديار المصرية، وأن خجا سودون البلاطى أحد مقدمى الألوف تأخر عنهم على عادته فى كل سفرة، فندب الأتابك السيفىّ دمرداش الحسنى الظاهرى برقوق الخاصكى بالتوجه إلى غزة، وعلى يده مرسوم شريف بتوجه خجا سودون إلى القدس بطالا، فمضى دمرداش المذكور وفعل ما ندب إليه.

فلما كان يوم الأربعاء خامس شهر ربيع الأول وصل الأمراء إلى الديار المصرية وطلعوا الجميع إلى الأتابك جقمق، ما خلا الأمير يشبك السّودونى حاجب الحجاب فإنه قدم القاهرة فى الليل مريضا فى محفة إلى داره، ولم ينزل الأتابك إلى تلقى الأمراء المذكورين، وكان أرسل إليهم يخوّفهم من المماليك الأشرفية، وذكر لهم أنهم يريدون الركوب عليهم يوم دخولهم، فدخلوا الجميع بأطلابهم، ولما طلعوا إلى جقمق قام لهم واعتنقهم وأكرمهم غاية الإكرام.

وأرسل إلى الملك العزيز أنه يخرج ويجلس بشباك القصر حتى يقبّلوا له الأمراء الأرض من الإسطبل السلطانى ولا يطلع إليه أحد، ففعل [الملك]«2» العزيز ذلك وجلس بشباك القصر حتى أخذ الأتابك جقمق الأمراء وسار بهم من الحراقة يريد الإسطبل السلطانى والجميع مشاة؛ وقد جلس السلطان [الملك]«3» العزيز بشباك القصر فوقف الأمراء تحت شباك القصر وأومأوا برءوسهم كأنهم قبّلوا له «4» الأرض،

ص: 244

وأحضر إليهم التشاريف السلطانية فى الحال فلبسوها، وقبّلوا الأرض ثانيا كالمرة الأولى، وعادوا راجعين فى خدمة [الأمير الكبير]«1» حتى طلعوا معه إلى الحرّاقة، ثم سلموا عليه وعادوا وركبوا خيولهم وتوجهوا إلى دورهم.

وكنت لما لاقيت الأمير أقبغا التّمرازى أمير مجلس سألنى عن أحوال الأتابك جقمق، فقلت له كلاما متحصله أنه ليس بينه وبين السلطنة إلا أن تضرب له السكة ويخطب باسمه، فاستبعد ذلك لقوة بأس المماليك الأشرفية وعظم شوكتهم، فلما نزل من القلعة وعليه الخلعة قلت له قبل أن يصل إلى داره: كيف رأيت جقمق؟ قال: سلطان على رغم الأنف. ومعنى قوله: «على رغم الأنف» لأنه كان بينهما حضوض أنفس قديمة.

ثم أصبحوا يوم الخميس سادس شهر ربيع الأول حضروا الجميع إلى عند الأتابك جقمق بباب السلسلة، وجلس الأتابك فى الصدر وكل «2» من الأمراء على يمينه وشماله، إلا قرقماس أمير سلاح فإنه زاحم الأتابك جقمق فى مجلسه وجلس معه على فراشه، والأمير جقمق يجذبه إلى عنده ويخدعه بأنه لا يفعل شيئا إلا بمشورته، وأنه قوّى أمره بقدومه وأنه شيخ كبير عاجز عن الحركة واقتحام الأهوال، إلا إن كان بقوة قرقماس المذكور، كل ذلك وهما جلوس على المرتبة، فانخدع قرقماس وطابت نفسه بما سمعه من الأتابك جقمق، أنه ربما [إن]«3» تحرك بعد ذلك بحركة تمت له لضعف جقمق عن مقاومته.

هذا وقد برز الطلب لجماعة من الأشرفية وغيرهم، وجميع من هو بالقلعة من الأعيان، فلما حضروا أشار قرقماس لجماعة من الرءوس نوب، وأمراء جندار ممن حضر المجلس أن اقبضوا على هؤلاء.

