الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان [الملك]«1» الظاهر جقمق فى طبعه «2» الرأفة والشفقة على أيتام الأجانب، فكيف الأقارب؟ ولا أستبعد ذلك- انتهى.
ذكر ما وقع له من ابتداء أمره إلى أن تسلطن
فنقول: واستمر جقمق هذا عند أخيه بطبقة الزّماميّة «3» مدة يسيرة، وأعتقه [الملك]«4» الظاهر برقوق، وأخرج له خيلا وقماشا على العادة بمفرده، وهو أن بعض المماليك السلطانية من طبقة الزمام المذكورة توفى، فقام جاركس فى مساعدة أخيه جقمق هذا حتى أخذ له جامكيّته وخيله. وأعتقه [الملك]«5» الظاهر، ثم جعله بعد قليل خاصكيّا، كل ذلك بسفارة أخيه جاركس المذكور. واستمر جقمق خاصكيّا إلى أن مات [الظاهر]«6» برقوق، وصار ساقيا فى سلطنة [الملك الناصر فرج]«7» ، ثم تأمّر عشرة، إلى أن خرج أخوه جاركس عن طاعة [الملك]«8» الناصر [فرج]«9» فأمسك السلطان جقمق هذا، وحبسه بواسطة عصيان أخيه، فدام فى السجن إلى أن شفع فيه الوالد وجمال الدين يوسف الأستادّار وأطلق من السجن، ثم قتل جاركس فانكفّ جقمق هذا عن الدولة بتلطف، إلى أن قتل [الملك]«10» الناصر، وملك شيخ [المحمودى]«11» الديار المصرية، فأنعم عليه بإمرة عشرة، ثم نقله بعد سلطنته بمدة إلى إمرة طبلخاناه، ثم جعله خازندارا كبيرا بعد انتقال الأمير يونس الركنى إلى نيابة غزة، ثم نقل إلى إمرة مائة وتقدمة ألف فى دولة المظفّر أحمد ابن [الملك]«12» المؤيّد شيخ، ثم صار حاجب الحجّاب بعد الأمير طرباى، فى أواخر الدولة الصالحية محمد أو فى أوائل الدولة الأشرفية [برسباى]«13» ، ثم نقل إلى الأمير آخورية الكبرى عوضا عن الأمير قصروه من تمراز، بحكم انتقال قصروه إلى نيابة طرابلس فى أوائل صفر من سنة ست وعشرين [وثمانمائة]«14» ، وتولى الحجوبية
من بعده الأمير جرباش الكريمى المعروف بقاشق «1» ، ثم نقل من الأمير آخورية إلى إمرة سلاح بعد إينال الجكمى، واستقر عوضه فى الأمير آخورية الأمير حسين بن أحمد البهسنى التركمانى المدعو تغرى برمش، ودام على ذلك سنين إلى أن نقل إلى أتابكية العساكر بالديار المصرية، عوضا عن إينال الجكمى أيضا بحكم انتقال الجكمى إلى نيابة حلب، بعد عزل قرقماس الشعبانى وقدومه على إقطاع إينال الجكمى مقدم ألف بالقاهرة، فاستمر أتابكا إلى أن مات [الملك]«2» الأشرف [برسباى]«3» فى ذى الحجة سنة إحدى وأربعين [وثمانمائة]«4» ، بعد أن أوصى جقمق على ولده وجعله مدبّر مملكته، إلى أن صار من أمره ما رقّاه إلى السلطنة. وقد ذكرنا ذلك كلّه مفصلا، غير أننا أعدناه هنا لينتظم سياق الكلام مع سياقه- انتهى.
ولنعد «5» الآن إلى ما كنا فيه:
ولما جلس الملك الظاهر جقمق على تخت الملك وتم أمره، خلع على الخليفة وعلى الأمير [92] قرقماس وقيّد لهما فرسنين بقماش ذهب، ولقب بالملك الظاهر أبى «6» سعيد جقمق، ثم نودى فى الحال بالقاهرة ومصر بسلطنته والدعاء له، وأن النفقة لكل مملوك من المماليك السلطانية مائة دينار، فابتهج الناس بسلطنته. ثم أمر السلطان فقبض على الطواشى صفىّ الدين جوهر الجلبانى الخبشى لالا الملك العزيز وهو يومئذ زمام الدار السلطانى «7» ، وخلع على الزّينى فيروز الجاركسى الطواشى الرومى باستقراره زماما عوضا عن جوهر المذكور.
