الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 854]
السنة الثالثة عشرة من سلطنة الملك الظاهر جقمق على مصر وهى سنة أربع وخمسين وثمانمائة.
فيها كان الشراقى العظيم «1» بمصر، والغلاء المفرط المتداول إلى سنة سبع وخمسين، وكان ابتداء الغلاء من السنة الخالية، لكنه عظم فى هذه السنة بوقع الشراقى، وتزايد، وبلغ سعر القمح إلى ألفى درهم الأردب، والحمل التبن إلى سبعمائة درهم، وقس على ذلك حسبما نذكره فى وقته، على طول السنين.
[فيها]«2» توفى المسند «3» المعمر شمس الدين محمد بن الخطيب عبد الله الرشيدى، الشافعى، خطيب جامع الأمير حسين بحكر النّوبى «4» خارج القاهرة، فى يوم الجمعة حادى عشر شهر [ربيع الأول، ومولده فى ليلة رابع عشر]«5» شهر رجب سنة تسع وستين وسبعمائة، وكانت له مسموعات كثيرة، وحدّث سنين وتفرّد بأشياء كثيرة، ولنا منه إجازة، وكان شيخا منوّر الشيبة فصيحا مفوها خطيبا بليغا، رحمه الله.
وتوفى الأمير سيف الدين شاد بك بن عبد الله الجكمى، أحد مقدمى الألوف بديار مصر، ثم نائب الرّها، ثم حماة، بطالا بالقدس، بعد مرض طويل، فى يوم الأربعاء ثانى شهر ربيع الأول؛ وكان أصله من مماليك الأمير جكم من عوض نائب حلب، وتنقل فى الخدم من بعده، إلى أن صار بخدمة الأمير ططر، فلما تسلطن ططر، قرّبه وأنعم عليه، ثم تأمّر عشرة بعد موته، وصار من جملة رؤوس النوب، ثم
صار أمير طبلخاناة، ثم ثانى رأس نوبة، ثم ولى نيابة الرّها، ثم عزل بعد سنين وصار بالقاهرة على طبلخاناته، إلى أن أنعم عليه الملك الظاهر جقمق، بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، فى أوائل دولته، ثم نقله إلى نيابة حماة بعد سنين، فلم تطل مدته على نيابة حماة وعزل وتوجه إلى القدس بطّالا ثم تكلّم فيه، فقبض عليه وحبس مدة ثم أطلق وأعيد إلى القدس بطّالا، إلى أن مات. وكان متوسط السيرة [غير أنه كان قصيرا جدا]«1» وعنده سرعة حركة وإقدام، [متوسط السيرة فى فروسيته وأفعاله]«2» ، وله وجه فى الدول، رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير سيف الدين على باى من دولات باى العلائى الساقى الأشرفى، فى يوم الثلاثاء تاسع عشرين شهر ربيع الأول، وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى.
وكان أصله من مماليك الملك الأشرف برسباى، اشتراه فى سلطنته وربّاه وأعتقه، وجعله خاصكيّا، ثم ساقيا، ثم أمّره عشرة، وجعله خازندارا كبيرا، بعد إينال الأبوبكريّ الأشرفى، بحكم انتقاله إلى المشدّيّة، بعد قراجا الأشرفى، بحكم انتقاله إلى «3» تقدمة ألف، ودام علىّ باى على ذلك، إلى أن أنعم عليه الملك العزيز يوسف بإمرة طبلخاناة وجعله شادّ الشراب خاناة، بعد إينال الأبوبكريّ أيضا، بحكم انتقال [إينال]«4» إلى الدوادارية الثانية، بعد تمرباى التّمربغاوى المنتقل إلى تقدمة ألف، فلم تطل مدة على باى [بعد ذلك]«5» ، وقبض عليه مع من أمسك من خجداشيّة الأشرفية وغيرهم «6» وحبس سنين، [201] ثم أطلق وأنعم عليه بإمرة بالبلاد الشامية، وقدم القاهرة، [ثم]«7» حج وعاد إلى دمشق، ثم قدم القاهرة ثانيا، ودام بها إلى أن أنعم عليه السلطان بإمرة عشرة، ودام على ذلك إلى أن مات فى التاريخ المذكور. وكان
شابا مليح الشكل طوالا عاقلا عارفا بأنواع الفروسية خصيصا عند أستاذه الملك الأشرف إلى الغاية، لجمال صورته ولحسن سيرته، وأنعم السلطان بإقطاعه بعد موته على خجداشه تمراز الأشرفى الزّردكاش، فما شاء الله كان.
