الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى يوم الأحد سادس عشرين ذى الحجة، فركب من القلعة ونزل إلى بيت بنته زوجة الأمير أزبك من ططخ الساقى، أحد أمراء العشرات، ورأس نوبة، غير أنه لم يطل الجلوس عندها وعاد إلى القلعة من وقته، وكان سكن أزبك المذكور يومئذ فى الدار الذي خلف حمام بشتك، وهى الآن ملك شخص من أصاغر المماليك الأشرفية، لا أعرفه، إلا فى هذه الدوله.
ثم فى يوم الاثنين سابع عشرين ذى الحجة، عمل السلطان الموكب بالحوش لقصّاد جهان شاه بن قرا يوسف، متملّك تبريز وغيرها، وكان قدوم القصّاد المذكورين، لإعلام السلطان بأن جهان شاه المذكور، كسر عساكر بابور «1» بن باى سنقر بن شاه رخ بن تيمورلنك، وأنه استولى على عدة بلاد من ممالكه، وأن عساكر جغتاى ضعف أمرهم لوقوع الوباء فى خيولهم ومواشيهم.
ثم فى يوم الأربعاء تاسع عشرينه، ضرب السلطان بعض نواب الحكم الشافعية، بيده عشرة عصىّ، لأمر لا يستحق ذلك.
وفرغت سنة ست وخمسين، بعد أن وقع بها فتن كثيرة ببلاد الشرق، قتل فيها خلائق لا تدخل تحت حصر، استوعبنا غالبها فى «حوادث الدهور» ، كونه موضوعا «2» لتحرير الوقائع، كما أن هذا الكتاب وظيفته الإطناب فى تراجم ملوك مصر.
ومهما ذكرناه بعد ذلك من الوقائع يكون على سبيل الاستطراد وتكثير الفوائد لا غير.
[ما وقع من الحوادث سنة 857]
واستهلّت سنة سبع وخمسين وثمانمائة، بيوم الجمعة، والسلطان الملك الظاهر جقمق صاحب الترجمة، متوعك، غير أنه يتجلد ولا ينام على الفراش، وأيضا لم يكن.
على وجهه علامات مرض الموت إلا أنه غير صحيح البدن، وكان له على ذلك أشهر كثيرة، من أواخر سنة خمس وخمسين وثمانمائة-[انتهى]«1» .
قلت: ويحسن ببالى أن أذكر فى أول هذه السنة، جميع أسماء أرباب الوظائف بالديار المصرية وغيرها، ليعلم بذلك فيما يأتى، كيف تقلبات الدهر، وتغيير الدول.
فأقول: استهلت سنة سبع وخمسين وخليفة الوقت القائم بأمر الله حمزة، والقاضى الشافعى شرف الدين يحيى المناوى، والقاضى الحنفى سعد الدين سعد الديرى، والقاضى المالكى ولىّ الدين [محمد]«2» السنباطى، والقاضى الحنبلى بدر الدين محمد بن عبد المنعم البغدادى، وأتابك العساكر إينال العلائى الناصرى، وأمير سلاح جرباش الكريمى الظاهرى برقوق المعروف بقاشق «3» ، وأمير مجلس تنم من عبد الرزاق المؤيّدى، والأمير آخور الكبير قانى باى الجاركسى، ورأس نوبة النوب أسنبغا الناصرى الطّيارى، والدّوادار [164] الكبير دولات باى المحمودى المؤيّدى، وحاجب الحجاب خشقدم من ناصر الدين المؤيّدى، وباقى مقدمى الألوف أربعة: أعظمهم المقام الفخرى عثمان ابن السلطان، ثم الأمير تنبك البردبكى الظاهرى برقوق المعزول عن الحجوبية، والأمير طوخ من تمراز الناصرى «4» [فرج]«5» ، والأمير جرباش المحمدى الناصرى [المعروف]«6» بكرد، والجميع أحد عشر مقدما، بأقل من النصف عما كان قديما.
