المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر مبدأ نكبة أبى الخير النحاس على سبيل الاختصار - النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة - جـ ١٥

[ابن تغري بردي]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الخامس عشر]

- ‌مقدمة

- ‌[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 836]

- ‌[3] ذكر سفر السلطان الملك الأشرف [برسباى] إلى آمد

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 837]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 838]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 839]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 840]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 841]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 825]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 826]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 827]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 828]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 829]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 830]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 831]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 832]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 833]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 834]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 835]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 836]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 837]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 838]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 839]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 840]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 841]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 842]

- ‌ذكر ما وقع له من ابتداء أمره إلى أن تسلطن

- ‌ذكر قتل قرقماس الشعبانى الناصرى

- ‌ذكر خبر عصيان تغرى برمش المذكور

- ‌فرار الملك العزيز

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 843]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 844]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 845]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 846]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 847]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 848]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 849]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 850]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 851]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 852]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 853]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 854]

- ‌ذكر مبدأ نكبة أبى الخير النحاس على سبيل الاختصار

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 855]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 856]

- ‌ابتداء مرض موت السلطان

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 857]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 842]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 843]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 844]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 845]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 846]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 847]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 848]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 849]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 850]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 851]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 852]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 853]

- ‌[ما وقع من الحوادث سنة 854]

- ‌فهرس

- ‌الملوك والسلاطين الذين تولوا مصر من سنة 836- 854 ه

- ‌ الخلفاء العباسيون المعاصرون

- ‌فهرس الأعلام

- ‌فهرس الأمم والقبائل والبطون والعشائر والأرهاط والطوائف والجماعات

- ‌فهرس البلاد والأماكن والأنهار والجبال وغير ذلك

- ‌فهرس الألفاظ الاصطلاحية وأسماء الوظائف والرتب والألقاب التى كانت مستعملة فى عصر المؤلف

- ‌فهرس وفاء النيل من سنة 825 هـ- 854 ه

- ‌فهرس أسماء الكتب الواردة بالمتن والهوامش

- ‌المراجع التى اعتمد عليها المحقق

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ذكر مبدأ نكبة أبى الخير النحاس على سبيل الاختصار

حلب على الأمير على باى العجمى المؤيدى، وأنعم بتقدمة على باى المذكور، على إينال الظاهرى جقمق، وقد نفى قبل تاريخه من الديار المصرية.

‌ذكر مبدأ نكبة أبى الخير النحاس على سبيل الاختصار

ولما كان يوم الأحد حادى عشر جمادى الأولى من سنة أربع وخمسين المذكورة، أحضر السلطان إلى بين يديه مماليك الأمير تنم من عبد الرزاق المؤيدى أمير مجلس، وعيّن منهم نحو العشرة، ورسم بحبسهم بسجن المقشرة، بسبب تجرّئهم على أستاذهم المذكور، وشكواه عليهم، فلما أصبح من الغد فى يوم الاثنين ثانى عشره، انفض الموكب السلطانى، ونزل الأمير تنم المذكور صحبة الأتابك «1» إينال العلائى وغيره من الأمراء، فلما صاروا تجاه سويقة منعم «2» ، احتاطت بهم المماليك [148] السلطانية الجلبان، وخشّنوا لتنم فى القول، بسبب شكواه على مماليكه، فأخذ الأتابك إينال فى تسكينهم، وضمن لهم خلاص المماليك المذكورة من حبس المقشرة، فخلوا عنهم، ورجعوا غارة إلى زين الدين يحيى الأستادّار، فوافوه بعد نزوله من الخدمة بالقرب من جامع الماردانى «3» ، وتناولوه بالدبابيس، فمن شدة الضرب ألقى بنفسه «4» عن «5» فرسه، وهرب إلى أن أنجده الأمير أزبك الساقى، والأمير جانبك اليشبكى الوالى، وأركباه على فرسه، وتوجّها به إلى داره.

فلما فات المماليك زين الدين رجعوا غارة إلى جهة القلعة، ووقفوا تحت الطبلخانات بالصّوّة «6» ، فى انتظار أبى «7» الخير النحاس، وبلغ النحاس الخبر،

ص: 410

فمكث نهاره عند السلطان بالقلعة لا ينزل إلى داره، فشقّ ذلك على المماليك، واتفقوا على نهب دار أبى الخير النحاس، فساروا من وقتهم إلى داره على هيئة مزعجة، فوجدوا باب داره قد غلقه «1» مماليكه وأعوانه، وقد وقفت مماليكه بأعلى بابه لمنع المماليك من الدخول؛ فوقع بينهم بعيض قتال، ثم هجمت المماليك السلطانية على بابه الذي كان من بين السورين، وأطلقوا فيه النار، واحترق الباب وما كان عليه من المبانى، ودخلوا إلى البيت، وامتدت الأيدى فى النهب، فما عفّوا ولا كفّوا، وأخذوا من الأقمشة والأمتعة والصينى والتحف ما يطول الشرح فى ذكره «2» ، واستمرت النار تعمل فى باب أبى الخير، إلى أن اتصلت إلى عدة بيوت بجواره «3» ، ولم تصل النار إلى داره، لأنها كانت فوق الريح، وأيضا كانت بالبعد عن الباب، وهى الدار التى عمّرها قديما صلاح الدين بن نصر الله، وانتقلت بعده إلى أقوام كثيرة، حتى ملكها النحاس هذا وجدّدها وتناهى «4» فيها.