وتوفى الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم [ابن أبى نصر محمد]«1» الدمشقى الحنفى المعروف بابن عرب شاه [وبالعجمى أيضا] ، «2» فى القاهرة بخانقاه سعيد السعداء فى يوم الاثنين خامس عشر شهر رجب، غريبا عن أهله وأولاده. سألته عن مولده فقال: فى ليلة الجمعة داخل دمشق، فى الخامس والعشرين من ذى القعدة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. ونشأ بدمشق وطلب العلم ثم خرج إلى بلاد العجم فى كائنة تيمور وأقام بتلك البلاد سنين «3» كثيرة، ثم رحل إلى الروم، ثم قدم دمشق وتردد إلى القاهرة، إلى أن مات بعد أن ولى عدة وظائف دينية وولى قضاء حماة فى بعض الأحيان.
وكان إماما بارعا فى علوم كثيرة مفننا فى الفقه والعربية، وعلمى المعانى والبيان والأدب والتاريخ، وله محاضرة حسنة ومذاكرة «4» لطيفة مع أدب وسكون وتواضع، وله النظم الرائق الفائق الكثير المليح «5» ، وكان يقول الشعر الجيد باللغات الثلاث:
العربية والعجمية والتركية، وله مصنّفات كثيرة مفيدة فى غاية الحسن، ولما استجزته كتب لى بخطه بعد البسملة:
«الحمد لله الذي زيّن مصر الفضائل بجمال يوسفها العزيز، وجعل حقيقة مجاز أهل الفضل، فحلّى به كل مجاز ومجيز، أحمده حمد من طلب إجازة كرمه فاجتاز، «6» وأشكره شكرا أوضح لمزيد نعمه علينا سبيل المجاز، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، إله يجيب سائله ويثيب آمله، ويطيب لراجيه نائله، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، سيد من روى عن ربه ومن «1» روى عنه، والمقتدى لكل من أخذ عن العلماءء أخذ منه، صلى الله عليه ما رويت الأخبار، ورؤيت الآثار، وظهرت أذكار الأبرار، فى صحائف الليل والنهار، وتابعيه وأحزابه، وسلم وكرّم وشرّف وعظّم. أما بعد، فقد أجزت الجناب الكريم العالى ذا القدر المنيف الغالى، والصدر الذي هو بالفضائل حال، وعن الرذائل خال، المولوىّ الأميرىّ الكبيرىّ العالىّ العاملىّ الأصيلىّ العريقىّ الفاضلىّ المخدومىّ الجمالىّ، أبا المحاسن، الذي ورد فواضله وفضائله غراس يوسف بن المرحوم المقر الأشرف الكريم العالى المولوى الأميرى الكبيرى الأتابكى [المالكى]«2» المخومى السفيرى تغرى «3» بردى الملكى الظاهرى، أعز الله جماله، وبلّغه من المرام كماله، وهو ممن تغذّى بلبان. الفضائل، وتربى فى حجر قوابل الفواضل، وجعل اقتناء العلوم دأبه، ووجّه إلى تدين الأحزاب ركابه، وفتح إلى دار الكمالات بابه، وصيّر أحرازها فى خزائن صدره اكتسابه، فجاز بحمد الله [تعالى]«4» حسن الصورة والسيرة، وقرّن بضياء الأسرّة صفاء السريرة، وحوى السماحة والحماسة والفروسية والفراسة، ولطف العبارة والبراعة، والعرابة واليراعة والشهامة والشجاعة، فهو أمير الفقهاء، وفقيه الأمراء، وظريف الأدباء، وأديب الظرفاء، فمهما تصفه صف وأكثر، فإنه لأعظم مما قلت فيه وأكثر، فأجزت له معوّلا عليه، أحسن الله إليه، أن يروى عنى مالى من منظوم ومنثور، ومسموع ومسطور، بشروطه المعتبرة، وقواعده المحررة عموما» .