وأرباب الوظائف من الطبلخانات، والعشرات: شادّ الشراب خاناه يونس الأقبائى البواب أمير طبلخاناة، والخازندار قراجا الظاهرى جقمق أمير طبلخاناة، والزّردكاش
لاجين الظاهرى جقمق أمير عشرة، ونائب القلعة يونس العلائى الناصرى أمير عشرة، والحاجب الثانى نوكار الناصرى [فرج أبو أحمد الماضى]«1» أمير عشرة، ووظيفة أمير جاندار بطالة، يليها بعض الأجناد، السكات عن ذكره أجمل؛ وأستادّار الصّحبة سنقر الظاهرى أمير عشرة. وهذه الوظائف كان قديما يليها مقدمو «2» الألوف، ويستدل على ذلك من خلعهم فى الأعياد وغيرها- انتهى.
والأمير آخور الثانى يرشباى الإينالى المؤيّدى أمير طبلخاناة، ورأس نوبة ثانى جانبك القرمانى الظاهرى برقوق أمير طبلخاناة، والدّوادار الثانى تمربغا الظاهرى جقمق أمير عشرة، غير أن معه زيادات كثيرة، والمهمندار بعض الأجناد، ووالى القاهرة جانبك اليشبكى أمير عشرة، والزّمام والخازندار فيروز الطّواشى الرومى النّوروزى أمير طبلخاناة، ومقدم المماليك مرجان العادلى المحمودى الحبشى أمير عشرة، ونائبه عنبر خادم نور الدّين الطّنبذى، ومباشرو الدولة، كاتب السر القاضى محبّ الدين محمد بن الأشقر، وناظر الجيش والخاصّ عظيم الدولة ومدبرها الجمالى يوسف ابن كاتب جكم، والوزير الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم، والأستادّار زين الدين يحيى [ابن عبد الرزاق القبطى القاهرى ابن أخت نقيب الجيش محمد بن أبى الفرج]«3» الأشقر المعروف بابن كاتب حلوان، وبقريب ابن أبى الفرج وهو على زىّ الكتاب، ولهذا لم نذكره فى الأمراء، ومحتسب القاهرة ير على الخراسانى العجمى الطويل.
ونواب البلاد الشامية «4» نائب الشام جلبان الأمير آخور، ونائب حلب قانى باى الحمزاوى، ونائب طرابلس يشبك النّوروزى، ونائب حماه حاج إينال اليشبكى، ونائب صفد بيغوت الأعرج المؤيدى، ونائب غزة جانبك التاجى المؤيدى، ونائب الكرك يشبك طاز المؤيدى، ونائب الإسكندرية برسباى السيفى تنبك البجاسى أمير
عشرة، وهؤلاء هم أعيان النواب، ومن يطلق فى حق كل منهم ملك الأمراء، ولا عبرة بولاية الوجه القبلى الآن، وباقى نواب القلاع والبلاد الشأمية فكثير- انتهى.
ثم فى يوم الخميس سابع محرم، سنة سبع وخمسين المذكورة، أرجف فى القاهرة بموت السلطان، فلما كان يوم السبت تاسع المحرم، خرج السلطان من قاعة الدّهيشة، ماشيا على قدميه، حتى جلس على مرتبة، من غير أن يستعين بأحد فى مشيه، ولا استند فى مجلسه، بل جلس على مرتبته وعلّم على عدة مناشير، وأطلت أنا النظر فى وجهه، فلم أر عليه علامات تدل على موته بسرعة، ثم قام وعاد إلى القاعة، ولم يخرج بعدها إلى الدّهيشة، واستمر متمرضا بالقاعة المذكورة، والناس تخلط فى الكلام بسبب مرضه، والأقوال تختلف فى أحوال المملكة، على أن السلطان فى جميع مرضه غير منحجب عن الناس، وأرباب الدولة تتردد إليه بالقاعة المذكورة، وهو يعلّم فى كل يوم فى الغالب على المناشير والقصص، وينفذ بعض الأمور، إلا أن مرضه فى تزايد، وهو يتجلد.
إلى أن كان يوم الأربعاء، العشرون «1» من المحرم، فوصل الأمير جانبك النّوروزى من مكة المشرفة، ودخل إلى السلطان وقبّل له الأرض، ثم قبّل يده وخرج وخرجنا جميعا من عنده، وقد اشتد به المرض، وظهر عليه أمارات رديئة «2» تدل على موته بعد أيام، غير أنه صحيح العقل والفهم والحركة، ثم بعد خروجنا من عنده، تكلم السلطان فى هذا اليوم مع بعض [165] خواصه فى خلع نفسه من السلطنة، وسلطنة ولده المقام الفخرى عثمان فى حياته، فروجع فى ذلك فلم يقبل، ورسم بإحضار الخليفة والقضاة والأمراء من الغد بالدّهيشة.