ثم أصبح فى يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الأول المذكور خلع على الأمير
قرقماس الشعبانى الناصرى- أمير سلاح المعروف بأهرام ضاغ- باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضا عن نفسه، وخلع على الأمير آقبغا التّمرازى أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضا عن قرقماس المذكور، وخلع على الأمير يشبك السّودونى حاجب الحجاب باستقراره أمير مجلس عوضا عن آقبغا التمرازى، وكان السلطان خيّر تمراز القرمشى رأس نوبة النوب فى وظيفة أمير مجلس أو الأمير آخورية الكبرى، فمال إلى الأمير آخورية الكبرى، فخلع عليه بها عوضا عن الأمير جانم الأشرفى بحكم حبسه بثغر الإسكندرية، وخلع على أركماس الظاهرى الدوادار الكبير باستمراره على وظيفة الدوادارية، وعلى الأمير قراخجا الحسنى الظاهرى باستقراره رأس نوبة النوب عوضا عن تمراز القرمشى، وعلى الأمير تغرى بردى البكلمشى المؤذى باستقراره حاجب الحجاب عوضا عن يشبك السّودونى، وعلى الأمير تنبك البردبكى أحد أمراء الألوف باستقراره فى نيابة قلعة الجبل، ثانى مرة عوضا عن تنبك النّوروزى الجقمقى، وخلع على الأمير قراجا الأشرفى فوقانيّا «1» وهو آخر من بقى من مقدمى الألوف، وباقى الإقطاعات شاغرة إلى الآن عن أصحابها، وكتب بحضور الأمير جرباش الكريمى قاشق من ثغر دمياط، وكان له به سنين كثيرة بطالا، ثم خلع السلطان على دولات باى المحمودى الساقى المؤيدى- أحد أمراء العشرات ورأس نوبة- باستقراره أمير آخور ثانيا، عوضا عن يخشباى المقبوض عليه قبل تاريخه، وعلى الأمير تنم من عبد الرزّاق المؤيدى- أحد أمراء العشرات ورأس نوبة- باستقراره محتسب القاهرة عوضا عن الإمام نور الدين السويفى، وعلى قانى باى الجاركسى- الذي تأمّر قبل تاريخه بمدة يسيرة- باستقراره شادّ الشراب خاناه عوضا عن على باى الأشرفى بحكم القبض عليه، واستمر على إمرة عشرة؛ وعلى الأمير قانى باى الأبوبكريّ الأشرفى الساقى باستقراره خازندارا عوضا عن جكم خال العزيز بحكم القبض عليه [أيضا]«2» .
ثم أنعم السلطان على جماعة كثيرة جدا باستقرارهم أمراء عشرات يطول الشرح فى ذكرهم، لأنها دولة أقيمت بعد ذهاب دولة، وتغير جميع من «1» كان من أرباب الوظائف الذين كانوا فى الدولة الأشرفية من الخاصكية وغيرهم، واستقرّ جماعة كبيرة رؤوس نوب، منهم من خلع عليه قبل أن يلبس فوقانىّ الإمرة، وهو إلى الآن بحياصة ذهب، ونالت السعادة جميع المماليك المؤيدية الأصاغر، بحيث أن بعضهم كان فقيرا يعيش بالتّكدّى فأخذ إقطاعا هائلا واستقر بوابا دفعة واحدة، وأشياء كثيرة من هذا ذكرناها فى غير هذا المحل.
ثم فى يوم الاثنين رابع عشرين شهر ربيع الأول المذكور، جلس السلطان الملك الظاهر جقمق بالمقعد المطل على الحوش، تجاه باب الحوش المذكور، وابتدأ فيه بنفقة المماليك السلطانية لكل واحد مائة دينار، واستمرت النفقة فيهم فى كل [يوم]«2» موكب، إلى أن انتهى أمرهم فيها.
ثم فى يوم الثلاثاء خامس عشرينه وصل الأمير جرباش قاشق [من ثغر دمياط]«3» فأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بالقاهرة.
ثم فى يوم الخميس سابع عشرينه عمل السلطان المولد النبوى بالحوش على العادة، وزاد فيه زيادات حسنة [93] من كثرة الأسمطة والحلاوات؛ وانفض الجميع بعد صلاة المغرب.
ثم فى يوم السبت تاسع عشرينه تجمع تحت القلعة نحو ألف مملوك من مماليك الأمراء، يريدون النفقة كما نفق على المماليك السلطانية، فأمر لهم السلطان بنفقة، فنفقت فيهم؛ ولم يكن لذلك عادة قبل تاريخه.
ثم فى يوم الاثنين ثالث «4» شهر ربيع الآخر قبض السلطان على تاج الدين
عبد الوهاب الأسلمى- المدعو بالخطير- ناظر الإسطبل السلطانى وعلى ولديه، والثلاثة أشكال عجيبة.
وفيه كانت [مبادئ]«1» وقعة قرقماس مع الملك الظاهر جقمق، وخبره أنه لما كان يوم الثلاثاء المذكور، ثار جماعة كبيرة من المماليك القرانيص ممن كان قام مع الملك الظاهر جقمق، على المماليك الأشرفية، وطلبوا زيادة جوامكهم ورواتب لحمهم، ووقفوا تحت القلعة فأرسل إليهم السلطان يعدهم بعمل المصلحة، فلم يرضوا بذلك وأصبحوا من الغد فى يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الآخر على مواقفهم. وركب السلطان ولعب الكرة بالحوش السلطانى مع الأتابك قرقماس الشعبانى وغيره من الأمراء إلى أن انتهى لعبهم، فأسرّ بعض من تأمّر من المماليك المؤيّدية إلى السلطان، بأن الأتابك قرقماس يريد الركوب على السلطان، فنهره السلطان واستبعد وقوع ذلك من قرقماس، لا سيما فى هذا اليوم.
هذا وقد كثر جمع المماليك السلطانية من الأشرفية وغيرهم، ووقفوا تحت القلعة كما كانوا فى أمسه، ثم [وقفوا]«2» عند باب المدرج أحد أبواب القلعة، وصاروا كلما نزل أمير من الخدمة السلطانية اجتمعوا به وكلموه فى عمل مصالحهم، ووقع لهم ذلك مع جماعة كبيرة من الأمراء، إلى أن نزل الأتابك قرقماس فأحاطوا به وحدثوه فى ذلك وأغلظوا فى حق السلطان، فوعدهم قرقماس بأنه يتحدث بسببهم مع السلطان، وبشّ لهم وألان معهم فى الكلام، فطمعوا فيه وأبوا أن يمكنوه من الرجوع إلى السلطان، وكلموه فى الركوب على السلطان وهم يوافقوه على ذلك، فأخذ يمتنع تمنعا ليس بذاك.