ثم حضر والى القاهرة وغيره لطفى النار، فطفيت بعد جهد؛ ولما انتهى أمر المماليك من النهب، وعلموا أنه لم يبق بالدار ما يؤخذ، توجّهوا إلى حال سبيلهم، وقد تركوا [بيت]«5» النحاس خاليا من جميع ما كان فيه، بعد أن سلبوا حريمه جميع ما كان عليهن «6» من الأقمشة «7» وأفحشوا فى أمرهن، من الهتكة والجرجرة، والهجم عليهن «8» وعادوا من دار النحّاس وشقوا باب زويلة، وقد غلقت عدة حوانيت بالقاهرة، لعظم ما هالهم من النهب فى بيت النحاس، فمضوا ولم يتعرضوا لأحد بسوء، وباتوا تلك الليلة، وأصبحوا يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى المذكور، ووقفوا بالرملة

ص: 411

محدقين بالقلعة، مصممين على الفتك بأبى الخير النحاس، وقد بات النحاس بالقلعة، وطلبوا تسليمه من السلطان، وعزل جوهر النّوروزى «1» عن تقدمة المماليك، وعزل زين الدين الأستادّار عن الأستادّاريّة؛ وانفض الموكب، ونزل كل من الأعيان إلى داره فى خفية، ونزل الأمير تمربغا الظاهرى الدّوادار الثانى، والأمير أزبك الساقى، وبرد بك البجمقدار «2» ، إلى نحو بيوتهم؛ فلما صاروا بالرملة ضربوا عليهم المماليك الجلبان حلقة، وكلموهم فى عودهم إلى السلطان والتكلم معه فى مصالحهم، فقال لهم تمربغا:

«ما هو غرضكم؟» ، قالوا:«عزل جوهر مقدم المماليك وتسليم غريمنا» ، يعنون، النحاس.

فعاد تمربغا إلى القلعة من وقته وعرّف السلطان بمقصودهم، وكان الأمير الكبير إينال قد طلع باكر النهار إلى القلعة [وصحبته الأمير أسنبغا الطيّارى رأس نوبة النّوب؛ وأما الأمير تنم، فإنه كان طلع إلى القلعة]«3» من أمسه وبات بها فى طبقة الزّمام، وأجمع رأيه أنه لا ينزل من القلعة، إلى أن يفرج عن مماليكه المحبوسين، خشية والمماليك الجلبان، فلما طلع الأمير الكبير باكر النهار، شفع فى مماليك الأمير تنم فرسم بإطلاقهم، ثم تكلم الأمير الكبير مع السلطان فى الرضى عن المماليك الجلبان، والسلطان مصمم على مقالته التى قالها بالأمس، أنه يرسل ولده المقام الفخرى عثمان وحريمه إلى الشام، ويتوجه هو إلى حال سبيله، فنهاه الأمير الكبير عن ذلك، وقام السلطان ودخل إلى الدّهيشة، فكلّمه بعض أمرائه أيضا فى أمرهم، فشقّ ثوبه غيظا منه، ونزل الأمير الكبير بمن معه إلى دورهم.

ثم كان نزول تمربغا، والمقصود أن تمربغا لما عاد إلى السلطان، وعرّفه قصد المماليك، وقبل أن يتكلم، سبقه بعض أمرائه، وأظنه الأمير قراجا الخازندار، وقال: «يجبر مولانا [149] السلطان خاطر مماليكه، بعزل المقدم، وإخراج

ص: 412

النحاس من القاهرة» ، فانقاد السلطان إلى كلامه، ورسم بعزل جوهر مقدم المماليك، وتوجّهه إلى المدينة الشريفة، وإخراج النحاس إلى مكة المشرفة؛ وعاد تمربغا إلى المماليك بهذا الخبر، فرضوا، وتوجّه كل واحد إلى حال سبيله؛ وتم ذلك إلى بعد «1» الظهر من اليوم المذكور. فلما كان بعد «2» الظهر، توجه جماعة من المماليك إلى الأمير أسنبغا الطّيّارى رأس نوبة النوب، وكلموه أن يطلع إلى السلطان، ويطلب منه إنجاز ما وعدهم به من إخراج النحاس وعزل المقدم؛ فركب أسنبغا من وقته، وطلع إلى السلطان وكلمه فى ذلك، فلما سمع السلطان مقالة أسنبغا، اشتد غضبه، وطلب فى الحال جوهرا مقدم المماليك ونائبه مرجان العادلى المحمودى، وخلع عليهما باستقرارهما، ورسم أن يكون النحاس على حاله أولا بالقاهرة، ورسم للأمير تغرى برمش اليشبكى الزّردكاش أن يستعد لقتال المماليك الجلبان، فخرج الزّردكاش من وقته ونصب عدة مدافع على أبراج القلعة، وصمم السلطان على قتال مماليكه المذكورين.

وبلغ الأمراء ذلك، فطلع منهم جماعة كبيرة إلى السلطان، وأقاموا ساعة بالدّهيشة، إلى أن أمرهم السلطان بالنزول إلى دورهم، ونزلوا، واستمر الحال إلى باكر يوم الأربعاء رابع عشره، فجلس السلطان بالحوش على الدّكّة، ثم التفت إلى شخص من خاصّكيته، وقال له:«أين الذين قلت عنهم؟» فقال: «الآن يحضروا» ، فقال السلطان:«انزل إليهم وأحضرهم» ، فنزل الرجل من وقته، وقام السلطان إلى الدهيشة، ونزل المذكور إلى المماليك، وأخذ منهم جماعة كبيرة، وطلع بهم إلى السلطان، فلما مثلوا بين يديه قال لهم:«عفوت عنكم، امضوا إلى أطباقكم» ، فلم يتكلم أحد منهم بكلمة.

واستمر أبو الخير بالقلعة خائفا من النزول إلى داره، وقد أشيع سفره إلى الحجاز، إلى أن كان يوم الخميس خامس عشر جمادى الأولى، نزل أبو الخير إلى داره على حين غفلة قبل العصر بنحو خمس درج، وانحاز بداره، وقفل الباب

ص: 413

[عليه]«1» إلى يوم الأربعاء حادى عشرينه؛ فوصل البلاطنسى «2» من دمشق، وطلع إلى السلطان، وشكا «3» على أبى الفتح الطيبى، الذي ولى وكالة بيت مال دمشق بسفارة النحاس، وذكر عنه عظائم، فعزله السلطان، ورسم بحضوره إلى القاهرة فى جنزير، ورسم لأبى الخير النحاس، بالسفر إلى المدينة الشريفة، ونزل البلاطنسى من القلعة بعد أن أكرمه السلطان، وحصل [على]«4» مقصوده من عزل أبى الفتح الطيبى.