فلما كان الغد، وهو يوم الخميس حادى عشرون محرم سنة سبع وخمسين وثمانمائة، حضر الخليفة والقضاة وجميع الأمراء؛ وفى ظن الناس أنه يعهد لولده عثمان بالملك من بعده كما هى عادة الملوك، فلما حضر الخليفة والقضاة عنده بعد صلاة الصبح، خلع نفسه
من السلطنة، وقال للخليفة والقضاة:«الأمر لكم، انظروا فيمن تسلطنوه» ، أو معنى ذلك، لعلمه أنهم لا يعدلون عن ولده عثمان، فإنه كان أهلا للسلطنة بلا مدافعة، وأراد أيضا بهذا القول، أنه قد خلع نفسه وأنه يموت غير سلطان، وأنه أيضا لا يتحمل بوزر ولاية ولده المذكور، فكان مقصده جميلا فى القولين، رحمه الله تعالى.
فلما سمع الخليفة كلام السلطان، لم يعدل عن المقام الفخرى عثمان، لما كان اشتمل عليه عثمان المذكور من العلم والفضل، وإدراكه سنّ الشبيبة، وبايعه بالسلطنة، وتسلطن فى يوم الخميس المذكور، حسبما نذكره إن شاء الله تعالى فى أول ترجمته من هذا الكتاب.
واستمر الملك الظاهر [مريضا]«1» ملازما للفراش، وابنه الملك المنصور يأخذ ويعطى فى مملكته، ويعزل ويولّى، والملك الظاهر فى شغل بمرضه، وما به من الألم فى زيادة، إلى أن مات فى قاعة الدّهيشة الجوّانيّة بين المغرب والعشاء من ليلة الثلاثاء ثالث صفر من سنة سبع وخمسين وثمانمائة المقدم ذكرها. وقرئ حوله القرآن العزيز، إلى أن أصبح، وجهز وغسل وكفن من غير عجلة ولا اضطراب، حتى انتهى أمره وحمل على نعشه، وأخرج به، وأمام نعشه ولده السلطان الملك المنصور عثمان ماشيا وجميع أعيان المملكة، وساروا أمام نعشه بسكون ووقار، إلى أن صلى عليه بمصلّاة باب القلعة من قلعة الجبل، وصلى عليه الخليفة القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة، وخلفه السلطان والقضاة وجميع الأمراء والعساكر، ثم حمل بعد انقضاء الصلاة عليه وأنزل من القلعة، حتى دفن بتربة أخيه الأمير جاركس القاسمى المصارع، التى جددها مملوكه قانى باى الجاركسى، بالقرب من دار الضيافة تجاه سور القلعة، التى جددها مملوكه المنصور دفنه، وعاد إلى القلعة من المصلاة. وشهد دفنه خلائق، وقعد الناس فى الطرقات لمشاهدة مشهده، وكان مشهده عظيما إلى الغاية، بخلاف جنائز المملوك السالفة، ولعل
هذا لم يقع لملك قبله. كل ذلك لكونه سلطن ولده فى حياته، ثم مات بعد ذلك بأيام، فلهذا كانت جنازته على هذه الصورة.
ومات الملك الظاهر وسنه نيف على ثمانين سنة تخمينا، ولم يخلّف بالحواصل ولا الخزائن إلا نزرا يسيرا من الذهب «1» يستحى من ذكره بالنسبة لما تخلفه الملوك، وكذلك [فى]«2» جميع تعلقات السلطنة، من الخيول والجمال والسلاح والقماش، كل ذلك من كثرة بذله وعطائه، وكانت مدة ملكه «3» امن يوم تسلطن بعد خلع الملك العزيز يوسف، فى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الآخر [من]«4» سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، إلى أن خلع نفسه بيده «5» لولده الملك المنصور عثمان، فى الثانية من نهار الخميس الحادى والعشرين من محرم سنة سبع وخمسين وثمانمائة، أربع عشرة سنة وعشرة شهور، ويومين، وتوفى بعد خلعه من السلطنة باثنى عشر يوما.