وظهر من كلامه فى القرائن أنه يريد كثرة من يكون معه، وأن ذلك لا يكون فى هذا اليوم، فلما فهموا منه ذلك تحركت كوامن المماليك الأشرفية من الملك
الظاهر جقمق، [و]«1» انتهزوا الفرصة وقصدوا الركوب ووقوع الحرب فى الحال، بجهل وعدم دربة بالوقائع والحروب، وأخذوه ومضوا وهم فى خدمته إلى بيته، وكان سكنه بملكه بالقرب من المدابغ خارج باب زويلة. وتلاحق بهم جماعة كثيرة من أعيان المماليك السلطانية وبعض الأمراء وعليهم السلاح، وراودوه على الركوب فلم يعجبه ذلك، وقال لهم ما معناه أن له أصحابا «2» وخجداشية كثيرة وجماعة من أكابر الأمراء لهم معه ميل وغرض، فاصبروا إلى باكر النهار من الغد لنتشاور معهم فى أمرنا هذا وفيما نفعله، فامتنعوا من ذلك وأظهروا له إن لم يركب فى هذا اليوم لم يوافقوه بعد ذلك.
وكان جمعهم قد كثر إلى الغاية، ولكن غالبهم المماليك الأشرفية، وكان الذي قال له ذلك الأمير مغلباى الجقمقى أستادار الصحبة على لسان بعض أصحابه، وقيل إن قرقماس أراد بهذا الكلام توقفهم حتى يتفرقوا عنه ثم يصعد هو إلى القلعة ويعلم السلطان بذلك.
وعندى أن الصحيح [أنه]«3» لم يرد بقوله هذا إلا تحكيم أمره حتى يأتوه من الغد بجموعهم، ويأخذوه غصبا كما فعل القوم بالملك الظاهر جقمق، ويجتمع عليه حواشيه وأصحابه- وأنا أعرف بحاله من غيرى- فأبوا عليه وألحوا فى ركوبه فى الوقت، وخوّفوه تفرّق من اجتمع عليه فى هذا اليوم، وكانوا خلائق كثيرة إلى الغاية. فنظر عند ذلك فى أمره، فلم يجد بدا من موافقتهم وركوبه معهم فى هذا اليوم لما فى نفسه من الوثوب على السلطنة [والاستبداد بالأمر]«4» ، وكان فيه طيش وخفة [فى صفة]«5» عقل ورزانة [94] لا يفهم منه ذلك إلا من له ذوق ومعرفة بنقد الرجال.
وخاف قرقماس إن لم يركب فى هذا اليوم وأراد الركوب بعد ذلك، لا يوافقه أحد من
هؤلاء، فينحلّ بذلك برمه ويطول عليه الأمر، لعظم ما كان داخله الحسد للملك الظاهر جقمق، ولله دار القائل:«الحاسد ظالم فى صفة مظلوم مبتلى غير مرحوم» .
وأحسن من هذا قول القائل، وهو لسان حال الملك الظاهر جقمق:[الطويل]
وكلّ أداريه على حسب حاله
…
سوى حاسدى فهى التى لا أنالها
وكيف يدارى المرء حاسد نعمة
…
إذا كان لا يرضيه إلا زوالها
فعند ذلك قام ولبس آلة الحرب هو ومماليكه، وركب من وقته قريب الظهر من يوم الأربعاء رابع شهر ربيع الآخر المذكور، وخرج من بيته بعساكر عظيمة، ومعه أمراء العشرات: الأمير أزبك السيفى قانى باى نائب الشام المعروف بأزبك جحا، والأمير جانم الأشرفى [المعروف برأس نوبة سيّدى، وكلاهما أمير غشرة «1» ، وقد وافقه غيرهما مثل الأمير قراجا]«2» الأشرفى أحد مقدمى الألوف، والأمير مغلباى الجقمقى أستادار الصحبة، ووعداه أنهما يوافياه «3» بمماليكهما «4» بالرملة.
وخرج الأمير قرقماس من بيته بجموعه فوافيته خارج باب زويلة من غير ميعاد، وسرت معه، وصحبته عساكر كثيرة من الأشرفية وغيرهم، وأنا بجانبه. فتأملت فى أمره فلم يعجبنى حاله، لاضطراب عساكره ولعدم من يرأسهم من أعيان الأمراء ممن مرّت بهم التجارب، وأيضا لكثرة قلقه فى مسيره وعدم ثباته فى كلامه، وظهر لى منه أيضا أنه لم يعجبه ما هو فيه من اختلاف كلمة من هو معه من المماليك السلطانية وآرائهم المفلوكة وكثرة هرجهم، ثم صار يقول فى مسيره: الله ينصر الحق، فيقول آخر: الله ينصر الملك العزيز يوسف، ويقول آخر: الله ينصر الأمير قرقماس، ومنهم من قال: الله ينصر السلطان، ولم أدر أىّ سلطان قصد؛ كل ذلك فى تلك المسافة القريبة من بيته إلى الرملة.
ثم كشف قرقماس رأسه وصاح: «الله ينصر الحق» غير مرة، فتعجبت أنا من دعائه، لأىّ حق يريد؟ فلما أن كشف رأسه تفاعل الناس بخذلانه، وظهر لى منه أيضا أنه كان يتخوف من المماليك الأشرفية، لما بلغنى بعد ذلك أنه بلغه فى اليوم المذكور أنهم إذا انتصروا على [الملك]«1» الظاهر جقمق وملكوا القلعة ضربوا رقبة قرقماس، فنفر خاطره من ذلك. وكأنه بلغه ذلك بعد ركوبه وشروعه فيما هو فيه، فبقى لا يمكنه إلا الإتمام، لأن الشروع ملزم؛ والمقصود أنه سار إلى أن وصل قريبا من جامع السلطان حسن، فوافاه الأمير قراجا بطلبه ومماليكه وعليهم السلاح، والأمير مغلباى الجقمقى، وسارا معه من تحت مدرسة السلطان حسن إلى بيت قوصون تجاه باب السلسلة.