وأول ما بدأ برفيقه الأمير جانم الأشرفى الأمير آخور الكبير «4» ، ثم أشار

ص: 245

لواحد بعد واحد إلى أن قبضوا على جماعة كبيرة من الأمراء والخاصكيّة، وهم:

الأمير جانم المقدم ذكره، ويخشباى الأمير آخور الثانى، وعلى باى شادّ الشراب خاناه، وتنبك السيفى نوروز الخضرى [المعروف]«1» بالجقمقى نائب قلعة الجبل، وخشقدم الطواشى الرومى اليشبكى مقدم المماليك [86] ، ونائبه الطواشى فيروز الرّكنى الرومى أيضا، وخشكلدى من سيّدى بك الناصرى أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، وجكم خال [الملك]«2» العزيز، وجرباش الأشرفى أحد أمراء العشرات المعروف بمشدّ سيّدى، وجانبك قلق سيز «3» الساقى أحد أمراء العشرات؛ ومن الخاصكية: تنم الساقى، وأزبك البواب، ويشبك الفقيه؛ وكل من هؤلاء الثلاثة أحد الأربعة المقدم ذكرهم، وتنبك الفيسى المؤيدى رأس نوبة الجمداريّة، وأرغون شاه الساقى، وبيرم خجا أمير مشوى، ودمرداش الأشرفى والى القاهرة، وبايزير خال الملك العزيز، وقيّدوا الجميع.

وفى الحال خلع على الأمير تمرباى التّمربغاوى أحد مقدمى الألوف باستقراره فى نيابة الإسكندرية عوضا عن الزينى عبد الرحمن بن الكويز بحكم عزله، وأمر بالسفر إلى الإسكندرية من يومه، وخلع على قراجا العمرى الخاصكى الناصرى باستقراره فى ولاية القاهرة عوضا عن دمرداش الأشرفى بحكم القبض عليه.

ثم ندب الأمير الكبير الأمير تنبك البردبكى أحد مقدمى الألوف، والأمير أقطوه الموساوى أحد أمراء العشرات، البرقوقيين، فى عدة من المماليك السلطانية، أن يطلعوا إلى القلعة ويقيموا بها لحفظها. وكان تنبك المذكور ولى نيابة القلعة قبل تاريخه سنين كثيرة فى الدوله الأشرفية، فطلع إلى القلعة وسكن بمكانه أولا على العادة.

ثم انفضّ الموكب وقد تزايد عظمة الأمير الكبير جقمق، وهابته النفوس

ص: 246

بما فعله قرقماس بين يديه من القبض على الأمراء المذكورين، وفهم الناس أنه فعل ذلك خدمة للأمير الكبير، وكان غرض قرقماس غير ذلك، فإنه رام نفع نفسه فنفع غيره، فكان حاله [كقول من قال] «1» :

مع الخواطئ سهم [صائب]«2»

ربّ رمية من غير رام

ونزل الأمراء إلى دورهم وقد استخف الناس عقل قرقماس وخفّته وطيشه فى سرعة ما فعله، كل ذلك لاقتحامه على [حب]«3» الرئاسة. ونزل قرقماس إلى داره، وفى زعمه أن جميع من هو بخدمة الأمير الكبير ينقلبون «4» عن الأمير الكبير إليه، ويترددون «5» إلى بابه لأنه هو كان الحاكم فى هذا اليوم، ولم يدر أن القلوب نفرت منه لتحققهم ما يظنوه من كبره وجبروته وبطشه، وقد اعتادوا باين الأمير الكبير وبأخذه لخواطرهم فى هذه المدة وتمسكه عن قبض من كان لهم غرض فى قبضه، وقد صاروا له كالمماليك والخدم لطول تردادهم إليه فى باب السلسلة وغيرها، وقد انتهى أمره وحصل لهم ما كان فى أملهم. وأيضا أنهم لما رأرا قرقماس فعل ما فعل لم يشكّوا فى أمره أنه من جملة من يقوم بنصرة الأتابك وأنه كواحد منهم، فلم يطرق أحد منهم بابه ولم يدخل إليه فى ذلك اليوم إلا من يلوذ به من حواشيه ومماليكه.