ثم ذكر ماله من تصنيف وتأليف وأسماء مشايخه ببلاد الشرق وبالبلاد «5» الشأمية،
وقد ذكرنا ذلك كله «1» برمته فى ترجمته فى تاريخنا «المنهل الصافى والمستوفى بعد الوافى» ، «2» أضربنا عن ذكره هنا خوف الإطالة، فكان مما قاله [202] فى أواخر هذه الإجازة، من النظم، أبيات مع ما «3» فى اسم يوسف:[الرمل]
وجهك الزاهى كبدر
…
فوق غصن طلعا
واسمك الزّاكى كمشكا
…
ة سناها لمعا
فى بيوت أذن الا
…
هـ لها أن ترفعا
عكسها صحّفه يلفى
…
الحسن فيه أجمعا
وتوفى الأمير سيف الدين جانبك بن عبد الله النّوروزى، المعروف بنائب بيروت، بعد أن ابتلى وعزل عن نيابة صهيون، وعاد إلى القاهرة، فمات بالعريش.
وكان أصله من مماليك الأميز نوروز الحافظى، وممن تأمّر- فى دولة الملك الظاهر جقمق- عشرة، ثم خرج إلى البلاد الشأمية وصار من [جملة]«4» أمراء طرابلس، ثم ولى نيابة صهيون، فابتلى بداء الأسد، واستعفى. وأراد قدوم القاهرة، فمات فى طريقه، وكان مشهورا بالشجاعة لا بأس به.
وتوفى الأمير سيف الدين سودون السّودونى الظاهرى الحاجب، فى يوم الأحد العشرين من شعبان، وهو فى عشر التسعين، وأصله من مماليك [الملك]«5» الظاهر برقوق، ثم تأمّر بعد موت [الملك]«6» الناصر فرج، وصار فى الدولة الأشرفية من جملة
الحجاب؛ ثم صار حاجبا ثانيا فى الدولة الظاهرية جقمق، ونفى غير مرة، وهو يعود إلى دون رتبته أولا، ولا زال يتقهقر إلى أن صار من جملة الحجاب الأجناد، وكان شيخا مسرفا على نفسه مهملا لم يشهر بتدين ولا شجاعة ولا كرم، عفا الله عنه.
وتوفى القاضى زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدّمشقى الأصل والمولد والمنشأ المصرى الدار والوفاة، ناظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية، بطالا، بها فى يوم الثلاثاء رابع شوال بداره. فى وقت المغرب بخط الكافورى، ودفن من الغد بتربته التى أنشأها بالصحراء خارج القاهرة [فى قبر عيّنه لنفسه وأسند وصيته قاضى الحنابلة وغيره]«1» . ومولده بعد التسعين [وسبعمائة]«2» أو فى حدودها، ونشأ بدمشق، وخدم القاضى بدر الدين بن الشهاب محمود، وبه عرف بين الناس، ثم اتصل بخدمة [الملك]«3» المؤيد شيخ وهو على نيابة دمشق، ولازمه إلى أن قتل الملك الناصر وقدم معه إلى القاهرة، وسكن بالقرب منّا بالسبع قاعات، وهو فقير مملق.
فلما تسلطن [الملك]«4» المؤيد شيخ، قرّبه وأدناه، وولاه نظر الخزانة، فانتقل من داره إلى دار أخرى بالقرب منها، ولما عظم أمره، سألنا فى السّكنى فى بعض دورنا، فأجبناه إلى ذلك، فسكنها عدة سنين، ومن يومئذ أخذ أمره فى نمو وزيادة، وعظم فى الدولة، وعمّر الأملاك الكثيرة، ثم أنشأ مدرسته بخط الكافورى تجاه داره، ثم ولى نظر الجيوش المنصورة [بالديار المصرية]«5» بعد عزل المقر الكمالى ابن البارزى فى الدولة الظاهرية ططر، ولما ولى نظر الجيش، بعد ابن البارزى، قال المقريزى، وتمثل بقول أبى العلاء المعرى:
[الطويل]
* ويا «1» نفس جدّى إن دهرك هازل «2» * ودام عبد الباسط فى وظيفته نظر الجيش سنين، وعظم فى أوائل الدولة الأشرفية، ثم أخذ أمره فى إدبار عند الأشرف، وهو يحسن سياسته لا يظهر ذلك، ويبذل الأموال فى رضى الأشرف بكل ما تصل قدرته إليه، يعرف قولى هذا من كان له رتبة تلك الأيام وملازمة بخدمة الملك الأشرف برسباى، مع أنه لم يصف له الدهر فى خصوصيّته عند الأشرف السنة الواحدة، بل كان كلما زال عنه [واحد]«3» انتشأ «4» له آخر، فالأول جانبك الدوادار الأشرفى، كان عبد الباسط وغيره بين يديه كالأغنام فى حضرة الراعى، ثم انتشأ «5» له البدر بن مزهر كاتب السر، فحاشره فيما هو فيه، وضيّق خناقه، إلى أن مات.