وكان يسكنه يوم ذاك الأمير أركماس الظاهرى الدوادار الكبير، وقد أغلقه مماليك أركماس [المذكور]«2» ، فقصد قرقماس [المذكور]«3» عبور البيت المذكور فوجده مغلقا، ثم دخله بعد أمور، فإذا بأركماس الظاهرى قد خرج من باب سرّ البيت المذكور، ومضى إلى حال سبيله [محمولا]«4» لعجزه عن الحركة لوجع كان يعتريه برجليه، وأيضا لم يكن من هذا القبيل.
وملك قرقماس البيت ودخله، وأخذ فيما يفعله مع عساكر السلطان من القتال وغيره، فلم ينتظم له أمر ولا رتب له طلب من كثرة الغوغاء والهرج، حتى أن باب السلسلة كان مفتوحا منذ قدم قرقماس إلى الرملة وأخذ بيت أركماس الظاهرى، والأمير تمراز القرمشى الأمير آخور الكبير لم يلتفت إلى غلقه ولا تحرك من مجلسه ولا ألبس أحدا من مماليكه السلاح، ومن عظم تراخيه فى ذلك «5» نسبوه للمالأة مع قرقماس- ولا يبعد ذلك. ومع هذا كله لم يلتفت أحد من أصحاب قرقماس إلى أخذ باب السلسلة، ولا سار أحد إلى جهته جملة كافية، لعظم
اضطرابهم وقلة سعدهم. [95] كل ذلك والسلطان الملك الظاهر إلى الآن بالقلعة فى أناس قليلة من خواصه، وهو لا يصدّق ما قيل له فى حق قرقماس، إلى أن حضر قرقماس إلى الرملة وملك بيت قوصون، فعند ذلك ركب من الحوش السلطانى ونزل فى أمرائه الصغار وخاصكيّته إلى باب السلسلة وجلس بالمقعد المطل على الرميلة، وقد صحب معه فرسا عليه قماش ذهب يوهم به أنه لأجل قرقماس إذا طلع إليه طائعا، وأن قرقماس أرسل يقول له أنه يريد أن يفر من المماليك الأشرفية ويطلع إلى القلعة، فأمسك بهذه الحركة جماعة كبيرة عن التوجه إلى قرقماس من خجداشيته وأصحابه.
وكان هذا الذي فعله [الملك]«1» الظاهر من أكبر المصالح، فإن كان على حقيقته فقد نفع، وإن كان حيلة من [الملك]«2» الظاهر جقمق فكانت فى غاية الحسن ومن أجود الحيل.
ولما جلس الملك الظاهر بالمقعد من الإسطبل السلطانى المطل على الرميلة، نزلت جماعة من خاصكيّته مشاة وعليهم السلاح وناوشوا القرقماسية بالقتال قليلا. ثم أمر السلطان فنودى: من كان من حزب السلطان فليتوجه إلى بيت الأمير آقبغا التّمرازى أمير سلاح، وكان سكن آقبغا المذكور بقصر بكتمر الساقى بالقرب من الكبش تجاه مدرسة سنجر الجاولى «3» ، فلما سمع الأمراء والمماليك المناداة ذهبوا إلى بيت الأمير آقبغا التمرازى، فاجتمع عنده خلائق وجماعة كبيرة من الأمراء، فممن اجتمع عنده من مقدمى الألوف: الأمير قراخجا الحسنى رأس نوبة النوب، وحاجب الحجاب تغرى بردى البكلمشى المؤذى، ومن الطبلخاناه وغيرهم: الأمير أسنبغا الطّيّارى وعدة كبيرة.
ثم أرسل آقبغا التمرازى رأس نوبته لكشف خبر قرقماس ومن وافقه من الأمراء، فتوجه المذكور وعاد إليه بالخبر أنه ليس معه من الأمراء إلا قراجا وأزبك جحا ومغلباى الجقمقى وجانم الأشرفى، فقال آقبغا: إذن فلا شىء. وركب فرسه وركب الأمراء معه بمن انضم عليهم من المماليك السلطانية، وساروا إلى أن وصلوا إلى صليبة أحمد بن طولون عند الخانقاه الشيخونية، ووقفوا هناك وتشاوروا فى مرورهم إلى باب السلسلة، وقد ملأت عساكر قرقماس الرميلة «1» ؛ فمن الناس من قال: نتوجه من على المشهد النّفيسى إلى باب القرافة ثم نطلع إلى القلعة، ومنهم من قال غير ذلك.
