الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 843]
السنة الثانية من سلطنة الملك الظاهر أبى سعيد «1» جقمق على مصر وهى سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة.
وفيها توفى الأمير علاء الدين آقبغا بن عبد الله من مامش الناصرى [فرج]«2» التركمانى، نائب الكرك، بعد أن عزل عنها وحبس بقلعتها فى أواخر هذه السنة، وله نحو سنين «3» سنة من العمر، ولم يشتهر فى عمره بدين ولا شجاعة ولا كرم.
وتوفى الأتابك آقبغا التّمرازى نائب الشام بها فجاءة، وهو على ظهر فرسه، فى صبيحة يوم السبت سادس عشر «4» شهر ربيع الآخر، وسنه سبعون سنة تخمينا.
وكان خبر موته: أنه ركب من دار السعادة بعد أن انفجر «5» الفجر من اليوم المذكور، وسار إلى الميدان، ولعب [به]«6» الرمح، وغيّر فيه عدة خيول، ثم ساق البرجاس «7» وغيّر فيه أيضا أفراسا كثيرة، ثم ضرب الكرة مع الأمراء على عدة خيول، يغيّرها «8» من تحته، إلى أن انتهى، وليس عليه ما يردّ البرد عنه، وسار إلى باب الميدان ليخرج منه، ومماليكه مشاة بين يديه، فقال الرأس نوبته:
«مر المماليك ليأكلوا السماط» ، ثم مال عن فرسه، فاعتنقه رأس نوبته المذكور،
وحمله وأنزله إلى قاعة عند باب الميدان، فمات [174] من وقته، ولم يتكلم كلمة واحدة غير ما ذكرناه.
وكان أصله من مماليك الأمير تمراز الناصرى نائب السلطنة فى دولة الناصر فرج، ونسبه تمراز أستاذه بالناصرى، لأستاذه خواجا ناصر الدين، وقد تقدم ذكره فى الدولة الناصرية، وخدم آقبغا هذا بعد موته عند الأتابك دمرداش المحمدى ثم اتصل بخدمة [الملك]«1» المؤيّد شيخ، فرقّاه المؤيّد لسيادة كانت له فى لعب الرمح، وأنعم عليه بإمرة عشرة، ثم طبلخاناة، وجعله أمير آخور ثانيا، ثم أنعم عليه الأمير ططر بإمرة مائة وتقدمة ألف، وجعله من الأمراء المقيمين بالقاهرة، لما سافر بالملك المظفر أحمد إلى دمشق، ثم صار أمير مجلس فى أوائل الدولة الأشرفية برسباى، ثم ولى نيابة الإسكندرية بعد أسندمر النّورى «2» الظاهرى [برقوق]«3» ، مضافا على تقدمته، ثم عزل بعد سنين وأعيد إلى إمرة مجلس، إلى أن جعله الملك الظاهر جقمق أمير سلاح، ثم أتابك العساكر بالديار المصرية، كلاهما بعد قرقماس الشعبانى، فباشر الأتابكية أشهرا، وتولى نيابة دمشق لما عصى الأتابك إينال الجكمى، وقد تقدم ذكر ذلك كله فى أول ترجمة الملك الظاهر جقمق. هذا ولم تطل مدة نيابته على دمشق سوى أشهر، ومات.
وكان عارفا بأنواع الفروسية كلعب الرمح وضرب الكرة وسوق المحمل والبرجاس، رأسا فى ذلك جميعه، إمام عصره فى ركوب الخيل ومعرفة تقليبها فى أنواع الملاعيب المذكورة، انتهت إليه الرئاسة فى ذلك بلا مدافعة، لا أقول ذلك كونه صهرى، بل أقوله على الإنصاف، مع دين وعفة عن المنكرات والفروج، وقيام
ليل وزيارة الصالحين دواما، غير أنه كان مسّيكا، وعنده حدّة مزاج، ولم تكن شجاعته فى الحروب بقدر معرفته لأنواع الملاعيب والفروسية، رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير سيف الدين طوخ بن عبد الله الناصرى المعروف بطوخ مازى «1» ، نائب غزة، فى ليلة السبت حادى «2» شهر رجب. وأصله من مماليك [الملك]«3» الناصر فرج، وتأمّر- بعد موت الملك المؤيّد شيخ- عشرة، وصار فى الدولة الأشرفية برسباى، من جملة رؤوس النّوب، ثم ترقى بعد سنين إلى إمرة طبلخاناة وصار رأس نوبة ثانيا، ثم ولى نيابة غزة بعد موت آقبردى القجماسى فى الدولة العزيزية يوسف، إلى أن مات، وكان متوسط السيرة منهمكا فى اللذات عاريا من كل علم وفن، عفا الله عنه.