وسافر تمرباى نائب الإسكندرية من الغد فى يوم الجمعة، وأصبح فى يوم السبت ثامن [شهر]«6» ربيع الأول أنزل من باب السلسلة من تقدم ذكره من الأمراء الخاصكيّة الممسوكين على البغال بالقيود إلى سجن الإسكندرية، وقد اجتمع لرؤيتهم خلائق لا تحصى وهم قسمان: قسم باك عليهم، وقسم شامت لتقاعدهم عن

ص: 247

القتال فى خدمة ابن أستاذهم الملك العزيز [يوسف]«1» ، وأيضا لما كان يقع منهم فى أيام ابن «2» أستاذهم من التكبر والجبروت.

ثم أرسل الأمير الكبير فى اليوم المذكور إلى الأمراء القادمين من التجريدة بمال كبير له صورة، لا سيما ما حمله إلى قرقماس فإنه كان جملة مستكثرة.

ثم فى يوم الأحد تاسع شهر ربيع الأول خلع على الزينى عبد اللطيف [بن عبد الله]«3» الطواشى الرومى المنجكى المعروف بالعثمانى «4» أحد الجمداريّة باستقراره مقدم المماليك السلطانية، وأنعم عليه بإمرة عشرة لا غير وهو إقطاع النيابة الذي كان بيد فيروز الرّكنى نائب مقدم المماليك، وكانت الخلعة عليه بين يدى العزيز [87] بعثه الأمير الكبير إليه وأمره أن يخلع عليه، واستقر فى نيابة المقدم جوهر المنجكى الحبشى أحد خدام الأطباق الضعفاء الحال ولم تسبق له رئاسة قبل ذلك.

ثم فى يوم الاثنين عاشره ركب السلطان الملك العزيز من القلعة ونزل إلى الميدان، ومعه الزينى عبد الباسط ناظر الجيش وجماعة أخرى من خواصه الأصاغر، وركب الأمير الكبير من الحرّافة وفى خدمته جميع الأمراء مشاة ما عدا أركماس الظاهرى الدوادار الكبير وآقبغا التّمرازى أمير مجلس، وساروا الثلاثة على خيولهم من الإسطبل السلطانى حتى نزلوا إلى الميدان وبه السلطان يسير.

فعندما رأوا الأمراء الملك العزيز ترجّلوا عن خيولهم وقبّلوا الأرض، وتقدم الأمير الكبير جقمق وقبّل رجل السلطان فى الركاب، ثم بعده جميع الأمراء فعلوا مثل فعله، ثم تقدم الأمير يشبك السّودونى حاجب الحجاب قبّل الأرض، وخلع عليه خلعة السفر لأنه كان انقطع عن رفقته لتوعك كان به، وطلع فى هذا

ص: 248

اليوم؛ ثم انصرف الجميع عائدين فى خدمة الأمير الكبير إلى أن أوصلوه إلى سلم الحراقة، ووقفوا له هناك حتى سلّم عليهم، وعادوا إلى دورهم.

وكان سبب تأخر قرقماس عن الطلوع فى هذا اليوم والذي قبله، أمور: منها أنه كان فى نفسه الوثوب على الأمر، وفعل ما فعل من مسك الأمراء وغيرهم ليروج أمره بذلك، فلم ينتج أمره وتقهقر وزادت عظمة الأتابك جقمق، فعزّ عليه ذلك فى الباطن، وكان فى ظنه أنه لا بد أن يملك الديار المصرية من يوم توجّه إلى مكة وحكمها.

فلما عرف منه ذلك تقرب إليه جماعة من الذين يوهمون الناس أنهم صلحاء، ولهم اطلاع على المغيبات، وصاروا يبشرونه بسلطنة مصر، وتخبره جماعة أخر [بمنامات]«1» تدل على قصده فينعم عليهم بأشياء كثيرة.

ثم كلما نظر من «2» يدعى معرفة علم النجوم «3» يسأله عما فى خاطره- وقد أشيع عنه حب الرئاسة- فيبشره الرّمّال أو المنجم أيضا بما يسره من قبله وحسب اجتهاده لأخذ دراهمه.