ثم جاءه الصفوىّ جوهر القنقبائى الخازندار، فكان عليه أدهى وأمر، ولا زال به حتى أوقعه فى أمور وغرمات، ثم حمّله الوزر ثم الأستادّاريّة، فلا زال يحجل فى الأستادّارية مع ما يلزمه من الكلف مع ذلك، إلى أن مات الأشرف، وتسلطن ولده الملك العزيز يوسف، فقاسى فى الدولة العزيزية خطوبا من بهدلة المماليك الأشرفية له بكل
ما تصل قدرتهم إليه، واستعفى فى تلك المدة غير مرة، إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق، وقبض عليه بعد أشهر وسجنه وصادره، وأبرز ما كان عنده من الكوامن منه فى الأيام الأشرفية، حسبما ذكرناه فى ترجمة الملك الظاهر جقمق، فكان ما «1» لقيه أولا كالمجاز بجنب هذه الحقيقة، [203] ولسان حاله ينشد:[الكامل]
ما إن وصلت إلى زمان آخر
…
إلا بكيت على الزمان الأوّل
ثم أطلق عبد الباسط بعد أن حمّل جملة كبيرة من الذهب نحو الثلاثمائة ألف دينار، حررناها فى أصل الترجمة، وتوجه إلى الحجاز ثم إلى دمشق، ثم قدم إلى القاهرة مرة أولى وثانية، استوطن فيها القاهرة، إلى أن حج ثانيا، ومات فى التاريخ المقدم ذكره.
وكان عبد الباسط مليح الشكل متجملا فى ملبسه ومركبه وحواشيه إلى الغاية، وله مآثر وعمائر فى أقطار كثيرة معروفة به، لا تلتبس بغيره «2» ، لأننا لا نعلم من سمى بهذا الاسم قبله، ونالته السعادة، [غيره] . وكان له كرم على أناس، وبخل على غيرهم «3» ، وبالجملة أنه كان عدّ بآخرة من الرؤساء الأعيان على شراسة خلق كانت فيه، وحدة، مع طيش وخفة وجبروت وظلم على مماليكه وأتباعه، مع بذاءة لسان، وسفه زائد، وشمم وجهل مفرط بكل علم وفن إلى الغاية، رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير سيف الدين أركماس بن عبد الله الظاهرى الدوادار الكبير بطّالا، بالقاهرة، فى يوم الجمعة ثامن عشرين شوال، وسنه زيادة على سبعين سنة، وأصله من أصاغر مماليك الظاهر برقوق، وترقى فى دولة [الملك]«4» الظاهر ططر، وصار نائب قلعة دمشق، إلى أن أنعم عليه الملك الأشرف برسباى [بإمرة مائة]«5» وتقدمة ألف
بالديار المصرية، ثم ولاه رأس نوبة النّوب بعد القبض على الأمير تغرى بردى المحمودى، ثم نقله إلى الدوادارية الكبرى بعد [مسك]«1» الأمير أزبك المحمدى ونفيه إلى القدس بطّالا، فدام فى الدوادارية إلى أن عزله الملك الظاهر جقمق، ثم أخرجه بعد مدة إلى دمياط، ثم استقدمه بعد سنين [إلى]«2» مصر فأقام بها بطّالا إلى أن مات.