وتوفى الأمير سيف الدين يلبغا بن عبد الله البهائى الظاهرى نائب الإسكندرية بها، فى يوم الخميس ثالث عشر جمادى الأولى، وهو فى عشر السبعين، وكان أصله من مماليك [الملك]«4» الظاهر برقوق، وكان يعرف بيلبغا قراجا، لأنه «5» كان أسمر اللون تركى الجنس. وكان تأمّر قديما إمرة عشرة، ودام على ذلك سنين، إلى أن أنعم عليه الملك الظاهر جقمق بإمرة طبلخاناة والحجوبية الثانية، عوضا عن أسنبغا الطّيّارى، ثم ولّاه نيابة الإسكندرية، إلى أن مات بها. وكان من خيار الناس عقلا ودينا وسكونا وعفة، مع مشاركة فى الفقه وغيره، ويكتب الخط المنسوب، وكان فصيحا باللغة العربية، حلو الكلام جيد المحاضرة، يذاكر بالأيام السالفة مذاكرة حسنة لذيذة، وهو «6» أحد من أدركناه من النوادر فى معناه، رحمه الله تعالى.
وتوفى الأمير سيف الدين قطج «1» بن عبد الله من تمراز الظاهرى، بطّالا بالقاهرة، فى يوم الاثنين ثامن عشرين شهر رمضان، وكان أصله من أصاغر مماليك الظاهر برقوق، وتأمّر أيضا- بعد موت الملك المؤيّد شيخ- عشرة، ثم ترقى إلى أن صار فى الدولة الأشرفية أمير مائة ومقدّم ألف، ودام على ذلك سنين، إلى أن أمسكه الأشرف وسجنه بثغر الإسكندرية مدة، ثم أفرج عنه وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألف بحلب، ثم نقله إلى أتابكيّه حلب، بعد نقل قانى باى البهلوان، إلى أتابكية دمشق، بحكم وفاة تغرى بردى المحمودى بآمد، فدام على ذلك سنين، إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق، فقدم القاهرة، واستعفى من أتابكية حلب، فأعفى، يريد بذلك أن يكون من جملة أمراء مصر؛ فلم يكترث [175] المالك الظاهر بأمره، ودام بطّالا إلى أن مات.
وكان يتمفقر فى حياته ويطلب من الأمراء، فلمّا مات، ظهر له مال كبير «2» ، فأخذه من يستحقه، ولله درّ أبى الطيب المتنبى فيما قال فى هذا المعنى:[الطويل]
ومن ينفق الساعات فى جمع ماله
…
مخافة فقر فالذى فعل الفقر
وتوفى الأمير سيف الدين سودون الظاهرى المغربى أحد أمراء العشرات والحجاب، ثم نائب ثغر دمياط، بطّالا بالقدس؛ وكان أيضا من مماليك [الملك]«3» الظاهر برقوق، وتأمّر عشرة، وصار من جملة الحجاب فى الدولة الأشرفية برسباى، ثم ولى نظر القدس فى بعض الأحيان، ثم ولى نيابة دمياط، إلى أن أمسكه الملك الظاهر وحبسه مدة، ثم أخرجه إلى القدس بطّالا، إلى أن مات.
وكان دينا خيرا عفيفا عن القاذورات، عارفا بأنواع الفروسية باجتهاده، فكان خطأه «1» فيه أكثر من صوابه، وكان يتفقّه، ويكثر من الاشتغال دواما، لا سيما لما اشتغل فى النحو فضيع فيه زمانه، ولم يحصل على طائل، لقصر فهمه وعدم تصوره، وكان يلح فى المسائل الفقيهة ويبحث فيها أشهرا، ولا يرضى إلا بجواب سمعه قديما من كائن من كان؛ وكان هذا سبب نفيه، فإنه بحث مرة مع الأمير بكتمر السعدى بحثا، فأجابه بكتمر بالصواب، فلم يرض بذلك سودون هذا، وألحّ فى السؤال على عادته، فنهره الملك الظاهر جقمق، وهو يوم ذاك أمير آخور، وقال له:
«أنت حمار!» ، واحتدّ عليه، فقال سودون:«العلم ليس هو بالإمرة وإنما هو بالأعلم» . فحنق الملك الظاهر منه أكثر وأكثر، وانفض المجلس.