ورسم السلطان لأبى الخير المذكور أن يكتب جميع موجوده ويرسله إلى السلطان من الغد، ورسم أيضا بعمل حسابه، وتردد إليه الصفوىّ جوهر الساقى من قبل السلطان غير مرة، وكثر الكلام بسببه، فقلق النحاس من ذلك غاية القلق، وعلم بزوال أمره، فأصبح من الغد، فى يوم الخميس ثانى عشرينه، طلع إلى القلعة فى الغلس من غير إذن السلطان، واختفى بالقلعة فى مكان، إلى أن انفض الموكب، فتحيل حتى دخل على السلطان، واجتمع به، ثم نزل من وقته، وقد أصلح ما كان فسد من أمره، وأنعم له السلطان بموجوده، وترك له جميع ما كان عزم على أخذه، واستمر بداره، وقد هابته الناس وكثر تردادهم إليه، ورسم بإبطال ما كان رسم به من عزل أبى الفتح الطيبى، وإحضاره، وأمر البلاطنسى بالسفر إلى دمشق، بعد أن لهج [الناس]«5» بحبسه فى سجن المقشرة، فتحقق الناس بهذا الأمر ميل السلطان لأبى الخير، وكفّ جميع أعداء النحاس عن الكلام فى أمره مع السلطان.

واستمر بداره والناس تتردد إليه، إلى يوم الخميس تاسع عشرين جمادى الأولى المذكور، رسم السلطان لجوهر الساقى بنزوله إلى أبى الخير النحاس، ومعه نقيب الجيش، ويمضيا به إلى بيت قاضى القضاة شرف الدين يحيى المناوى الشافعى ليدعى عليه

ص: 414

التاجر شرف الدين موسى التّتائى الأنصارى «1» ، بمجلس الشرع، بدعاو كثيرة، ورسم السلطان لجوهر أن يحتاط بعد ذلك على جميع موجوده، فنزل جوهر المذكور من وقته إلى أبى الخير النحاس، وأخرجه من داره ماشيا ممسوكا مع نقيب الجيش، وقد ازدحم الناس على بابه للتفرج عليه والفتك به، فحماه جوهر ومن معه من المماليك [150] منهم، وأخذه ومضى، وانطلقت الألسن إليه بالسب واللعن والتوبيخ، وجوهر يكفهم عنه ساعة بعد ساعة، وهم خلفه وأمامه، وهو مار فى طريقه ماشيا إلى أن وصل بيت القاضى المذكور بسويقة الصاحب، من القاهرة، وأدخلوه إلى المدرسة الصاحبية «2» ، [المجاورة لسكن قاضى الشافعية]«3» محتفظا به، مع رسل الشرع.

وعاد جوهر الساقى وشرف الدين التّتائى إلى الحوطة على موجود أبى الخير النحاس بداره وحواصله، ووجدت العامة بغياب جوهر فرصة إلى الدخول على أبى الخير المذكور، فهجموا عليه وأخذوه من أيدى الرسل، وضربوه ضربا مبرحا، فصاحت رسل الشرع عليهم، وأخذوه من أيديهم؛ وهرّبوه إلى مكان بالمدرسة المذكورة. وأعلموا القاضى بذلك، فأرسل القاضى خلف الأمير جانبك والى القاهرة،

ص: 415

حتى حضر، وقدر على إخراجه من المدرسة المذكورة إلى بيت القاضى، وادعى شرف الدين التّتائى عليه بدعاء يطول الشرح فى ذكرها.

والسبب الموجب لهذه القضية، أن أبا الخير النحاس لما وقع له ما وقع، وأقام بالقلعة من يوم الاثنين، إلى يوم الخميس، ثم نزل قبيل العصر إلى داره، بقى الناس فى أمره على قسمين: فمن الناس من لا سلّم عليه ولاراعاه، ومنهم من صار يترجّيه ويتردد إليه، ودام على ذلك إلى أن طلع أبو الخير إلى السلطان من غير إذن، وأصلح ما كان فسد من أمره، ونزل إلى داره، وقد وقع بينه وبين شرف الدين المذكور.

وسبب ذلك أن شرف الدين كان فى هذه المدة هو رسول النحاس إلى السلطان، ومهما كان للنحاس من الحوائج يقضيها له عند السلطان، فظهر لأبى الخير المذكور، بطلوعه إلى القلعة فى ذلك اليوم، أن شرف الدين ليس هو له بصاحب، وأنه ينقل عنه إلى السلطان ما ليس هو مقصوده، بل ينهى عنه ما فيه دماره، فنزل إلى شرف الدين وأظهر له المباينة، وتوعّده بأمور، إن طالت يده، فانتدب عند ذلك شرف الدين له، ودبر عليه: وساعدته المقادير مع بغض الناس قاطبة له، حتى وقع ما حكيناه وادعى عليه بدعاو كثيرة.

واستمر أبو الخير فى بيت القاضى شرف الدين «1» فى الترسيم، وهو يسمع من العامة والناس من أنواع البهدلة والسب مالا مزيد عليه مواجهة، بل يزدحمون على باب القاضى لرؤيته، وصارت تلك الحارة كبعض المفترجات، لعظم سرور الناس لما وقع لأبى الخير المذكور، حتى النساء وأهل الذمة، وأصبح من الغد نهار الجمعة، طلب السلطان خيوله ومماليكه فطلعوا بهم فى الحال، بعد أن شقوا بهم القاهرة، وازدحم الناس لرؤيتهم، فكانت عدة الخيول نيفا على أربعين فرسا، منها «2» بغال أزيد من عشرة، والباقى خيول خاصّ هائلة، والمماليك نحو [من]«3» عشرين نفرا، واستمر شرف الدين يتتبع آثاره وحواصله،

ص: 416

هذا بعد أن أشهد على أبى الخير المذكور، أن جميع ما يملكه من الأملاك والذخائر والأمتعة والقماش وغير ذلك، هو ملك السلطان الملك الظاهر، دون ملكه، [و]«1» ليس له فى ذلك «2» دافع ولا مطعن.