ووقع له فى سلطنته غرائب لم تقع لأحد قبله إلا نادرا جدا «6» ، منها «7» ركوبه وهو أتابك على الملك العزيز يوسف وقتاله له وانتصاره عليه، ولا نعرف أحدا قبله من الأمراء ركب على السلطان، ووقف بالرملة والسلطان بقلعة الجبل، وانتصر عليه، غيره. فإن قيل: واقعة الناصرى ومنطاش «8» مع الملك الظاهر برقوق، فليس ذاك مما نحن فيه من وجوه عديدة، لا يحتاج إلى ذكرها. وإن قيل: نصرة منطاش وملكه لباب السلسلة
فنقول: كان ركوب منطاش على رفيقه يلبغا الناصرى، وليس للملك المنصور حاجى ذكر بينهما «1» .
ومنها [166] أنه سلّم عليه بالسلطنة ثلاثة خلفاء من بنى العباس، ولم يقع ذلك لملك قبله من ملوك مصر. ومنها أنه اجتمع له قضاة أربعة «2» فى عصر واحد، لم يجتمع [مثلهم]«3» لغيره «4» من ملوك مصر، وهم قاضى القضاة شهاب الدين بن حجر الشافعى حافظ المشرق والمغرب، كان فردا فى معناه، لا يقاربه فى علم الحديث أحد فى عصره؛ وقاضى القضاة شيخ الإسلام سعد الدين سعد الديرى الحنفى، كان فقيه «5» عصره شرقا وغربا، لا يقاربه أحد فى حفظ مذهبه واستحضاره، مع مشاركته فى علوم كثيرة، والعلامة قاضى القضاة شمس الدين البساطى المالكى، كان إمام عصره فى [علمى]«6» المعقول والمنقول، قد انتهت إليه الرئاسة فى علوم كثيرة، ومات ولم يخلّف بعده مثله، وقاضى القضاة شيخ الإسلام محبّ الدين أحمد الحنبلى البغدادى، كان أيضا إمام عصره وعالم زمانه، انتهت إليه رئاسة مذهبه بلا مدافعة.
ومنها أنه أقام فى ملك مصر هذه المدة الطويلة، لم يتجرد فيها تجريدة واحدة إلى البلاد الشامية، غير مرة واحدة، فى نوبة الجكمى فى أوائل سلطنته، وهذا أيضا لم يقع لملك قبله.
ومنها أنه أذن للغرسى خليل ابن السلطان الملك الناصر فرج بالحج، فقدم القاهرة وحج وعاد مع عظم شوكته من مماليك أبيه وجده الملك الظاهر برقوق «7» ، وهذا شىء لم يقع مثله فى دولة من الدول.
ومنها ابنه المقام الناصرى محمد رحمه الله تعالى، من غزير علمه وكثرة فضائله، فإننا لا نعلم أحدا من ملوك الترك رزق ولدا مثله، بل ولا يقاربه ولا يشابهه مما كان اشتمل عليه من العلم والفضل والمعرفة التامة، وحسن السمت وجودة «1» التدبير، ولا نعرف أحدا من أولاد السلاطين من هو فى هذا المقام قديما وحديثا «2» ، حتى ولو قلت: ولا من بنى أيوب، ممن ملكوا مصر، لكان يصدق قولى؛ ومن كان من بنى أيوب له فضيلة تامة غير الملك المعظم عيسى ابن الملك الكامل، والملك المؤيد إسماعيل صاحب حماه، وهما كانا بالبلاد الشامية؟ - انتهى.
وقد استوعبنا أحوال الملك الظاهر هذا من مبدأ أمره إلى آخره، محررا بالشهر واليوم فى جميع ما وقع له من ولاية وعزل وغريبة وعجيبة، فى تاريخنا «حوادث الدهور فى مدى الأيام والشهور» ، فلينظر هناك «3» ، [و]«4» ما ذكرناه هنا جميعه [نوع]«5» من تكثير الفائدة، لا القصة على جليتها، بل نشير بذكرها إعلاما لوقت واقعتها لا غير.