وبينما «2» هم فى ذلك، ورد عليهم الخبر أن الأمير قراجا ومغلباى الجقمقى خرجا من عسكر قرقماس ولحقا بالسلطان؛ فعند ذلك قوى عزم الأمراء على الطلوع إلى القلعة من سويقه منعم «3» ، فساروا بمن معهم إلى أن صاروا بآخر سويقة منعم فحركوا خيولهم يدا واحدة، إلى أن وصلوا إلى القلعة، بعد أن كبا بآقبغا التمرازى فرسه ثم قام به ولم يفارق السرج. وطلعوا الجميع إلى القلعة، وقبلوا الأرض بين يدى السلطان، فأكرمهم السلطان غاية الإكرام وندبهم لقتال قرقماس، فنزلوا من وقتهم بأطلابهم ومماليكهم، وقد انضم معهم جميع أمراء الألوف وغيرها، وصفّ آقبغا عساكره والأطلاب الذين معه «4» ، وقبل أن يعبّى عساكر السلطان صدمته القرقماسية من غير تعبية ولا مصاففة، لأن قرقماس لما وقف تجاه باب السلسلة لم يقدر على تعبية عساكره لكثرة المماليك وقلة من معه من الأمراء، ووقف هو بينهم فى الوسط، ولم يكن لمعسكره قلب ولا ميمنة ولا ميسرة، وذلك لقلة معرفة أصحابه بممارسة الحروب وتعبية العساكر، وكان ذلك من أكبر الأسباب فى هزيمة قرقماس، فإنه تعب فى موقفه ذلك اليوم غاية التعب، فصار
تارة يكرّ فى الميمنة [وتارة فى الميسرة]«1» وتارة يقاتل بنفسه حتى أثخن جراحه، وتارة يعود إلى سنجقه، ولم يقع ذلك لعساكر السلطان فإن غالبهم كانوا أمراء ألوف وطبلخانات وعشرات، فأما مقدمو «2» الألوف فوقفت أطلابهم تحت القلعة تجاه قرقماس، كلّ طلب على حدته، فصاروا كالتعبية.
[96]
وبرزت الأمراء والخاصكيّة لقتال قرقماس، طائفة بعد أخرى، هذا مع معرفتهم بمكايد الحروب وأحوال الوقائع، وآقبغا التمرازى فى اجتهاد يعبى العساكر السلطانية ميمنة وميسرة وقلبا «3» وجناحين، وكان قصده تعبية المجنّح فلم يمهله القرقماسية، وبادروه بالقتال والنزال من غير إذن قرقماس، فتصادم الفريقان غير مرة، والهزيمة فيها على السلطانية، وتداول ذلك بينهم مرارا كثيرة. واشتد القتال وفشت الجراحات فى الطائفتين، وقتل الأمير جكم النّوروزى أحد أمراء العشرات بوسط الرملة وهو من حزب السلطان، كل ذلك ومنادى قرقماس ينادى فى الناس: من يأتى قرقماس من المماليك السلطانية فله مائتا دينار، ومن يأتيه من الزّعر فله عشرون دينار، فكثر جمعه من الزّعر والعامة، فأخذ [الملك]«4» الظاهر جقمق ينثر الذهب على الزّعر فمالوا إليه بأجمعهم، وقال لسان حالهم:«درّة معجّلة ولا درّة مؤجّلة» .
ثم أمر السلطان بمناد فنادى من أعلى سور القلعة: «من كان فى طاعة السلطان فليحضر وله الأمان كائن من كان وله كذا وكذا» ، وأوعد بأشياء كثيرة. كل ذلك والقتال فى أشد ما يكون، ولم يكن غير ساعة جيدة إلا وأخذ عسكر قرقماس فى تقهقر، وتوجهت الناس إلى السلطان شيئا بعد شىء. وكان جماعة من أصحابنا من الناصرية وقفوا عند الصّوّة من تحت الطبلخاناه [السلطانية]«5» حتى يروا ما يكون
من أمر خشداشهم الأتابك قرقماس، وهواهم وميلهم إليه، فإنه قيل فى الأعصار الخالية:«لا أفلح من هجيت قبيلته» ؛ فلما رأوا أمر قرقماس فى إدبار، وأخذ أصحابه فى التفرق عنه، انحازوا بأجمعهم إلى جهة باب السلسلة، وأظهر كل واحد منهم أنه كان «1» ممن قاتل قرقماس. ولم يخف ذلك على [الملك]«2» الظاهر، لكنه لم يسعه يوم ذاك إلا السكات. وبالله لقد رأيت الأمير آقبغا التركمانى الناصرى وهو يدق بزخمته على طبله، ويندب الناس لأخذ قرقماس بعد أن أشرف على الهزيمة، وعبرته قد خنقته حتى إنه لا يستطيع الكلام من ذلك.
ولما كان بين الظهر والعصر أخذ قرقماس فى إدبار، واضمحلت عساكره وذهبت أصحابه، وجرح هو فى وجهه ويده، وكلّ وتعب، وانفلت عنه جموعه، وصار الرجل من أصحابه يغير لبسه ثم يطلع فى الحال إلى القلعة حتى ينظره السلطان، هذا والرمى عليه من أعلى القلعة مترادف بالسهام والنفوط.
وكان أصحاب قرقماس فى أول حضوره إلى الرميلة اقتحموا باب السلطان حسن فلم يقدروا على فتحه، فأحرقوه ودخلوا المدرسة وصعدوا على سطحها وأرموا على السلطان وهم أيضا «3» بالنشاب والكفيات، إلى أن أبادوا القلعيين، ومع هذا كله وأمر قرقماس فى إدبار.
وقبل أن تقع الهزيمة على عساكر قرقماس من الذين ثبتوا معه، فرّهو فى العاجل فانهزم عند ذلك عسكره بعد أن ثبتوا بعد ذهابه ساعة، ثم انقلبوا وولوا الأدبار فما أذّن العصر إلا وقد تمت الهزيمة [بعد أن جرح خلائق من الطائفتين]«4» ، فكان ممن جرح من أعيان السلطانية: الأمير آقبغا التّمرازى أمير سلاح، والأمير تغرى بردى
المؤذى حاجب الحجاب برمح أخرق شدقه، لزم منه الفراش مدة طويلة وأشرف على الموت، والأمير أسنبغا الطيارى أيضا من طعنة رمح أصابه فى ضلعه، وجماعة كثيرة من الخاصكية والمماليك يطول الشرح فى تسميتهم.