ثم فى يوم السبت أول جمادى الآخرة، رسم بفتح حواصل أبى الخير، ففتحت، فوجد فيها من الذهب العين نحو سبعة عشر ألف دينار، ووجد له من الأقمشة والتحف والقرقلات «3» التى برسم الحرب، والصينى الهائل، والكتب النفيسة، أشياء كثيرة، ووجد له حجج مكتتبة على جماعة بنحو ثلاثين ألف دينار، فحمل الذهب العين إلى السلطان، وبعض الأشياء المستظرفة، وختم على الباقى، حتى تباع، ودام شرف الدين فى الفحص على موجوده، وأخرج السلطان جميع تعلقات النحاس من الإقطاعات والحمايات والمستأجرات وغير ذلك.

ثم فى يوم الأحد ثانى جمادى الآخرة، خلع السلطان على المقر الجمالى ناظر الخواص، وعلى زين الدين الأستادار، خلعتى الاستمرار، [وخلع]«4» على شرف الدين موسى التّتائى، باستقراره فى جميع وظائف أبى الخير النحاس، وهم عدة وظائف ما بين نظر البيمارستان المنصورى، ونظر الجوالى، ونظر الكسوة، ووكالة بيت المال، ونظر خانقاه سعيد السّعداء، ووكيل السلطان، ووظائف أخر دينية، ومباشرات. ولبس شرف الدين خفّا ومهمازا وتولى جميع هذه الوظائف، عوضا عن أبى الخير دفعة واحدة. قلت:

وما أحسن قول المتنبى فى هذا «5» المعنى: [الطويل]

[151]

بذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد

ص: 417

هذا والفقهاء والمتعممون «1» قد ألزموهم المماليك الجلبان بعدم ركوب الخيل، بحيث أنه لم يستجر أحد منهم أن يعلو على ظهر فرس، إلا أعيان مباشرى «2» الدولة، وجميع من عداهم، قد ابتاعوا البغال، وركبوها، حتى تزايد لذلك سعر البغال إلى أمثال ما كان أولا.

ثم أمر السلطان فى اليوم المذكور، بنقل أبى الخير النحاس من بيت القاضى الشافعى يحيى المناوى، من سويقة الصاحب، إلى بيت المالكى ولىّ الدين السنباطى، بالدرب الأصفر «3» ، ليدّعى عليه عند القاضى المذكور بدعاو، فأخذه والى القاهرة ومضى به من بيت القاضى الشافعى إلى بيت المالكى، وقد أركبه حمارا، وشق به للقاهرة، والناس صفوف وجلوس بالشوارع والدكاكين، وهم ما بين شامت وضاحك ثم باك، فأما الشامت فهو من آذاه وظلمه، والضاحك من كان يعرفه قديما، ثم ترافع عليه، والباكى معتبر بما وقع له من ارتفاعه ثم هبوطه؛ قلت: وقد قيل فى الأمثال: «على قدر الصعود يكون الهبوط» .

وسار به الوالى على تلك الهيئة إلى أن أدخله إلى بيت القاضى المالكى، وادعى عليه السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن مصبح «4» [دلّال العقارات]«5» بدعوى شنعة «6» ، أوجبت وضع الجنزير فى رقبة أبى الخير النحاس، بعد أن كتب محضرا بكفره، وأقام الشريف البينة عند القاضى المالكى بذلك، فلم يقبل القاضى بعض البينة، واستمر أبو الخير فى بيت القاضى فى الترسيم على صفّة، نسأل الله السلامة من زوال النعم، إلى عصر يومه، فنقل إلى حبس الدّيلم على حمار، وفى رقبته الجنزير، ومر بتلك الحالة من

ص: 418

الشارع الأعظم، وعليه من الذل والصغار ما أحوج أعداءه الرحمة عليه، وحاله كقول القائل:[السريع]

لم يبق إلا نفس خافت «1»

ومقلة إنسانها باهت

رثى «2» له الشامت مما به

يا ويح من يرثى له الشامت «3»

قلت: وأحسن من ذا «4» ، [قول] «5» من قال:

يا من علا [و]«6» علوّه

أعجوبة بين البشر

غلط الزّمان برفع قد

رك ثم حطّك واعتذر «7»

ويعجبنى أيضا فى هذا المعنى، قول القائل:[البسيط]

لو أنصفوا أنصفوا، لكن بغوا فبغى

عليهم، فكأن العزّ لم يكن

جاد الزّمان بصفو ثم كدّره

هذا بذاك، ولا عتب على الزمن

وقد سقنا أحوال أبى الخير هذا فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» بأوسع من هذا، [إذ سياق]«8» الكلام منتظم مع سياقه «9» فى محل واحد؛

ص: 419

وأيضا قد حررنا أموره بأضبط من هذا، فى تاريخنا «حوادث الدهور فى مدى الأيام والشهور» «1» إذ هو موضوع لتحرير الوقائع، وما ذكرناه هنا، على سبيل الاستطراد من شىء إلى شىء.

واستمر أبو الخير [بسجن الديلم إلى ما يأتى ذكره]«2» من خروجه من السجن، ونفيه، ثم حبسه، وجميع ما وقع له إلى يومنا هذا، إن شاء الله تعالى.

وفى يوم حبس النحاس بحبس الدّيلم، ظهر القاضى ولىّ الدين السفطى من اختفائه، نحو ثمانية أشهر وسبعة أيام، وطلع من الغد فى يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، إلى السلطان، فأكرمه السلطان، ونزل إلى داره، ثم فى يوم السبت ثامنه، ندب السلطان إينال الأشرفى المتفقّه، ليتوجه إلى دمشق، لكشف أخبار أبى الفتح الطيبى والفحص عن أمره.