وكان الملك الظاهر سلطانا ديّنا خيرا عفيفا صالحا [فقيها شجاعا]«6» مقداما، عارفا بأنواع الفروسية، عفيفا عن المنكرات والفروج، لا نعلم أحدا من ملوك مصر فى الدولة الأيوبية ولا التركية على طريقته [فى ذلك]«7» ، لم يشهر عنه فى صفره ولا فى كبره أنه تعاطى مسكرا ولا منكرا، حتى قيل إنه لم يكتشف حراما قط؛ وأما حب الشباب، فلعله كان لا يصدّق أن أحدا يقع فى ذلك لبعده عن معرفة هذا الشأن، وكان جلوسه فى غالب أوقاته على طهارة كاملة، وكان متقشفا فى ملبسه ومركبه إلى الغاية، لم يلبس
الأحمر من الألوان فى عمره «1» ، منذ علم بكراهيته، ولم أره منذ تسلطن لبس كاملية بفرو [و]«2» سمّور [و]«3» بمقلب سمور غير مرة واحدة؛ وأما «4» الركوب بالسرج الذهب والكنبوش الزّركش فلم يفعله إلا يوم ركوبه بأبهة السلطنة لا غير، وكان ما يلبسه أيام الصيف؛ وما على فرسه من آلة السرج وغيره، لا يساوى عشرة دنانير مصرية، وكان معظّما للشريعة محبا للفقهاء وطلبة العلم، وما وقع منه من الإخراق ببعضهم وحبسهم بحبس المقشرة، فلا تقول: كان ذلك بحق، بل نقول: الحاكم يجتهد، ثم يقع منه الصواب والخطأ، فإن كان ما فعله بحق فقد أصاب وإن كانت الأخرى فقد أخطأ وأعيب عليه ذلك [الطويل]
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها
…
كفى المرء فخرا أن تعدّ معايبه
وكان معظّما للسادة الأشراف، وكان يقوم لمن دخل عليه من الفقهاء والفقراء كائنا من كان، وإذا قرأ «5» [167] عنده [أحد]«6» فاتحة الكتاب، نزل عن مدوّرته، وجلس على الأرض إجلالا لكلام الله تعالى.
وكان كريما جدا، يجود بالمال، حتى نسب إلى السرف، وكان ينعم بالعشرة آلاف دينار إلى ما دونها، وكان ممن أنعم عليه بعشرة آلاف دينار، الأتابك قرقماس الشعبانى، وأما دون ذلك من الألف إلى المائة، فدواما طول دهره، لا يملّ من ذلك، حتى أنه أتلف فى أيام سلطنته من الأموال، ما لا يدخل تحت حصر كثرة؛ ويكفيك أنه بلغت نفقاته على المماليك وصلات «7» الأمراء والتراكمين وغيرهم، وفى أثمان مماليك اشتراهم، وتجاريد جرّدها، فى مدة أولها موت الملك الأشرف برسباى، وآخرها سلخ سنة أربع وأربعين وثمانمائة، وذلك مدة ثلاث سنين، مبلغ ثلاثة آلاف ألف
دينار ذهبا مصريا، وذلك خلاف الخلع والخيول والقماش والسلاح والغلال، وخلاف جوامك المماليك ورواتبهم المعتادة.
وكان لا يلبس إلا القصير من الثياب، ونهى الأمراء وأكابر الدولة وأصاغرها عن لبس الثوب الطويل، وأمعن فى ذلك، حتى أنه بهدل بسبب ذلك جماعة من أعيان الدولة، وعاقب جماعة من الأصاغر، وقصّ أثواب آخرين فى الملأ من الناس، وكان أيضا يوبخ من لا يحفّ شاربه من الأتراك وغيرهم؛ وفى الجملة أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، مع سرعة استحالة، وحدة مزاج، وبطش. وكان غالب ما يقع منه من الإخراق بالناس، يكون بحسب الواسطة من حواشيه، فإنه كان مهما ذكروه «1» له قبله منهم، وأخذه على طريق الصدق والنصيحة، لسلامة باطنه، وأيضا على قاعدة الأتراك من كون الحق عندهم لمن سبق.
وبالجملة فكانت محاسنه أكثر من مساوئه، وهو أصلح من ولى ملك مصر من طائفته، فى أمر الدين والتقوى، فإنه كان قمع المفسدين والجبارين من كل طائفة، وكسدت فى أيامه أحوال أرباب الملاهى والمغانى، وتصولح غالب أمرائه وجنده، وبقى أكثرهم يصوم الأيام فى الشهر، ويعف عن المنكرات؛ كل ذلك مراعاة لخاطره، وخوفا من بطشه، وهذا كله بخلاف ما كان عليه كثير من الملوك السالفة، فإنه كان غالبهم يقع فيما ينهى عنه، فكيف يصير للنهى عنه بعد ذلك محل «2» ؟ ومن عظم ذلك، قال بعض الفضلاء الظرفاء:«نابت هذه الدولة عن الموت، فى هدم اللذات والأيام الطيبة» .