فكان قرقماس ينتظر موت [الملك]«4» الأشرف [يوما بيوم، فاتفق موت الملك الأشرف برسباى]«5» وهو مسافر، وإلى أن يحضر انتظم أمر الأتابك جقمق وتمّ، فلم يلتفت إلى ما رأى من أمر جقمق بما سبق عنده أنه لا بد له من السلطنة، وأخذ يسلك طريقا تصادف ما هو قصده.

فدخل القاهرة مطلّبا «6» ، فلم يلتفت إليه أحد. وطلع إلى الأتابك جقمق وامتنع من طلوع القلعة إلى الملك العزيز حتى قبّل الأرض من الإسطبل خوفا من أن يقبض عليه، يريد بذلك أن ينتبه إليه الناس، فلم ينظر إليه أحد.

ص: 249

ثم أخذ فى مسك الأمراء، حتى يعظم فى النفوس، فلم يقع ذلك. فانقطع بداره عن الطلوع إلى الأتابك مدة أيام وتعلل بأنه بلغه عن الأمير الكبير وحواشيه ما غيّر خاطره، يظهر ذلك لتتسامع بغضبه الناس ويأتوه ليثور بهم، فلم ينضم إليه أحد؛ فاستدرك فارطه واستمر بداره إلى هذا اليوم.

فلما عاد الأتابك من عند الملك العزيز إلى سكنه بالحرّاقة من باب السلسلة، أرسل إلى الأمير قرقماس المذكور الأمير تمراز القرمشى رأس نوبة النّوب، وقراجا الأشرفى أحد مقدمى الألوف، والزينى عبد الباسط ناظر الجيش، يسألوه عن سبب انقطاعه عن [الطلوع]«1» إلى الأمير الكبير فى هذه الأيام، فذكر لهم أنه بلغه عن حواشى الأمير الكبير من المؤيّدية أنهم يتهموه بالركوب وإثارة الفتن وأنه يريد يتسلطن ولم يكن له علم بشىء من ذلك، فما زالوا به حتى ركب معهم.

وطلع إلى الأمير الكبير بالحرّاقة من الإسطبل السلطانى، فقام الأمير الكبير واعتنقه وأخذ بيده ودخلا مع أعيان الحاضرين إلى مبيت الحرّاقة، وجلسا فى خلوة وتعاتبا قليلا، وأخذ الأمير الكبير يقول له «2» إن قرقماس عنده فى مقام روحه، وأنه لم يتصل إلى هذا الموصل إلا بقوته وكونه معه، وأخذ فى مخادعته والأخذ بخاطره، إلى أن تحقق قرقماس أنه لا يأتيه ما يكره من قبل الأتابك، إلى أن يدبر لنفسه ما يوصله [88] إلى غرضه، ثم حلف له الأتابك على هذا المعنى جميعه وبكى واعتنقه، وخرجا من المبيت وقد صفا «3» ما بينهما ظاهرا، والباطن فلا يعلم ما فيه إلا الله تعالى.

وهو أن قرقماس لم يطلع فى هذا اليوم إلى الأتابك إلا بعد أن عجز عما فى خاطره، فاحتاج إلى المداهنة حتى يطول أمره إلى أن يحصل له مراده، ولم يخف ذلك عن

ص: 250

الأتابك جقمق، غير أنه رأى [أنه]«1» لا يتم أمره فيما يروم إلا بموافقة قرقماس له أولا، ثم بعد ذلك يفعل ما بدا له.

وعندما قام قرقماس من مجلس الأتابك ليتوجه إلى داره، قدم له الأتابك فرسا بقماش ذهب من مراكيبه، فركبه قرقماس ونزل إلى داره، ومعه أيضا الأمير تمراز رأس نوبة النّوب، وقراجا، وهما فى خدمته إلى داره، فأركب قرقماس كلّا منهما فرسا بقماش ذهب.

ثم أخذه القلق وأخذ يدبر فى تأليف المماليك الأشرفية عليه، فرأى أنه لا «2» يتم له ذلك بالعطاء ولا بالملق، لكثرتهم، وإنما يتم له ذلك بسلطنة الأتابك جقمق، لينفر عنه من كان من حزبه من المماليك الأشرفية وينضموا عليه؛ وكان هذا حدسا صائبا «3» ، ووقع له ما أراد، غير أنه استعجل لأمر يريده «4» الله.