وفى هذه الأيام، ترادفت الأخبار من حلب وغيرها بمسير جهان شاه بن قرا يوسف، صاحب تبريز، على [معز الدين]«3» جهان گير بن على «4» بك بن قرايلك صاحب آمد، وأن جهان گير، ليس له ملجأ إلا القدوم إلى البلاد الحلبية مستجيرا بالسلطان، وأن جهان شاه يتبعه حيثما توجه، فتخوّف أهل حلب من هذا الخبر، [152] ونزح منها جماعة كثيرة، وغلا «5» بها ثمن ذوات الأربع، لأجل السفر منها، ومدلول هذه الحكايات طلب عسكر «6» يخرج من الديار المصرية إلى البلاد الشامية، فأوهم السلطان بخروج تجريدة، ثم فتر عزمه عن ذلك.

ص: 420

وفى هذه الأيام أشيع بالقاهرة أن أبا «1» الخير النحاس قد تجنّن فى سجنه، وأنه صار يخلط فى كلامه، قلت: وحقّ له أن يتجنن، فإنه كان فى شىء، ثم صار فى شىء، ثم عاد إلى أسفل ما كان، وهو أنه كان أولا فقيرا مملقا متحيلا على الرزق، دائرا على قدميه فى النّزه والأوقات، ثم وافته «2» السعادة على حين غفلة «3» حتى نال منها حظا كبيرا، ثم حطه الدهر يدا واحدة، فصار فى الحبس، وفى رقبته الجنزير، يترقب ضرب الرقبة، بعد ما وقع له من الإخراق والبهدلة وشماته الأعداء، وأخذ أمواله ما وقع، فهو معذور: دعوه يتجنن ويتفنن فى جنونه «4» .

ثم فى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، استغاث الشريف غريم النحاس على رؤوس الأشهاد، وقال: قد ثبت الكفر على غريمى النحاس، وأقيمت البينة، والقاضى لا يحكم بموجب كفره وضرب رقبته؛ وكان الشريف هذا قد وقف إلى السلطان قبل تاريخه، وذكر نوعا من هذا الكلام، فرسم السلطان للقاضى المالكى، أنه إن ثبت على أبى الخير المذكور كفر، فليضرب رقبته بالشرع، ولا يلتفت لما بقى عنده من مال السلطان، فإن حقّ النبي صلى الله عليه وسلم أبدا من «5» حق السلطان.

فلما سمع الشريف ذلك؛ اجتهد غاية الاجتهاد، والقاضى يتثبت فى أمره؛ ثم بلغ القاضى المالكى مقالة الشريف هذه، فركب وطلع إلى السلطان واجتمع به وكلمه فى أمر النحاس، فأعاد السلطان عليه الكلام كمقالته أولا، وقال له كلاما معناه: أنّ هذا أمره راجع إليك، ومهما كان الشرع افعله معه، ولا تتعوّق لمعنى من المعانى، فقال القاضى المالكى: يا مولانا السلطان، قد فوّضت هذه الدعوى لنائبى القاضى كمال الدين بن عبد الغفار، فهو ينظر فيها بحكم الله تعالى؛ وانفض المجلس.

ص: 421

وكان السلطان قد أرسل فى أول هذا النهار جوهرا التركمانى الطّواشى، إلى أبى الخير النحاس، يسأله عن الأموال، ويهدده بالضرب وبالنكال، فلم يلتفت أبو الخير إلى ما جاء فيه جوهر، وقال: قد أخذ السلطان جميع مالى، وما بقى فهو يباع فى كل يوم.

ثم أخذ أمر الشريف المدّعى على أبى الخير النحاس، فى انحلال، من كون [القاضى]«1» الشافعى أثبت فسق القاضى عز الدين البساطى، أحد نواب الحكم المالكى، وهو أحد من شهد على أبى الخير المذكور لأمر من الأمور، ولا نعرف على الرجل إلا خيرا، ووقع بسبب ذلك أمور، وعقد مجالس بالقضاة، بحضرة السلطان، وآل «2» الأمر [على]«3» أن السلطان حبس الشريف والشهود فى الحبس بالمقشرة، وتراجع أمر أبى الخير النحاس بعد ما أرجف بضرب رقبته غير مرة، ثم رسم السلطان فى اليوم الذي حبس فيه الجماعة المذكورة، بإخراج أبى الخير النحاس من حبس الديلم، وتوجّهه إلى بيت قاضى القضاة الشافعى، فأخرجه الوالى من سجن الديلم مجنزرا بين يديه، وشق به الشارع وهو راكب خلفه، ماش على قدر مشية النحاس، إلى أن أوصله إلى بيت القاضى الشافعى، بخط سويقة الصاحب، وقد ازدحمت الناس لرؤيته، وكان الوقت قبيل العصر بنحو العشر درج؛ ومرّ أبو الخير على مواضع كان يمر بها فى موكبه أيام عزه، والناس بين يديه؛ وبالجملة فخروجه الآن من حبس الديلم، خير من توجهه إليه من بيت القاضى المالكى، والمراد به الآن خير مما كان يراد به بعد «4» ذاك.

ولما وصل أبو الخير إلى بيت القاضى الشافعى، أسلمه والى القاهرة إليه، فأمر القاضى فى الوقت، برفع الجنزير من عنقه، ثم قام بعد ساعة، شخص وادعى على أبى الخير بدعاو كثيرة شنعة، اعترف أبو الخير ببعضها، وسكت عن البعض، فحكم القاضى عند ذلك بإسلامه، وحقن دمه، وفعل ما وجب عليه من التعزير، بمقتضى مذهبه،

ص: 422

وسلمت مهجته، بعد أن أيقن كلّ أحد بسفك دمه، وذهاب روحه، وذلك لعدم أهلية أخصامه، وضعف شوكتهم، وعدم مساعدة المقر الجمالى ناظر الخواص «1» على قتله، فإنه لم يتكلم فى أمره من يوم أمسك [153] ، إلا فيما يتعلق به من شأنه، ولم يداخلهم فيما هم فيه البتة، مع أنه كان لا يكره ذلك، لو وقع، غير أنه لم يتصدّى لهذا الأمر فى الظاهر بالكلية، احتفاظا لرئاسته ودينه. وأنا أقول: لو كان أمر النحاس هذا مع ذلك الجزار جمال الدين الأستادّار، أو غيره من أمثاله، لألحقوه بمن تقدمه من الأمم السالفة، ولكن «لكل أجل كتاب» .