ولم يبق فى دولته ممن يتعاطى المسكرات إلا القليل، وصار الذي يفعل ذلك يتعاطاه فى خفية، ويرجفه فى تلك الحالة صفير الصافر.
وكانت صفته قصيرا، للسمن أقرب، أبيض اللون مشربا بحمرة، صبيح الوجه، منوّر الشيبة، فصيحا باللغة التركية، وباللغة العربية لا بأس به بالنسبة لأبناء جنسه؛ وكان له
اشتغال فى العلم، ويستحضر مسائل جيدة، ويبحث مع العلماء والفقهاء، ويلازم مشايخ القراءات ويقرأ عليهم دواما، وكان يقتنى الكتب النفيسة، ويعطى فيها الأثمان الزائدة عن ثمن المثل، وكان يحب مجالسة الفقهاء، ويكره اللهو والطرب، ينفر منهما بطبعه، وكان يتجنب المزاح وأهله، ولا يميل للتجمل فى الملبس، ويكره من يفعله فى الباطن. وكانت أيامه آمنة من عدم الفتن والتجاريد، ولشدة حرمته. وخلّف من الأولاد الذكور واحدا، وهو ولده الملك المنصور عثمان، وأمّه أم ولد رومية، وابنتين: الكبرى أمها خوند مغل بنت القاضى ناصر الدين بن البارزى، وزوّجها السلطان لمملوكه أزبك من ططخ الساقى، والصغرى بكر، وأمها أم ولد جاركسية ماتت قديما.
ذكر من عاصره من الخلفاء: أولهم أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داؤد، إلى أن توفى يوم الأحد رابع شهر ربيع الأول، سنة خمس وأربعين، حسبما يأتى ذكره فى الوفيات هو وغيره؛ والمستكفى بالله سليمان، إلى أن مات فى يوم الجمعة [ثانى محرم]«1» سنة خمس وخمسين، والقائم بأمر الله حمزة؛ والثلاثة إخوة.
ذكر قضاته بالديار المصرية: الشافعية: الحافظ شهاب الدين بن حجر، غير مرة، إلى أن توفى وهو معزول فى سنة اثنتين [168] وخمسين وثمانمائة، وقاضى القضاة علم الدين صالح البلقينى غير مرة؛ ثم قاضى القضاة شمس الدين محمد القاياتى؛ إلى أن مات فى أوائل سنة خمسين؛ ثم قاضى القضاة ولىّ الدين محمد السّفطى، وعزل وامتحن؛ ثم قاضى القضاة شرف الدين يحيى المناوى.
والحنفية: شيخ الإسلام سعد الدين سعد الديرى، ولى فى الدولة العزيزية ومات الملك الظاهر وهو قاض.
والمالكية: العلامة قاضى القضاة شمس الدين محمد البساطىّ إلى أن مات فى ليلة ثالث عشر شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين؛ ثم قاضى القضاة بدر الدين محمد
ابن التّنّسى، إلى أن مات بالطاعون فى أواخر يوم الأحد ثانى عشر صفر سنة ثلاث وخمسين؛ ثم قاضى القضاة ولى الدين محمد السنباطى، ومات وهو قاض.
الحنابلة: شيخ الإسلام محبّ الدين أحمد البغدادى، إلى أن مات فى يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين؛ ثم قاضى القضاة بدر الدين محمد بن عبد المنعم البغدادى، ومات وهو قاض رحمه الله.
ذكر من ولى فى أيامه الوظائف السنية من الأمراء:
وظيفة الأتابكية بالديار المصرية: وليها من بعده الأتابك قرقماس الشعبانى الناصرى أياما يسيرة دون نصف شهر، ثم من بعده الأتابك آقبغا التمرازى أشهرا، ونقل إلى نيابة دمشق، ومات فى سنة ثلاث وأربعين بدمشق. ثم الأتابك يشبك السودونى المعروف بالمشدّ، إلى أن مات فى سنة تسع وأربعين، ثم الأتابك إينال العلائى الناصرى.
وظيفة إمرة سلاح: وليها آقبغا التمرازى أياما يسيرة، ثم من بعده يشبك السودونى المقدم ذكره أشهرا؛ ثم تمراز القرمشى أمير سلاح، إلى أن توفى بالطاعون فى صفر سنة ثلاث وخمسين؛ ثم جرباش الكريمى المعروف بقاشق.
وظيفة إمرة مجلس: وليها يشبك السودونى أياما، ثم جرباش الكريمى قاشق سنين، ثم تنم من عبد الرزاق المؤيدى.
وظيفة الأمير آخورية الكبرى: وليها تمراز القرمشى أشهرا، ثم الأمير قراخجا الحسنى سنين إلى أن مات بطاعون سنة ثلاث وخمسين، ثم قانى باى الجاركسى «1»
وظيفة رأس نوبة النوب: [وليها تمراز القرمشى، ثم من بعده قراخجا الحسنى، ثم]«2» تمرباى التمربغاوى [إلى أن مات بطاعون سنة ثلاث وخمسين «3» ] ، ثم أسنبغا الناصرى الطيارى.
وظيفة حجوبية الحجاب: باشرها يشبك السّودونى أياما، ثم من بعده تغرى بردى البكلمشى المؤيّدى أشهرا، ثم تنبك البردبكى الظاهرى برقوق سنين، إلى أن نفى فى سنة أربع وخمسين إلى دمياط، ثم خشقدم من ناصر الدين المؤيدى.
وظيفة الدوادارية الكبرى: باشرها فى أيام «1» أوائل دولته أركماس الظاهرى أشهرا إلى أن نفى إلى ثغر دمياط، ثم من بعده تغرى بردى المؤيدى البكلمشى، إلى أن مات فى سنة ست وأربعين، ثم إينال العلائى الناصرى، إلى أن نقل منها إلى الأتابكية، ثم قانى باى الجاركسى، إلى أن نقل إلى أمير آخورية، ثم دولات باى المحمودى المؤيدى إلى أن [قبض عليه فى دولة المنصور عثمان]«2» .
ذكر أعيان مباشرى دولته:
كتابة السر: باشرها الصاحب بدر الدين بن نصر الله أشهرا، ثم المقر الكمالى ابن البارزى إلى أن مات [فى]«3» يوم الأحد سادس عشرين صفر سنة ست وخمسين، ثم القاضى محب الدين بن الأشقر.
وظيفة نظر الجيش: الزينى عبد الباسط بن خليل الدمشقى إلى أن مسك وصودر، ثم القاضى محب الدين بن الأشقر، ثم القاضى بهاء الدين محمد بن حجى، ثم ابن الأشقر ثانيا، إلى أن نقل إلى كتابة السر، ثم عظيم الدولة الجمالى يوسف مضافا إلى نظر الخاص وتدبير المملكة.
وظيفة «4» الوزارة: باشرها الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخات سنين، ثم الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم أيضا سنين، ثم الأمير تغرى بردى القلاوى الظاهرى جقمق.
وظيفة نظر الخاصّ: باشرها المقر الجمالى من الدولة الأشرفية برسباى إلى يوم تاريخه.
وظيفة الأستادّارية: باشرها جانبك الزينى عبد الباسط أشهرا، ثم الناصرى محمد بن أبى الفرج نقيب الجيش، ثم الأمير قيزطوغان العلائى، ثم الزينى عبد الرحمن ابن الكويز، ثم زين الدين يحيى بن «1» الأشقر المعروف بقريب ابن أبى الفرج.
ذكر أمرائه بمكة والمدينة:
أمراء مكة [المشرفة]«2» : الشريف بركات بن حسن بن عجلان إلى أن عزل، ثم وليها أخوه الشريف على بن حسن بن عجلان، إلى أن قبض عليه وحمل إلى القاهرة، ثم وليها أخوه الشريف أبو القاسم بن حسن بن عجلان إلى أن عزل، وأعيد الشريف بركات بن حسن بن عجلان.
ذكر «3» [169][أمراء]«4» المدينة الشريفة «5» : [الشريف]«6» أميان إلى أن عزل، ثم الشريف سليمان بن غرير إلى أن قتل، ثم الشريف ضيغم إلى أن قتل أيضا، ثم أعيد الشريف أميان ثانيا إلى أن توفى سنة خمسين وثمانمائة؛ وولى بعده الشريف زبيرى بن قيس.
ذكر نوابه بالبلاد الشامية:
فبدمشق: الأمير إينال الجكمى إلى أن عصى «7» وقتل، ثم الأتابك آقبغا التمرازى إلى أن توفى سنة ثلاث وأربعين، ثم الأمير جلبان الأمير آخور.
وبحلب: الأمير حسين بن أحمد المدعو تغرى برمش البهسنى «8» التركمانى إلى أن عصى وقتل، ثم جلبان الأمير آخور المقدم ذكره، ثم قانى باى الحمزاوى إلى أن عزل
ثم برسباى الناصرى الحاجب، ثم قانى باى البهلوان إلى أن مات، ثم تنم من عبد الرزاق المؤيدى إلى أن عزل، وأعيد قانى باى الحمزاوى ثانيا.
وبطرابلس: الأمير جلبان الأمير آخور أشهرا، ونقل إلى نيابة حلب، ثم قانى باى الحمزاوى، ثم برسباى الناصرى الحاجب، ثم يشبك الصوفى المؤيدى إلى أن عزل ونفى إلى دمياط، ثم شبك النوروزى.
وبحماه: قانى باى الحمزاوى أشهرا، ثم بردبك العجمى الجكمى إلى أن عزل وحبس بالإسكندرية، ثم الأمير قانى باى الناصرى البهلوان «1» ، ثم شاد بك الجكمى إلى أن عزل وتوجه إلى القدس بطالا، ثم الأمير يشبك الصوفى المؤيدى، ثم الأمير تنم من عبد الرزاق المؤيّدى، ثم بيغوت الأعرج المؤيّدى، ثم سودون الأبوبكريّ المؤيّدى أتابك حلب إلى أن عزل، ثم حاج إينال الجكمى.
وبصفد: الأمير إينال العلائى الناصرى الذي تسلطن، إلى أن عزل وقدم القاهرة أمير مائة ومقدّم ألف بها، ثم قانى باى الناصرى البهلوان أتابك دمشق، ثم بيغوت من صفر خجا الأعرج المؤيّدى، ثم يشبك الحمزاوى نائب غزة إلى أن توفى، ثم أعيد بيغوت ثانيا بعد أمور وقعت له.
وبغزة: طوخ مازى الناصرى إلى أن مات، ثم طوخ الأبوبكريّ المؤيّدى إلى أن قتل، ثم يلخجا الساقى الناصرى إلى أن مات، ثم حطط [الناصرى فرج]«2» إلى أن عزل، ثم يشبك الحمزاوى دوادار السلطان بحلب، ثم طوغان العثمانى [ألطنبغا]«3» إلى أن توفى، ثم خير بك النّوروزى إلى أن عزل، ثم جانبك التاجى المؤيّدى.
وبالكرك: الصاحب غرس الدين خليل [بن]«4» شاهين الشيخى إلى أن عزل،
ثم آقبغا من مامش الناصرى [فرج]«1» التركمانى، [إلى أن عزل]«2» وحبس، ثم مازى الظاهرى برقوق إلى أن عزل، ثم حاج إينال الجكمى، ثم طوغان السيفى آقبردى المنقار.
ذكر زوجاته أيام سلطنته: أما قبل سلطنته فكثير جدا، وأولهم (كذا) فى أيام سلطنته، خوند مغل بنت البارزى، تزوجها قبل سنة ثلاثين، وطلقها فى سنة اثنتين وخمسين؛ ثم زينب جرباش الكريمى قاشق، ومات عنها؛ ثم شاه زاده بنت ابن عثمان ملك الروم، وطلقها فى سنة أربع وخمسين؛ ثم نفيسة بنت ناصر الدين [بك]«3» ابن دلغادر ماتت فى سنة ثلاث وخمسين بالطاعون؛ ثم بنت حمزة بك بن ناصر الدين ابن دلغادر؛ ثم بنت كرتباى الجاركسية، قدم بها أبوها من بلاد الجاركس، وأسلم على ما قيل، ثم عاد إلى بلاده؛ ثم بنت زين الدين عبد الباسط، ولم يزل بكارتها، تزوجها بعد موت أبيها فى سنة خمس وخمسين وثمانمائة.