فأخذ قرقماس من يومذاك يحسّن للأتابك جقمق توليته السلطنة وخلع [الملك]«5» العزيز، ولا زال يلح عليه فى ذلك وهو يلين تارة ويتوقف تارة؛ وكان هذا الأمر فى خاطر الأتابك وأصحابه غير أنه كان يستعظم الأمر ويخاف من نفور قرقماس عنه، إذا فعل ذلك، وأخذ ينتظر فرصة للوثوب بعد حين، فحرّك الله تعالى قرقماس حتى سأله فى ذلك وألحّ عليه لما فى غرضه فى أيسر مدة، لتعلم أن الله على كل شىء قدير.

ومن يومئذ هان الأمر على الأتابك وأخذ فى أسباب السلطنة، وكتب يطلب صهره القاضى كمال الدين مجمد؟؟؟ بن البارزى من دمشق.

ثم أصبح يوم الخميس ثالث عشر [شهر]«6» ربيع الأول عملت الخدمة السلطانية

ص: 251

وحضرها الأمير الكبير جقمق والأمير قرقماس أمير سلاح المذكور، وعامة الأمراء وأرباب الدولة على العادة.

وكانت الخدمة السلطانية قد تركت من مدة أيام، فأجراهم السلطان الملك العزيز على عادته من السّكات وعدم الكلام، وانفض الموكب.

ثم طلع الأمير قرقماس من الغد فى يوم الجمعة وحضر الصلاة مع السلطان بالمقصورة من جامع القلعة، ولم يطلع الأتابك جقمق. ونزل قرقماس ولم يتكلم مع السلطان كلمة واحدة.

ثم فى يوم السبت عملت الخدمة أيضا بالقصر على العادة، وحضر الأمير الكبير.

ثم فى يوم الاثنين عملت الخدمة أيضا.

كلّ ذلك بتدبير قرقماس، وهو أنه لما علم أن الأمير الكبير جقمق تم أمره ولم يبق له منازع يعيقه عن السلطنة، أخذ فى عمل الخدمة حتى يجد نفسا من الملك العزيز أو من أحد من حواشيه، حتى تصير له مندوحة لمطاولة الأتابك على «1» السلطنة، لأنه ندم على ما تفوّه به ولم يجد لنفسه قوة حتى يرجع عن قوله، لقوة شوكة الأتابك وكثرة أعوانه ممن اجتمع عليه من الطوائف، لا سيما الطائفة المؤيّدية فإنهم صاروا عصبا له وغيريّة على قرقماس، لما كان بين قرقماس وبين الأمير دولات المحمودى المؤيدى من العداوة قديما، لسبب السّكات عنه أليق، ودولات هو يومذاك عين المؤيدية ورئيسهم، غير أن جميع طائفة الناصرية كانت مع قرقماس فى الباطن لكونه خجداشهم، ولكن هم أيضا ممن كان انضم على الأتابك وصار لهم به إلمام كبير، فلم يظهروا الميل لقرقماس فى الظاهر مخافة أن لا يتم أمره وينحط قدرهم عند الأتابك؛ فصاروا يلاحظونه

ص: 252

بالقلب والخاطر لا بالفعل والقيام معه، والأتابك جقمق «1» يعرف جميع ذلك، غير أنه يتجاهل عليهم تجاهل العارف، لقضاء حاجته- انتهى.

ولما عملت الخدمة فى هذه الأيام [و]«2» لم يحصل لقرقماس غرضه، عاد إلى رأيه الأول من الكلام فى سلطنة الأتابك جقمق، وألح عليه حتى أجابه [89] صريحا.

وكان فى هذه الأيام كلّها كلما طلع الأمراء إلى الخدمة السلطانية، ينزل الجميع من القصر بعد انقضاء الخدمة إلى الأمير جقمق ويأكلون السماط عنده.

فلما كان آخر خدمة عملت عند [الملك]«3» العزيز يوسف فى يوم الاثنين سابع عشر [شهر]«4» ربيع الأول، نزل قرقماس من عند السلطان مع جملة الأمراء، واجتمع بالأمير الكبير وألح عليه بأنه يتسلطن فى اليوم المذكور، فلم يوافقه جقمق على ذلك وواعده على يوم الأربعاء تاسع عشر [شهر]«5» ربيع الأول.