وكان ساكتا عاقلا قليل الكلام فيما يعنيه وفيما لا يعنيه، متوسط السيرة فى غالب أحواله، كان لا يميل لخير ولا لشر، ولا يتكرم على أحد، ولا يطمع فى مال أحد، ولا ينهر أحدا، ولا يكرم أحدا، وقس على هذا فى غالب أموره، وكان عاريا مهملا منقادا فى أحكامه إلى دواداره ورأس نوبته، وموقّعه، فمهما قالوه طاوعهم، فإن قصدوا الجنة سار معهم، وإن دخلوا النار دخل معهم، ومهما أشاروا عليه به لا يخالفهم، وكان إذا كلمه من لا يعرفه يظنه أنه قدم فى أمسه من بلاد الجاركس، لغتمة كانت فى لسانه باللغة التركية، فلعمرى كيف يكون كلامه باللغة العربية! «3» غير أنه كان متدينا وبعف عن المنكرات والفروج، رحمه الله [تعالى]«4» .
وتوفى قاضى القضاة ولى الدين محمد بن أحمد بن يوسف [بن حجاج ولى الدين أبو عبد الله]«5» السّفطى الشافعى، قاضى قضاة الديار المصرية، وصاحب العظمة فى أوله والأهوال فى آخره، فى يوم الثلاثاء مستهل ذى الحجة ودفن من الغد بعد أن مرض يوما واحدا؛ وقد تقدم من ذكره وما وقع له نبذة كبيرة فى ترجمة الملك الظاهر جقمق، تعرّف جميع أحواله بالقرائن، ونذكر الآن من أحواله شيئا يسيرا من أوائل أمره إلى آخره على سبيل الاختصار:
كان أصله من سقط الحنّاء «1» بالوجه البحرى من أعمال القاهرة، ونشأ بالقاهرة، وحفظ عدة متون، وطلب العلم، واشتغل فى مبادئ أمره.
وناب فى الحكم عن قاضى القضاة جلال الدين البلقينى مدة سنين.
ثم تنزه عن ذلك وتردد إلى الأكابر، ومال إلى طلب الدنيا وتحصيل الدرهم، واجتهد فى ذلك، مع ما ورثه من أبيه، حتى أثرى وكثر ماله، وصار كلما كثر ماله عظم حرصه؛ إلى أن جاوز الحد من زيادة المال وعظم البخل حتى على نفسه وعياله، وكان دأبه الركوب على فرسه، والتردد إلى الأكابر، لشبع بطنه، فكان من الناس من يأكل عنده ويتوجه إلى حال سبيله، ومنهم من كان يأتى عنده، ثم يأخذ بيده صحنا من الطعام ويرسله إلى عياله من غير أن يستقبح ذلك، وشوهد أخذه الطعام من بيت الصاحب بدر الدين بن نصر الله ناظر الخاص غير مرة.
فلما تسلطن الملك الظاهر جقمق، ترك السّفطى من دونه، ولزمه، حتى عظم فى الدولة وصار له كلمة نافذة، وعظمة زائدة، وتردد الناس إلى بابه لقضاء حوائجهم فنال بذلك من الوجاهة وجمع المال ما لم ينله [204] غيره من أبناء جنسه، كل ذلك وهو على ما هو عليه من الشح والطمع وسقوط النفس، كما كان أولا، وزيادة، فإنه كان أولا لا يتوصل إلى مقصوده من الأخذ إلا بالتملق والإطراء «2» وغير ذلك، وقد صار الآن لا يأخذ إلا بالسطوة والمهابة والتهديد، هذا من أعيان الدولة وأكابرها، وأما ما أخذه من الأصاغر، فكان على شبه أخذ الجالية «3» .
ثم تولى من الوظائف عدة كبيرة، مثل نظر الكسوة، ووكالة بيت المال، على ما كان بيده من مشيخة الجماليّة، وغيرها من الوظائف الدينية.
ثم ولى نظر البيمارستان المنصورى «1» ، وتدريس قبة الإمام الشافعى رضى الله عنه. ولما انتهى أمره، تولى قضاء الشافعية بالديار المصرية. بعد عزل قاضى القضاة شهاب الدين أحمد «2» بن حجر فى يوم الخميس رابع ذى القعدة من سنة إحدى وخمسين وثمانمائة، فأساء السيرة فى ولايته، لا سيما على الفقهاء ومباشرى الأوقاف، فإنه زاد وأمعن فى أذاهم وبهدلتهم بالضرب والحبس والتراسيم، وقطع معاليم «3» جماعة كبيرة من الطلبة المرتبة على الأوقاف الجارية تحت نظره.
