الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 846]
السنة الخامسة من سلطنة الملك الظاهر جقمق على مصر وهى سنة ست وأربعين وثمانمائة.
وفيها توفى الشيخ الإمام العالم العامل العلامة، نور الدين عبادة بن على بن صالح بن عبد المنعم بن سراج بن نجم بن فضل [ابن فهد بن عمر، والعلامة زين الدين الأنصارى الخزرجى]«1» الزّرزاوى الفقيه المالكى المعروف بالشيخ عبادة [180] ، شيخ السادة المالكية، وعالمها بالديار المصرية، فى يوم الجمعة سابع شوال، وصلى عليه صاحبه الشيخ مدين بجامع الأزهر. ومات ولم يخلّف بعده مثله علما ودينا. وكان مولده فى جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة ببلده زرزا «2» ، وطلب العلم وسمع الحديث واشتغل على علماء عصره، حتى برع فى الفقه والأصلين والعربية، وأفتى ودرّس، واشتغل سنين كثيرة، وانتفع به الطلبة، وسئل بالقضاء بعد موت العلامة شمس الدين البساطى المالكى، فامتنع، فألح عليه السلطان بالولاية، وألزمه بها غصبا، فلما رأى تصمّم السلطان على ولايته، وأنه لا يستطيع دفعه، قال:«حتى أستخير الله» . وفرّ من يومه من القاهرة، واختفى ببعض الأماكن، إلى أن ولّى السلطان القاضى بدر الدين محمد بن التّنسى، فلما بلغه ذلك حضر [إلى]«3» القاهرة بعد أيام كثيرة.
وهذا شىء لم يقع لغيره فى عصرنا هذا، فإننا لا نعلم من سئل بالقضاء وامتنع غيره، وأما سواه فهم «4» على أقسام: قسم يتنزه عن الولاية، [و]«5» يظهر ذلك حيلة، حتى يشاع عنه ذلك، فإذا طلب بعد ذلك للقضاء يأخذ فى التمنع، وفى ضمن
تمنعه يشرط على السلطان شروطا، يعلم هو وكلّ أحد أنها لا تتم له، وإنما يقصد بذكرها إلا نوعا من الإجابة، لكونه كان امتنع أولا، فلا يمكنه القبول إلا بهذه الدورة، فلم يكن بمجرد ذكره للشروط، إلا وقد صار فى الحال قاضيا؛ ووقع ذلك لجماعة كثيرة فى عصرنا.
وقسم آخر: [هم]«1» الذين يسعون فى الولاية سعيا زائدا، ويبذلون الأموال، ويتضرعون لأرباب الدولة، ويخضعون لهم، وهيهات! هل يسمح لهم بذلك أم لا! فلله درّ الشيخ عبادة فيما فعل، لأننا شاهدنا منه ما سمعناه عن السلف، ورأينا من زهده وعفته ما ورثه عنه الخلف. واستمر بعد ذلك سنين على حاله من ملازمة العلم والعمل، إلى أن مات رحمه الله تعالى «2» .
وتوفى قاضى القضاة عزّ الدين عبد العزيز «3» بن العز البغدادى الحنبلى، قاضى قضاة الحنابلة بالديار المصرية، ثم بدمشق، [و]«4» بها مات فى أواخر هذه السنة؛ وتولى عوضه قضاء دمشق ابن مفلح [على عادته]«5» أولا، وكان القاضى عزّ الدين فقيها دينا متقشفا، عديم التكلف فى ملبسه ومركبه، مع دهاء ومكر ومعرفة تامة، وقد مرّ من ذكره، أنه لما ولى القضاء بالديار المصرية، صار يمشى فى الأسواق لحاجته ويردف عبده على بغلته، وأشياء من هذا النسق. وكانت «6» جميع ولاياته من غير سعى، وكان يصحب الوالد، واستمرت الصحبة بيننا إلى أن مات رحمه الله.
وتوفى جمال الدين عبد الله [بن الحسن بن على بن محمد بن عبد الرحمن الدمشقى
الأصل] «1» الأذرعى «2» ، أخو الإمام شهاب الدين، بالقاهرة فى يوم الاثنين سابع عشر شوال؛ وكان عاريا من كل علم وفن.
وتوفى الشيخ الواعظ جمال الدين السنباطى الشافعى، أحد نواب الحكم بالقاهرة، فى يوم الخميس تاسع عشرين شهر رمضان، بعد مرض طويل عن ثمانين سنة؛ وكان يعمل المواعيد «3» بالمساجد والجوامع، وعلى وعظه أنس ورونق، وكان يقرأ أيضا على الكرسى «4» بين يدى صهرى شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن البلقينى فى صبيحة كل يوم جمعة، فيقرأ ساعة ثم إذا سكت، ابتدأ شيخ الإسلام فى عمل الميعاد، وكان هذا دأبه إلى أن مات رحمه الله [تعالى]«5» .