وبعد أن عزّره القاضى، أمر بالترسيم عليه، حتى يتخلص من تعلقات السلطنة.

ثم فى يوم الجمعة ثامن عشرين جمادى الآخرة، رسم السلطان بالإفراج عن الشريف غريم النحاس، وعن الشهود من حبس المقشرة؛ ورسم بنفى النحاس إلى مدينة طرسوس، محتفظا به، وأنه يقيد ويجنزر من خانقاه سرياقوس، فمضى جانبك الوالى إليه، وأخرجه من بيت القاضى الشافعى راكبا على فرس فى الثلث الأول من ليلة السبت تاسع عشرينه، وذلك بعد أن حلف أبو الخير المذكور فى أمسه يمينا مغلظا بمجلس قاضى القضاة شرف الدين يحيى المناوى، أنه لم يبق معه شىء من المال غير مبلغ يسير جدا، برسم النفقة، وأنه صار فقيرا لا يملك ما قلّ ولا جلّ، فسبحان المطلع على السرائر.

وفرغ هذا الشهر والناس فى جهد وبلاء من غلوّ الأسعار فى جميع المأكولات، وتزايد أثمل البغال، لكثرة طلابها من الفقهاء والمتعممين، لشدة المماليك الجلبان فى منعهم من ركوب الخيل.

ثم فى يوم الخميس رابع «2» [شهر]«3» رجب، برز الأمير سونجبغا اليونسى الناصرى من القاهرة، إلى بركة الحاج أمير الرجبية، وسافر فى الركب المذكور الأمير

ص: 423

جرباش المحمدى الناصرى المعروف بكرد أحد مقدمى الألوف وصحبته زوجته خوند شقراء بنت الملك الناصر فرج [وعيالهما]«1» ، وسافر معه أيضا الأمير تغرى برمش السيفى يشبك «2» ابن أزدمر الزّردكاش، أحد أمراء الطبلخانات، وعدة كبيرة من أعيان الناس وغيرهم، وسافر الجميع فى يوم الاثنين ثامنه.

ثم فى يوم الأحد رابع عشر شهر رجب، الموافق لسلخ مسرى أحد شهور القبط، أمر السلطان الشيخ عليّا «3» المحتسب أن يطوف فى شوارع القاهرة، وبين يديه المدراء «4» ، يعلمون الناس بأن فى غد يكون الاستسقاء بالصحراء لتوقف النيل عن الزيادة؛ وأصبح من الغد فى يوم الاثنين خامس عشره، وهو أول يوم من أيام النّسىء «5» ، خرج قاضى القضاة شرف الدين يحيى المناوى، إلى الصحراء ماشيا من داره بين الخلائق من الفقهاء والفقراء والصوفية، إلى أن وقف بين تربة الملك الظاهر برقوق، وبين قبة النصر، قريبا من الجبل، ونصب له هناك منبر، وحضر الخليفة وبقية القضاة، وصاروا فى جمع موفور من العالم من سائر الطوائف، وخرجت اليهود والنصارى بكتبهم، وصلى قاضى القضاة المذكور بجماعة من الناس ركعتين خفيفتين، ودعا الله سبحانه وتعالى، بإجراء النيل، وأمّن الناس على دعائه وعظم ضجيج الخلائق من البكاء والنحيب والتضرع إلى الله تعالى ودام ذلك من بعد طلوع الشمس إلى آخر الساعة الثانية من النهار المذكور، ثم انصرفوا على ما هم عليه من الدعاء والابتهال إلى الله تعالى، فكان هذا اليوم من الأيام التى لم نعهد بمثلها.

ص: 424

وفى هذا اليوم، ورد كتاب خير بك النّوروزى نائب غزة، يتضمن أن أبا الخير النحاس توعّك وأنه يسأل أن يقيم بغزة، إلى أن ينصل من مرضه، ثم يسافر إلى طرسوس، فكتب الجواب إليه بالتوجه إلى طرسوس من غير أن يتعوق اليوم الواحد.

ثم فى يوم الخميس ثامن عشره، خرج الخليفة والقضاة الأربعة «1» إلى الاستسقاء ثانيا، بالمكان المذكور، وخرجت الخلائق، وصلى القاضى الشافعى، وخطب خطبة طويلة، وقد امتلأ الفضاء بالعالم، وطال وقوف الناس فى الدعاء فى هذا اليوم، بخلاف يوم الاثنين. وبينما الناس بدعائهم، ورد منادى البحر، ونادى بزيادة أصبع واحد من النقص، فسرّ الناس بذلك سرورا عظيما، ثم انفضّ الجمع.

وعادوا إلى الاستسقاء أيضا من الغد فى يوم الجمعة ثالث مرة، وخطب القاضى على عادته فتشاءم الناس بوقوع خطبتين فى يوم واحد، فلم يقع إلا الخير والسلامة من جهة الملك، واستمر البحر فى زيادة ونقص إلى يوم الخميس عاشر شعبان الموافق لعشرين توت «2» [154] فأجمع رأى السلطان على فتح خليج السد، من غير تخليق «3» المقياس، وقد بقى على الوفاء ثمانية أصابع لتكملة ستة عشر ذراعا، فنزل والى القاهرة ومعه بعض أعوانه، وفتح سدّ الخليج، ومشى الماء فى الخلجان مشيا هينا، فكان هذا اليوم من الأيام العجيبة، من كثرة بكاء الناس ونحيبهم، ومما هالهم من أمر هذا النيل. وقد استوعبنا أمر زيادته من أوله إلى آخره فى تاريخنا «حوادث الدهور» ، وما وقع بسببه من التوجه إلى المقياس بالقراء والفقهاء [مرارا]«4» وكذلك إلى الآثار النبوى «5» ، وتكالب

ص: 425

الناس على الغلال «1» ، ونهب الأرغفة من على الحوانيت، وأشياء كثيرة من هذا النموذج، يطول الشرح فى ذكر ها هنا «2» .