وعند ما انهزمت عساكر قرقماس أخذوا سنجقه وطلعوا به إلى السلطان، وفرّ قرقماس فلم يعرف أين ذهب؛ فتوهّم السلطان أنه توجّه إلى جهة الشام فندب الأمير آقبغا التمرازى فى جماعة إلى جهة الخانقاه، فسار إلى أن قارب المرج والزيّات، فلم يجد فى طريقه أثر أحد من العساكر، فعلم أن قرقماس اختفى بالقاهرة، فعاد.
وأما الزّعر، فإنهم لما رأوا الهزيمة على القرقماسية [97] أخذوا فى نهبهم، ثم توجهوا إلى داره فنهبوها وأخذوا جميع ما فيها، وفى الحال سكنت الفتنة وفتحت الدكاكين، ونودى بالأمان والبيع والشراء. وأخذ أهل الحرس فى تتبع قرقماس وحواشيه، وندب السلطان أيضا جماعة من خواصه فى الفحص عن أمره، وما أمسى الليل حتى ذهب أثر الفتنة كأنها لم تكن، وبات الناس فى أمن وسلام.
وأما السلطان فإنه لما تحقق هزيمة قرقماس، قام من مجلسه بمقعد الإسطبل وطلع إلى القلعة مؤيدا منصورا كأول يوم تسلطن، فإنه كان فى بحران كبير من أمر قرقماس وشدة بأسه وعظم شوكته وجلالته فى النفوس. وقد كان [الملك]«1» الظاهر يتحقق أن قرقماس لا بد له من الركوب عليه، لحبه للرئاسة وتشغّب «2» رأسه بالسلطنة، ولا يمكنه القبض عليه لاضطراب أمره كما هى أوائل الدول، فكان السلطان يريد مطاولته من يوم إلى يوم، إلى أن يتمكن منه بأمر من الأمور، فعجّل الله له أمره بعد شدة هالته عقبها فرج وأمن.
ولما أصبح يوم الخميس خامس شهر ربيع الآخر، عملت الخدمة السلطانية بالقصر
السلطانى، وطلع القضاة والأعيان وهنّأوه «1» بالنصر والظفر، وقد وقف على باب القصر جماعة من أمراء المؤيدية الرءوس نوب، مثل جانبك المحمودى، وعلى باى العجمى، وأمثالهما «2» ، ومنعوا المماليك الأشرفية من الدخول إلى الخدمة السلطانية؛ وصار كل واحد منهم يضرب المملوك من الأشرفية على رأسه وأكتافه بالعصى حتى يمنعه من الدخول. هذا بعد أن يوسعه سبّا وتوبيخا، وقطع رواتب جماعة كثيرة منهم.
ثم أمر السلطان القضاة، فجلسوا بجامع القلعة، بسبب قطع سلالم مآذن المدرسة الحسنية «3» ، فحكم قاضى القضاة شمس الدين محمد بن البساطى المالكى بقطعها، وألزم الناظر على المدرسة بقطع السلالم المذكورة، فقطعت فى الحال.
ثم أمر السلطان بالفحص عن قرقماس، ونودى عليه بشوارع القاهرة، وهدّد من أخفاه، فظفر به من الغد فى يوم الجمعة سادس شهر ربيع الآخر، وكان من خبره:
أنه لما انهزم سار وحده إلى جهة الرّصد «4» ، وقيل معه واحد من حواشيه، فأقام به نهاره، ثم عاد من ليلته- وهى ليلة الخميس- إلى جهة الجزيرة، ثم مضى منه إلى بستانه بالقرب من موردة الجبس «5» وقد ضاقت عليه الدنيا بأسرها، وكاد يهلك من الجوع [والعطش]«6» ، فلما رأى ما حل به، بعث إلى الزينى عبد الباسط يعرفه بمكانه، ويأخذ له أمانا من السلطان. فركب عبد الباسط فى الحال وطلع إلى السلطان
فى بكرة يوم الجمعة المذكور، وعرّفه بأمر قرقماس، فندب السلطان ولده المقام الناصرى محمدا للنزول إليه، فركب وسار فى خدمته عبد الباسط حتى أتوا إلى موضع كان فيه قرقماس.
حدّثنى المقام الناصرى محمد المذكور، قال: لما دخلت على قرقماس قام إلىّ وانحطّ يقبل قدمى فمنعته من ذلك فغلبنى وقبّل قدمى، ثم يدى، ثم شرع يتخضّع إلىّ ويتضرع، وقد علاه الذل والصغار، ولم أر فى عمرى رجلا ذلّ كذلته، ولا جزع جزعه، وأخذت أسكّن روعه، وجعلت فى عنقه منديل الأمان الذي أرسله والدى إليه، فقبل يدى ثانيا ثم أراد الدخول تحت ذيلى، فلم أمكنه من ذلك إجلالا له، ثم خرجنا من ذلك المجلس وركبنا وأركبناه فرسا من جنائبى، ومضينا به إلى القلعة، وهو فى طول طريقه يبكى ويتضرع إلىّ بحيث أنه رقّ عليه قلبى، وكلما مررنا به على أحد من العامة، شتمه ووبخه، وأسمعه من المكروه مالا مزيد عليه، حتى لو أمكنهم رجمه لرجموه.