ولقى الناس منه شدائد كثيرة، وصار لا يمكن المرضى من دخول البيمارستان للتمرّض به، إلا برسالة، ثم يخرج المريض بعد أيام قليلة. وأظهر فى أيام عزه وولايته من شراسة الخلق وحدة المزاج والبطش وبذاءات اللسان أمورا يستقبح ذكرها، هذا مع التعبد والاجتهاد فى العبادة ليلا ونهارا، من تلاوة القرآن، وقيام الليل والتعفف عن المنكرات والفروج، حتى أنه كان فى شهر رمضان، يحتم القرآن الكريم كل ليلة فى ركعتين، وأما سجوده وتضرعه فكان إليه المنتهى. وكانت له أوراد هائلة دواما، فكان بمجرد فراغه من ورده يعود إلى تسليطه على خلق الله وعباده، [و]«4» لا زال على ذلك حتى نفرت القلوب منه، وكثر الدّعاء عليه، حتى لقد شاهدت بعض الناس يدعو عليه فى الملتزم بالبيت العتيق فى هدوء «5» الليل.
فلما زاد ذلك منه، سلّط الله عليه أقلّ خلقه، أبا الخير النحاس، مع توغر «6»
[خاطر]«1» السلطان عليه فى الباطن، فلا زال أبو الخير يذكر للسلطان مساوئه، ويعرفه معايبه، إلى أن كان من أمره ما ذكرناه فى أصل هذه الترجمة، من العزل والمصادرة والحبس بالمقشرة، والاختفاء المدة الطويلة، ثم ظهوره بعد نكبة النحاس، إلى أن مات، عفا «2» الله عنه. وقد ذكرنا أحواله فى تاريخنا «حوادث الدهور فى مدى الأيام والشهور» مفصلا باليوم والوقت «3» ، وذكرناه أيضا فى «المنهل الصافى» «4» ، بأطول من هذا، فلينظر هناك «5» .
وتوفى العلامة قاضى القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد بن قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن الشيخ الإمام العلامة ضياء الدين محمد بن محمد بن سعيد بن عمر «6» بن يوسف ابن إسماعيل الصّاغانى الأصل، المكى المولد والدار والوفاة، الحنفى المذهب، قاضى قضاة مكة وعالمها ومفتيها ومصنفها، فى تاسع عشرين ذى القعدة. وتولى أخوه أبو حامد القضاء من بعده، وكان مولد القاضى بهاء الدين فى ليلة التاسع من محرم سنة تسع وثمانين وسبعمائة بمكة، ونشأ بها وطلب العلم، واشتغل حتى برع فى عدة علوم، وأفتى ودرّس [وصنّف]«7» وأفنى عمره فى الاشتغال والإشغال.
حكى لى الشيخ أبو الخير بن عبد القوى، قال: أعرف القاضى بهاء الدين نحو الخمسين سنة، وأزيد، ما دخلت إليه فيها إلا وجدته إما يكتب، أو يطالع، رحمه الله [تعالى]«8» .
وتوفى الأمير سيف الدين تغرى «9» برمش بن عبد الله الزّردكاش اليشبكى،
أحد أمراء الطبلخانات، وزردكاش السلطان بمكة، فى أواخر هذه السنة، وسنّه نيف على الثمانين سنة، وخلّف مالا كبيرا وأملا كا كثيرة ودورا «1» معروفة بأملاك الزّردكاش، وكان توجّه إلى مكة المشرفة مجاورا، وأصله من مماليك الأمير يشبك ابن أزدمر، وترقى من بعده حتى صار أمير عشرة، ثم زردكاشا فى الدولة الأشرفية برسباى، ودام على ذلك إلى أن أنعم عليه الملك الظاهر جقمق «2» بزيادة على إقطاعه، وجعله من [جملة]«3» أمراء الطّبلخانات؛ إلى أن مات. وكان مسرفا على نفسه [ضخما مثريا بخيلا]«4» ، غير أن له غزوات كثيرة فى الفرنج؛ ومات بتلك البقعة الشريفة، فلعل الله يغفر له ذنوبه بمنه وكرمه.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم: ستة أذرع وخمسة عشر [205] أصبعا؛ مبلغ الزيادة: خمسة عشر ذراعا وسبعة أصابع وهى سنة الشراقى العظيم «5» .
(تم الجزء الخامس عشر من كتاب النجوم الزاهرة لابن تغرى بردى ويليه الجزء السادس عشر من الكتاب)