وفى هذه الأيام، ورد الخبر على السلطان بفرار تمراز البكتمرى المؤيدى المصارع، شادّ بندر جدّة، من جدة، إلى جهة الهند؛ وكان من خبره أن تمراز لما سار واستولى على ما تحصل من البندر من العشر، من الذي خصّ السلطان، بدا له أن يأخذ جميع ما تحصل عنده، ويتوجه إلى الهند عاصيا على السلطان، فاشترى مركبا مروّسا بألف دينار، من شخص يسمى يوسف البرصاوى «3» [الرومى]«4» وأشحنها بالسلاح والرجال، يوهم أنه ينزل فيها ويعود بما تحصل معه إلى مصر، فلما تهيأ أمره، أخذ جميع ما تحصل من المال وهو نحو الثلاثين ألف دينار، وسافر إلى جهة اليمن، وبلغ السلطان ذلك من كتاب الشريف بركات صاحب مكة، فعظم ذلك على السلطان، وعدّد ولاية تمراز هذا من جملة ذنوب النحّاس، ثم طلب السلطان مملوكه الأمير جانبك الظاهرى وخلع عليه باستقراره على التكلم على بندر جدّة، على عادته، ليقوم بهذا الأمر المهم الذي ليس فى المملكة من ينهض به غيره، وأعنى من تمراز، والفحص عليه والاجتهاد فى تحصيله؛ وتجهّز الأمير جانبك، وخرج إلى البندر على عادته، بأجمل زى وأعظم حرمة.

ص: 426

وأما تمراز فإنه لما سافر من بندر جدّة إلى جهة بلاد الهند، صار كلما أتى إلى بلد ليقيم به، تستغيث تجار تلك البلد بحاكمها، ويقولون:«أموالنا بجدّة، ومتى ما علم صاحب جدة أنه عندنا، أخذ جميع مالنا، بسبب دخول تمراز هذا عندنا؛ فإنه قد أخذ مال السلطان وفرّ من جدة» ، فيطرده حاكم تلك البلد. ووقع له ذلك بعدة بلاد، وتحيّر فى أمره، وبلغ مسيره على ظهر البحر ستة أشهر، فعند ما عاين الهلاك، أرمى بنفسه بجميع ما معه فى مركبه، إلى مدينة كالكوت، وحاكم كالكوت سامرىّ، وجميع أهل البلد سمرة، وبها تجار غير سمرة، وأكثرهم من المسلمين، فثار «1» التجار، واستغاثوا بالسامرىّ، وقالوا له مثل مقالة غيرهم «2» ، كل ذلك مراعاة لجهة جانبك نائب جدّة.

وكنت أستبعد أنا ذلك، إلى أن أوقفنى مرة الأمير جانبك المذكور، على عدة مطالعات، وردت عليه من السامرى المذكور، وكلّ كتاب منهم، يشتمل على نظم ونثر وكلام فحل فائق، لا أدرى ذلك لفضيلة السامرى أو من كتّابه، وفى ضمن بعض الكتب الواردة صفة قائمة مكتوب «3» فيها [عدة]«4» الهدية التى أرسلها صحبة الكتاب المذكور، والقائمة خوصة، لعلها من ورق شجر جوز الهند، طول شبر ونصف، فى عرض إبهام، مكتوب عليها بالقلم الهندى خط «5» باصطلاحهم، لا يعرف يقرأه إلا أبناء جنسهم، فى عاية الحسن والظرف- انتهى.

ولما تكلم التجار المسلمون وغيرهم مع السامرى «6» فى أمر تمراز، أراد السامرى مسك تمراز، فأحس تمراز بذلك، فأرسل إلى السامرى هدية هائلة، فأعاد عليه السامرى الجواب ب:«إن التجار يقولون إن معك مال السلطان» ، فقال تمراز: «نعم،

ص: 427

أخذت المال لأشترى به [للسلطان]«1» فلفلا» ، فقال له السامرى:«اشتر «2» به فى هذا الوقت، واشحنه فى مراكب التجار» ، فاشترى به «3» تمراز الفلفل وأشحنه فى مركبين للتجار، والباقى أشحنه فى المركب المروّس الذي تحته، وسار تمراز وقصد بندر جدّة، إلى أن وصل باب المندب من عمل اليمن، عند مدينة عدن، فأخذ المركبين المشحونين بالفلفل [155] وتوجّه بهما إلى جزيرة مقابلة الحديدة تسمى كمران «4» ، فحضر أكابر الحديدة إلى عند تمراز المذكور، وحسنوا له أخذ مملكة اليمن جميعها، فمال تمراز إلى ذلك، وخرج إلى بلدهم وأخذ معه جميع ما «5» كان له بالمركب.

ثم قال له أهل الحديدة: «لنا عدوّ، وما نقدر نملك اليمن حتى ننتصر عليه، وبلد العدو تسمى سحيّة» «6» ، فأجمع تمراز على قتال المذكورين، وركب معهم وقصد عدوّهم.

والتقى «7» الجمعان، فكان بينهم وقعة قتل فيها تمراز المذكور، وقتل معه جماعة من أصحابه، وسلم ممن كان معه شخص من المماليك السلطانية، يسمى أيضا تمراز [وهو حتى إلى يومنا هذا. فلما بلغ الأمير جانبك موت تمراز]«8» ، أرسل شخصا من

ص: 428

الخاصكية «1» الظاهرية ممن كان معه بجدة، يسمى تنم رصاص «2» ، ومعه كتب جانبك المذكور إلى الحديدة، بطلب ما كان مع تمراز جميعه، فتوجّه تنم إلى الحديدة، فتلقاه أهلها بالرحب والقبول، وسلموه جميع ما كان مع تمراز، والمركب المروّس وغير ذلك.