ووافقه جميع الأمراء على خلع الملك العزيز وسلطنته، إلا آقبغا التّمرازى فإنه أشار عليه أن يؤخر ذلك ويتجرد إلى البلاد الشامية ويمهدها، كما فعل [الملك]«6» الظاهر ططر ثم يتسلطن، مخافة من عصيان النواب بالبلاد الشامية عليه عقيب سلطنته، قبل أن يرسخ قدمه، فردّ قوله قرقماس، وأشار بسلطنته فى يوم الأربعاء، ووافقه على ذلك جماعة المؤيدية؛ فتم الأمر على ما قاله قرقماس.

وكان الحزم ما قاله آقبغا التّمرازى، وبيانه أنه لولا سعد [الملك]«7» الظاهر جقمق حرّك قرقماس للركوب فى غير وقته، لكان قرقماس انتصر عليه لكثرة من كان «8» انضم عليه من المماليك الأشرفية وغيرهم؛ وأيضا لولا استعجال إينال الجكمى فى صدمته العساكر المصرية، لكان تم أمره لعظم ميل الناس إليه.

ص: 253

وأما تغرى برمش نائب حلب فكان مسكه على غير القياس، فإنه كان تركمانيّا ووافقه جماعة كبيرة من التركمان، مع قوته وكثرة ماله، فكان يمكنه أن يتعب [الملك]«1» الظاهر جقمق بتلك البلاد طول عمره، فلهذا أشار آقبغا التّمرازى بسفره قبل سلطنته. وقد حسب البعيد ونظر فى العواقب، فلم يسمع [الملك]«2» الظاهر له وتسلطن، وقاسى بعد ذلك شدائد وأهوالا، أشرف منها غير مرة على زوال ملكه، لولا مساعدة المقادير وخدمة السعد، لما سبق له فى القدم.

ولما كان يوم الأربعاء تاسع عشر [شهر]«3» ربيع الأول من سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة خلع الملك العزيز يوسف من الملك، وتسلطن الأمير الكبير جقمق العلائى، وتلقب بالملك الظاهر، حسبما يأتى ذكره فى أوائل سلطنته. وكانت مدة سلطنة [الملك]«4» العزيز على مصر أربعة «5» وتسعين يوما وزال بخلعه الدولة الأشرفية، وتمزقت مماليك أبيه وتشتتت فى البلاد سنين، وحبس أعيانهم.

ولم يكن [للملك]«6» العزيز فى السلطنة إلا مجرد الاسم فقط، ولم تطل أيامه ولا تحكّم فى الأمور لتشكر أفعاله أو تذم «7» ، وإنما كان آلة فى الملك والمتصرف غيره، لصغر سنه وعدم أهلية مماليك أبيه.

ولما خلع [الملك]«8» العزيز، أدخل إلى الدور السلطانيه واحتفظ به، وسكن بقاعة البربريّة «9» أشهرا، حتى تسحّب منها ونزل إلى القاهرة واختفى أياما كثيرة، حتى ظفر به وحبس بالقلعة أياما قليلة، ثم نقل إلى سجن الإسكندرية، حسبما يأتى ذكر ذلك [كله]«10» مفصلا فى ترجمة [الملك]«11» الظاهر جقمق [إن شاء الله تعالى]«12» .

ص: 254

واستمر الملك العزيز بسجن الإسكندرية على أجمل حال وأحسن طريقة من طلب العلم وفعل الخير إلى يومنا هذا؛ أحسن الله عاقبته [بمحمد وآله]«1» . وهو ثانى سلطان لقب بالملك العزيز من ملوك مصر، والأول: العزيز عثمان بن [السلطان]«2» صلاح الدين [يوسف]«3» بن أيوب، والثانى: العزيز هذا. وهو أيضا ثانى من سمى يوسف، من ملوك مصر، فالأول:[السلطان]«4» صلاح الدين يوسف هذا، [والله تعالى أعظم]«5» .

ص: 255