هذا ما حكاه المقام الناصرى، ولما أن وصل قرقماس إلى القلعة، وبلغ السلطان وصوله جلس على عادته، فحال ما مثل بين يديه خرّ على وجهه يقبل الأرض، ثم قام ومشى قليلا، ثم خرّ وقبّل الأرض ثانيا، هذا ووجهه صار «1» كلون الزعفران من الصفار وشدة الخوف، فلما قرب من السلطان أراد أن يقبل رجله، فمنعوه أرباب الوظائف من ذلك، ثم أخذ يتضرع، فلم يطل السلطان وقوفه [98] ووعده «2» بخير على هينته.
ثم أمر به، فأخذ وأدخل إلى مكان بالحوش، فقيّد فى الحال، وهو يشكو الجوع، وذكر أنه من يوم الوقعة ما استطعم بطعام، فأتى له بطعام فأكله، وقد زال عنه تلك الأبهة والحشمة من عظم ما داخله من الخوف والذل، ولهجت العامة تقول فى الطرقات:
«الفقر والإفلاس ولا ذلتك يا قرقماس» . قلت: وما أبلغ قول القائل فى معناه:
[الوافر]
أرى الدنيا تقول بملء فيها
…
حذار حذار توبيخى وفتكى
ولا يغرركم منّى ابتسام
…
فقولى مضحك والفعل مبكى
وأبلغ من هذا قول أبى نواس [فى الزهد]«1» : [الطويل]
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشّفت
…
له عن عدوّ فى ثياب صديق «2»
ولما أمسك قرقماس المذكور تمّ سرور السلطان، وهدأ «3» سرّه، وأخذ فى مسك جماعة من أعيان الأشرفية، فأمسك فى يوم واحد أزيد من ستين خاصكيّا من أعيان المماليك الأشرفية، وحبس الجميع بالبرج من قلعة الجبل.
ثم فى يوم السبت سابع ربيع الآخر، خلع السلطان على الأمير آقبغا التّمرازى أمير سلاح، باستقراره أتابك العساكر عوضا عن قرقماس المقدم ذكره، وخلع على يشبك السّودونى أمير مجلس، باستقراره أمير سلاح عوضا عن آقبغا التّمرازى، وعلى الأمير
جرباش قاشق، باستقراره أمير مجلس عوضا عن يشبك المذكور. وفى هذا اليوم أيضا أنزل بالأمير «1» قرقماس الشعبانى المقدم ذكره مقيدا من القلعة على بغل على العادة إلى الإسكندرية، بعد أن سمع من العامة مكروها كثيرا إلى الغاية، كل ذلك لأنه كان لما ولى الحجوبية بالديار المصرية، شدّد على الناس وعاقب على المسكرات العقوبات الخارجة عن الحد، فإنه كان فيه ظلم وجبروت، فلما أن وقع له ما وقع، صار من كان «2» فى نفسه شىء، انتقم منه فى هذا اليوم، ويوم طلوعه، فنعوذ بالله من زوال النعم.
ثم فى يوم الاثنين تاسعه، قرئ عهد السلطان الملك الظاهر جقمق، بالقصر السلطانى من قلعة الجبل، وقد حضر الخليفة أمير المؤمنين أبو الفتح داؤد، والقضاة الأربعة «3» ، وتولى قراءته كاتب السر الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وكان العهد من إنشاء القاضى شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر. ولما انتهى كاتب السر من قراءة العهد، خلع السلطان على الخليفة والقضاة، وعلى كاتب السر ونائبه شرف الدين المذكور، وانفض الموكب.
ثم فى يوم السبت رابع عشر شهر ربيع الآخر، أنعم السلطان على الأمير قراجا الأشرفى أحد مقدمى الألوف، بإقطاع الأتابك آقبغا التّمرازى، بحكم انتقال آقبغا على إقطاع الأتابك قرقماس الذي هو برسم من يكون أتابك العساكر، وكان السلطان زاد قرقماس تقدمة أخرى، زيادة على إقطاع الأتابكية يترضاه بذلك، فلم ينعم السلطان بالزيادة على آقبغا: بل أنعم بها على بعض الأمراء، وأنعم السلطان بتقدمة قراجا على الأمير ألطنبغا المرقبى المؤيدى، الذي كان ولى حجوبية الحجّاب فى الدولة المؤيدية، وكان له مدة طويلة بطّالا، ثم صار أمير عشرة، وأنعم السلطان بإمرة مائة وتقدمة ألف على الأمير إينال الأبوبكريّ الأشرفى، عوضا عن قرقماس، وهذه التقدمة التى كانت مع قرقماس زيادة
على إقطاع الأتابكية المقدم ذكرها، وأنعم بإقطاع إينال ووظيفته الدوادارية الثانية على الأمير أسنبغا الطيّارى الحاجب الثانى.
وفيه حضر المقرّ الكمالى محمد بن البارزى من دمشق بطلب، بعد أن تلقاه جميع أعيان الديار المصرية، وأصبح من الغد فى يوم الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر المذكور، خلع السلطان عليه باستقراره فى كتابة السر الشريف بالديار المصرية، عوضا عن الصاحب بدر الدين بن نصر الله بحكم عزله، وهذه ولاية [99] كمال الدين المذكور لوظيفة كتابة السر ثالث مرة، وهى أعظم ولاياته، لأنه صار صهر السلطان وكاتب سره.
وفى يوم الثلاثاء هذا، خلع السلطان على الأمير أسنبغا الطيّارى بالدوادارية الثانية، وخلع على الأمير يلبغا البهائى «1» الظاهرى أحد أمراء العشرات، باستقراره حاجبا ثانيا، عوضا عن أسنبغا الطيّارى.