فعاد تنم بالجميع إلى جدة، بعد أن استبعد كل أحد رجوع المال، فأرسل الأمير جانبك يخبر السلطان بذلك كلّه، فلما ورد عليه هذا الخبر، سربه وشكر جانبك المذكور على ذلك- انتهى «3» .

ثم فى يوم الأربعاء، سابع شهر رمضان، وصل الأمير تنبك البردبكى المعزول عن حجوبية الحجاب قبل تاريخه، من ثغر دمياط، بطلب من السلطان، وطلع إلى القلعة وقبّل الأرض بين يدى السلطان، ووعد بخير، ورسم له بالمشى فى الخدمة السلطانية على عادته أولا، لكنه لم ينعم عليه بإقطاع ولا إمرة.

وفى هذه الأيام، رسم السلطان لنائب طرسوس بالقبض على أبى الخير النحاس، وضربه على سائر جسده خمسمائة عصاة، وأن يأخذ جميع ما كان معه من المماليك والجوارى؛ وخرج المرسوم بذلك على يد نجّاب، ووقع ما رسم به السلطان.

ثم فى يوم الاثنين سادس [عشرين]«4» شهر رمضان، ورد الخبر من الشأم بضرب رقبة أبى الفتح الطيبى، أحد أصحاب أبى الخير النحاس؛ بحكم القاضى المالكى بدمشق، فى ليلة الأربعاء رابع [عشر] شهر رمضان المذكور، بعد أن ألغى حكم القاضى برهان الدين إبراهيم السوبينى الشافعى، بعد عزله بعد أمور وقعت حكيناها فى الحوادث «5» .

ثم فى يوم الاثنين سابع [عشر] شوال؛ برز الأمير تمربغا الظاهرى الدّوادار

ص: 429

الثانى، أمير حاج المحمل، بالمحمل، إلى بركة الحاج، وأمير الركب الأول خير بك الأشقر المؤيدى أحد أمراء العشرات، وكان الحج قليلا جدا فى هذه السنة، لعظم الغلاء بالديار المصرية وغيرها.

ثم فى يوم الخميس خامس ذى القعدة، برز المرسوم الشريف باستقرار الأمير جانبك التاجىّ «1» المؤيدى نائب بيروت، فى نيابة غزة، بعد عزل خيربك النوروزى عنها، وتوجهه إلى دمشق بطالا.

ثم فى يوم الاثنين سادس عشر ذى القعدة، ورد الخبر على السلطان بموت الأمير تغرى برمش الزردكاش بمكة المشرفة؛ وكان المخبر بموته، جانبك الظاهرى الخاصكى البواب [عفريت]«2» ، فأنعم السلطان فى يوم الخميس تاسع عشره، على السيفى دقماق اليشبكى، الخاصّكى، بإمرة عشرة، من إقطاع تغرى برمش الزردكاش، وأنعم بباقيه على الأمير قراجا الظاهرى الخازندار، زيادة على ما بيده ليكمل ما بيده إمرة طبلخاناة؛ وأنعم بإقطاع دقماق، ربع تفهنة «3» ، على جانبك الأشرفى الخازندار الخاصكى، وهو بوم ذاك من جملة الدّوادارية.

ثم خلع السلطان فى يوم الاثنين ثالث عشرينه، على دقماق المذكور، باستقراره زرد كاشيّا كبيرا، عوضا عن تغرى برمش المذكور، فأقام دقماق فى الزّردكاشيّة خمسة أيام، وعزل عن الوظيفة، واسترجع السلطان منه الإمرة المنعم عليه بها من إقطاع تغرى برمش وأعيد إليه إقطاعه القديم، وقد ذكرنا سبب عزله فى «حوادث الدهور»

ص: 430

[156]

مفصلا «1» ، واستقر الأمير لاجين الظاهرى زردكاشا، ولما أعيد إلى دقماق إقطاعه القديم، صار جانبك الأشرفى الخازندار بلا إقطاع، لأن السلطان كان أنعم بإقطاعه على جانبك الظاهرى البواب القادم من مكة، وساعد جانبك الأشرفىّ جماعة من الأعيان فى رد إقطاعه الأول عليه، أو ينعم عليه السلطان بالإمرة المسترجعة من دقماق، فلم يحسن ببال السلطان أخذ الإقطاع من جانبك الظاهرى؛ فحينئذ لزمه أن يعطى جانبك الخازندار هذه الإمرة المذكورة فأنعم عليه بها، فجاءت «2» جانبك السعادة بغتة، من غير أن يترشح لذلك قبل تاريخه. وخلع السلطان على السيفى قايتباى الظاهرى الخاصكى باستقراره دوادارا، عوضا عن جانبك الخازندار المذكور، فإنه كان بقى من جملة الدوادارية، غير أنه كان لا يعرف إلا بالخازندار، [و]«3» الظريف إلى يومنا هذا.

ثم فى يوم الخميس ثالث ذى الحجة، خلع السلطان على القاضى ولىّ الدين الأسيوطى «4» باستقراره فى [مشيخة]«5» المدرسة الجمالية بعد موت ولى الدين السّفطى.

ثم فى يوم الأحد ثالث عشر ذى الحجة، رسم السلطان بالإفراج عن الأمير يشبك الصوفى المؤيّدى المعزول عن نيابة طرابلس، من سجن الإسكندرية وتوجّهه إلى ثغر «6» دمياط بطّالا.

وفى يوم الاثنين رابع عشره، وصل كتاب الناصرى محمد بن مبارك نائب البيرة، يخبر أنه ورد عليه كتاب الأمير رستم، مقدم عساكر جهان شاه [بن]«7» قرا يوسف،

ص: 431