وكان فيه أنواع ظريفة فى حكمه بين الناس، منها: أنه يتحقق فى عقله أن الحقّ لا يزال مع الضعيف من الناس، وأن القوىّ لا يزال يجبر الضعيف، فصار كلما دخل إليه خصمان فينظر إليهما، فيكون أحد الأخصام جنديا والآخر فلاحا، والحقّ مع الجندى، فلا يزال سودون يميل مع الفلاح ويقوّى كلامه وحجته، ويوهى كلام الجندى ودعواه، حتى يسأل الجندىّ فى المصالحة، أو يأخذ فلاحه ويذهب، إن كان له شوكة، هذا بعد أن يوبخ الجندىّ ويعظه ويحذره عقوبة الله عز وجل، ويذكر له أفعال أبناء جنسه من المماليك.
وكان عنده كثرة كلام مع نشوفة، ولهذا سمى بالمغربى «2» ، فلما تكرر منه ذلك وعرف الناس طبعه، ترامى الضعفاء عليه من الأماكن البعيدة، فانتفع به أناس وتضرر به آخرون؛ على أنه كان غالب اجتهاده فى خلاص الحق على قدر ما تصل قدرته إليه، رحمه الله تعالى.
وتوفى قاضى قضاة حلب علاء الدين على بن محمد بن سعد بن محمد بن على بن عثمان
الحلبى الشافعى، قاضى حلب، وعالمها ومؤرخها، المعروف بابن خطيب الناصرية «1» ، فى ليلة الثلاثاء تاسع ذى القعدة، بحلب. ومولده فى سنة أربع وسبعين وسبعمائة؛ وكان إماما عالما بارعا فى الفقه والأصول والعربية والحديث والتفسير، وأفتى ودرّس بحلب سنين، وتولى قضاءها، وقدم القاهرة غير مرة، وله مصنّفات منها: كتابه المسمى بالمنتخب فى تاريخ حلب، ذيّله على تاريخ ابن العديم، لكنه لم يسلك فيه ما شرطه فى الاقتداء بابن العديم، وسكت عن خلائق من أعيان العصر ممن ورد إلى حلب، حتى قال بعض الفضلاء:«هذا ذيل قصير إلى الركبة» .
وكان، سامحه الله، مع فضله وعلمه، يتساهل فى تناول معالمه «2» فى الأوقاف بشرط الواقف وبغير شرط الواقف، وكان له وظائف ومباشرة فى جامع الوالد بحلب، فكان يأخذ استحقاقه واستحقاق غيره، وكان له طولة روح واحتمال زائد لسماع المكروه، بسبب ذلك، وهو على ما هو عليه، ولسان حاله يقول:«لا بأس بالذل فى تحصيل المال» . وكان يتولى القضاء بالبذل، ويخدم أرباب الدولة بأموال كثيرة.
وملخص الكلام: أنه كان عالما غير مشكور السيرة، وكان به صمم خفيف.
وتوفى قاضى المدينة النبوية جمال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمود بن إبراهيم ابن أحمد الكازرونى الأصل [176] المدنى المولد والمنشأ والوفاة، الشافعى، فى يوم الأربعاء عاشر ذى القعدة، ودفن بالبقيع ومولده سنة سبع وخمسين وسبعمائة؛ وكان بارعا فى الفقه وله مشاركة فى غيره، وتولى قضاء المدينة فى بعض الأحيان، ثم ترك ذلك ولزم العلم إلى أن مات.
وتوفى مجد الدين ماجد بن النّحّال الأسلمى القبطى كاتب المماليك السلطانية،
فى ليلة السبت سادس ذى الحجة، وكان أصله من نصارى مصر القديمة، وخدم فى عدة جهات وهو على دين النصرانية، ودام على ذلك إلى أن أكرهه الأمير نوروز الحافظى على الإسلام، فأظهر الإسلام وأبقى جميع ما عنده من النسوة والخدم على دين النصرانية، وهو والد فرج بن النحال وزير زماننا هذا وأستادّاره، ثم قدم ماجد عند الأمير جقمق الدّوادار، ثم ترقى إلى أن ولى كتابة المماليك السلطانية سنين، إلى أن مات. وكان فيه مروءة وخدمة لأصحابه، وأما غير ذلك فالسكات أجمل.
وما أظرف ما قال الشيخ تقي الدين المقريزى رحمه الله، لما ذكر وفاته بعد كلام طويل، إلى أن قال:«وكان لا دين ولا دنيا» .
أمر النيل [فى هذه السنة]«1» : الماء القديم أربعة أذرع وعشرة «2» أصابع؛ مبلغ الزيادة: عشرون ذراعا وأحد عشر إصبعا.