وتوفى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله بن حسن بن محمد [بن أحمد بن عبد الكريم بن عبد السلام]«6» الأدكوى الأصل ثم الفوّىّ، كاتب سر الديار المصرية، وناظر جيشها وخاصّها، والوزير بها، ثم الأستادّار، ثم محتسب القاهرة، فى يوم الثلاثاء سلخ شهر ربيع الأول، ودفن بتربته بالصحراء، بعد ما كبر سنه، واختلط عقله. وكان
مولده بفوّة من المزاحميين، فى ليلة الثلاثاء ثالث عشر ربيع الأول سنة ست وستين «1» وسبعمائة، وبها نشأ وتعلق على الخدم الديوانية، فباشر فى عدة جهات، ثم انتقل إلى القاهرة، ولا زال يترقى حتى ولى نظر جيش مصر، ثم وزر بها، ثم ولى الخاصّ؛ كل ذلك فى الدولة الناصرية فرج.
ثم ولى [181] الوزارة والخاصّ أيضا فى دولة الملك المؤيّد شيخ، ثم صودر ونكب غير مرة، ثم ولى الأستادّارية فى دولة الملك الصالح محمد، ثم عزل وولى الخاصّ ثانيا عوضا عن مرجان الخازندار، ثم ولى الأستادارية ثانيا فى دولة الأشرف برسباى، عوضا عن ولده صلاح الدين محمد، وعزل عن نظر الخاص بالقاهرة «2» [بالقاضى]«3» كريم عبد الكريم ابن كاتب جكم، فى أوائل جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وعزل بعد مدة وصودر هو وولده صلاح الدين، ثم ولى الأستادّاريّة بعد سنين ثالث مرة، فلم تطل مدته فيها، وعزل ولزم داره سنين، إلى أن ولى كتابة السر بعد موت ولده صلاح الدين، فباشر وظيفة كتابة السر مدة يسيرة، وعزله الملك الظاهر جقمق بصهره المقرّ الكمالى بن البارزى، فلزم الصاحب بدر الدين بيته، إلى أن مات فى التاريخ المقدم ذكره.
وكان شيخا طوالا ضخما حسن الشكالة، مدوّر اللحية، كريما واسع النفس على الطعام؛ تأصل فى الرئاسة، وطالت أيامه فى السعادة، فصار هو وولده صلاح الدين من أعيان رؤساء الديار المصرية، على أنه كان لا يسلم فى كل قليل من مصادرة، ومع هذا كان له أنعام وأفضال على جماعة كبيرة، إلا أنه كانت فيه بادرة وخلق سيّىء، مع حدة مزاج، وصياح فى كلامه، وكان لا يتحدث إلا بأعلى صوته، ولهذا ملّه الملك الأشرف برسباى وأبعده. وكان أكولا، أقصى مناه الناب والنصاب لا غير، لم يشهر بدين ولا علم.
وتوفى الأمير سيف الدين تغرى بردى [الرومى]«1» بن عبد الله البكلمشى المعروف بالمؤذى «2» الدوادار الكبير، فى يوم الثلاثاء حادى عشر جمادى الآخرة، بعد مرض طويل؛ وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنى، ودفن بتربة طيبغا الطويل [الناصرى حسن؛ وطيبغا الطويل]«3» هو أستاذ بكلمش، وبكلمش أستاذ تغرى بردى هذا، ثم ترقى [تغرى بردى هذا]«4» بعد موت أستاذه حتى صار من جملة أمراء العشرات فى الدولة الناصرية فرج، ثم أمسك ولزم داره مدة، إلى أن أنعم عليه بإمرة عشرة ضعيفة، ودام على ذلك دهرا طويلا لا يلتفت إليه فى الدول، حتى أننى أقمت سنين أحسبه من جملة الأجناد.
ثم تحرّك له سعد بعد سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وغيّر السلطان الملك الأشرف أقطاعه بعد موت الأمير جوبان المعلم «5» ، وخلع عليه باستقراره من جملة رءوس النّوب، ثم لا زال يرقيه حتى صار أمير طبلخاناة ورأس نوبة ثانيا؛ فعند ذلك أظهر ما كان خفيا من لقبه بالمؤذى، فلله درّ القائل:«الظلم كمين فى النفس، العجز يخفيه والقوة تظهره» .
وصار إذا مسك العصاة فى يده، لا يزال يضرب هذا وينهر هذا؛ والملوك تحب من يفعل ذلك بين يديهم، فأنعم عليه بعد سنين بإمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، ثم نقله الملك الظاهر جقمق إلى حجوبية الحجاب بعد يشبك السّودونى، ثم صار دوادارا كبيرا بعد [عزل]«6» أركماس الظاهرى، كل ذلك فى سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة.
[و]«7» من يوم ولى الدوادارية، عظم وضخم، ونالته السعادة وعمّر مدرسة بالشارع الأعظم بالقرب من جامع ابن طولون [فى طرف سوق الأساكفة]«8» ، وسار فى
الدوادارية على طريق السلف من الحرمة وإقامة «1» الناموس، لا فى كثرة المماليك وجودة السماط، وكان يتفقّه ويكتب الخط بحسب الحال، ويعف عن المنكرات والفروج، وعنده شجاعة وإقدام مع بخل وفحش فى لفظه، وجبروت وسوء خلق وحدة مزاج، إلا أنه كان مشكور السيرة فى أحكامه، وينصف المظلوم من الظالم، ولا يسمع رسالة مرسل كائن من كان، فعدّ «2» ذلك من محاسنه.
وكان رومى الجنس، ويدعى أنه تركى الجنس، رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير سيف الدين أيتمش بن عبد الله الخضرى الظاهرى برقوق، أحد أمراء العشرات، وأستادّار، وهو بطّال، فى آخر ليلة السبت العشرين من شهر رجب، ودفن بتربة الأمير قطلو بك بالصحراء، بعد ما تعطل ولزم داره سنين، من بياض أصابه فى جسده. وكان أصله من مماليك الظاهر [182] برقوق. ثم صار من جملة الدوادارية فى الدولة الناصرية فرج، ثم [صار]«3» أمير عشرة فى دولة الملك المؤيد شيخ، ثم أنعم عليه الملك الظاهر ططر بإمرة طبلخاناة، فلم تطل مدته، ونفاه الملك الأشرف برسباى، ثم شفع فيه بعد أشهر، وأعيد من القدس إلى القاهرة، وأنعم عليه بإمرة عشرة، ثم ولى الأستادّارية، فلم ينتج أمره، وعزل عنها بعد أن باشر الأستادّارية نحو الشهرين.
واستمر أمير عشرة على عادته إلى سنة نيف وثلاثين. فابتلى فى جسده بالبياض [بحيث كان يستره بالحمرة]«4» ، فأخرج [السلطان]«5» الملك الأشرف إقطاعه، ورسم له بلزوم داره، فصار يتردد إلى الجامع الأزهر، وكان يسكن بدار بشير
الجمدار [بالأبّارين]«1» بالقرب من الجامع المذكور، ويحضر «2» الدروس، ويشوّش على الطلبة، ويسأل الأسئلة التى لا محل لها من الدرس التى (كذا) هم بصدده، وكان قليل الفهم وتصوّره غير صحيح، مع جهل مفرط وعدم اشتغال قديما وحديثا، فإن أجابه أحد من الطلبة بجواب لا يفهمه، سفه عليه، وإن سكت القوم ازدراهم ووبخهم.
وكان فصيحا باللغة العربية على قاعدة العامة، وكان قبل تاريخه ناب فى نظر الجامع الأزهر عن جرباش الكريمى قاشق، ووقع له مع أهل الجامع أمور أيام توليته، فلما زاد ذلك منه على الطّلبة [و]«3» بلغ الأشرف [أمره]«4» ، رسم بنقلته من داره المذكورة [و]«5» بسكنته بقرافة مصر، فشفع فيه بعد أيام، على أنه يسكن بداره، ولا يدخل الجامع إلا فى أوقات الصلوات. ولما سافر الملك الأشرف إلى آمد، أخرجه إلى القدس بطّالا، ثم أعيد إلى القاهرة بعد عود «6» السلطان [من آمد، ودام بها]«7» إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق، [ف]«8» داخله فى الأمور من غير أن بلى إمرة ولا وظيفة.
وزاد وأمعن، وصار يتكلم فيما لا يعنيه، فغضب عليه الملك الظاهر جقمق، ونفاه إلى القدس [بطّالا]«9» ، ثم شفع فيه عديله الأمير إينال العلائى الناصرى، أعنى الملك الأشرف، فأعيد إلى القاهرة، ولزم داره إلى [أن سقط عليه جدار فغطاه، فأخرج من تحته مغشيا عليه، فعاش بعده قليلا]«10» [و] مات وهو فى عشر السبعين.
وكان من مساوئ الدهر طيشا وخفة، مع كثرة كلام فى مالا يعنيه، ويخاطب الرجل بما يكره، ويوبخ الشخص بما فيه من المعايب من غير أن يكون بينه وبين ذلك الرجل
عداوة ولا صحبة، وفيه بادرة وجرأة «1» وإفحاش فى اللفظ، مع إسراف على نفسه. وفى الجملة أن بقاءه «2» كان عارا على بنى آدم.
وتوفى الأمير ناصر الدين محمد بك بن دلغادر صاحب أبلستين وحمو الملك الظاهر جقمق، بأبلستين فى أوائل جمادى الآخرة، وقيل إنه قتل على فراشه، والأول أصح؛ وكان كثير الشرور والعصيان على الملوك، وقد مرّ من «3» ذكره فى ترجمة الملك الأشرف من عصيانه وموافقته مع الأتابك جانبك الصوفى، ثم فى ترجمة الملك الظاهر جقمق من دخوله فى طاعته وقدومه إلى القاهرة ما يغنى عن إعادته ثانيا هنا.
أمر النيل فى هذه السنة: الماء القديم ثمانية أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة: عشرون ذراعا وأحد وعشرون أصبعا.