ثم فى يوم الخميس تاسع عشره، خلع السلطان على الأمير إينال الأبوبكريّ الأشرفى باستقراره أمير حاجّ المحمل، وأنعم عليه بعشرة آلاف دينار. هذا والقبض على المماليك الأشرفية مستمر فى كل يوم، وكل من قبض عليه منهم، أخرج إقطاعه ووظيفته، وحبس بالبرج من القلعة؛ وقد عيّن السلطان جماعة منهم للنفى إلى الواحات.
ثم فى يوم الأربعاء خامس عشرينه، أخرج السلطان جماعة كبيرة من المماليك الأشرفية من برج القلعة، وأمر بنفيهم إلى الواحات؛ فخرجوا من القاهرة من يومهم، وكانوا عدة كبيرة.
[ثم]«2» فى يوم السبت خامس جمادى الأولى، رسم السلطان بالإفراج عن الأمير خشقدم الطّواشى اليشبكى مقدم المماليك كان، ونائبه فيروز الرّكنى من
سجن الإسكندرية، ورسم لها بالتوجه إلى دمياط على حمل خمسة عشرة ألف دينار.
وفيه ورد كتاب الأمير حسين بن أحمد، المدعو تغرى برمش نائب حلب، على السلطان، يتضمن: أنه مقيم على طاعة السلطان، وأنه لبس التشريف المجهز له، وقبّل الأرض؛ فلم يكترث الملك الظاهر بذلك، وكتب ملطّفات إلى أمراء حلب، بالقبض عليه إن أمكنهم ذلك.
ثم فى ثامن جمادى الأولى، استقر الشريف صخرة بن مقبل بن نخبار، فى إمرة الينبع، عوضا عن الشريف عقيل بن زبير بن نخبار
ثم فى يوم الخميس عاشره، استقر زين الدين يحيى بن كاتب حلوان الأشقر، المعروف بقريب ابن أبى الفرج، ناظر الإسطبل السلطانى، على مال بذله فى ذلك، بعد سعى كبير؛ وخلع السلطان أيضا على محمد الصغير، معلّم النّشّاب، أحد ندماء السلطان، باستقراره فى نيابة دمياط، بعد عزل الأمير أسنباى الزّردكاش الظاهرى.
ثم فى يوم الثلاثاء خامس [عشر]«1» جمادى الأولى المذكور، طلب السلطان الشيخ حسن العجمى، أحد ندماء [الملك]«2» الأشرف برسباى، فلما مثل «3» بين يديه، تقدم الشيخ حسن المذكور «4» ليقبل يد السلطان فضربه السلطان بيده على خده [لطشة]«5» كاد أن يسقط منها إلى الأرض، ثم أمر به فعرّى وضرب بالمقارع ضربا مبرحا، وشهر بالقاهرة، ثم سجن ببعض الحبوس، وذلك لسوء سيرة حسن المذكور وقلة أدبه مع الأمراء فى أيام [الملك]«6» الأشرف [برسباى]«7» .
وكان أصل هذا حسن من أوباش الأعاجم المولدة من الجغتاى، واتصل [بالملك]«8»
الأشرف بعد سلطنته بسنين، ونادمه واختص به، فنالته السعادة وعمّر له الملك الأشرف زاوية بالصحراء بالقرب من تربة [الملك]«1» الظاهر برقوق، وأوقف عليها وقفا جيدا، وكان حسن المذكور، فى أيام أستاذه [الملك]«2» الأشرف، يدخل إلى أكابر الأمراء ويكلفهم ويأخذ منهم ما أراد من غير تحشّم وعدم اكتراث بهم، فكأنه طرق [الملك]«3» الظاهر جقمق وفعل معه ذلك، فأسرّها [الملك]«4» الظاهر له إلى وقتها؛ مع ذنوب أخر، حتى فعل معه ما فعل؛ ثم نفاه إلى قوص، فدام به إلى أن مات فيما أظن.
ثم جهّز السلطان الأمير سودون المحمدى، وخلع عليه بنظر مكة المشرفة، وندبه أيضا لقتال عرب بلىّ، وصحبته جماعة من المماليك السلطانية، وعرب بلىّ هؤلاء [هم]«5» الذين فعلوا بالحجاج ما فعلوه فى موسم السنة الخالية. وندب بعده أيضا الشهابى أحمد بن إينال اليوسفى، أحد أمراء العشرات، لإصلاح مناهل الحجاز وتقوية لسودون المحمدى. ثم خلع السلطان على الأمير أقبغا من مامش التركمانى الناصرى، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، باستقراره فى نيابة الكرك، بعد عزل الصاحب خليل بن شاهين الشّيخى، وانتقاله إلى أتابكية صفد.
ثم فى يوم الخميس أول شهر رجب، أنفق السلطان فى المماليك [100] السلطانية نفقة الكسوة، وكانت عادتهم أن يدفع لكل واحد منهم خمسمائة درهم من الفلوس، فلما قرب أوان تفرقة الكسوة، وقفوا فى يوم الاثنين ثامن عشرين جمادى الآخرة وطلبوا أن ينفق فيهم، عن ثمن الكسوة عشرة دنانير
لكل واحد، فما زالوا به حتى أنفق فيهم ألف درهم الواحد، ولكل خاصكى ألفا «1» وخمسمائة.
وفيه رسم السلطان، بأن يكون نواب القاضى الشافعى خمسة عشر، وثواب الحنفى عشرة، ونواب المالكى والحنبلى أربعة أربعة، ووقع ذلك أياما، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه.