الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما كان الشيخ محرز بن خلف ينزل بأطلال قرطاجنة قرب تونس للموعظة. فلو رام قوم سكنى ديار العذاب لخيف أن يهلكهم الله بما سبق من قدره؛ فلذلك حذر رسول الله منه.
ويتحصل من مجموع الروايات ما يتضح به أن قوله: «أن يصيبكم» مرتبط بقوله: «باكين» .
واعلم أن هذا الحديث غير موجود في موطأ يحيى بن يحيى الليثي عن مالك.
وأما تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك زيادة في الإعراض عن ملاحظة أماكن العذاب؛ لأن كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراهية آثار الظالمين يناسبه قطع النظر عن رؤيتها كلها، ولذلك لم يأمر الناس بالتقنع.
وقد جاء في حديث ابن عمر من رواية عبد الله بن دينار في باب قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الشرب من آبار الحجر عدا البئر التي تشرب منها ناقة صالح. وقد بينا ذلك عند الكلام عليه في كتاب بدء الخلق.
* * *
باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته
وقع في حديث عائشة وابن عباس [6: 14، 9]: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم).
«فنزل» مبني للمجهول، ونائب الفاعل هو المجرور، والفاعل المحذوف هو الموت. وهذا كقولهم: حُضر واحتُضر. وقد أغفله في اللسان، والقاموس، وصاحب المنهل المأهول بالمبني للمجهول، وابن الأثير في النهاية، والشارحون للصحيح، عدا العيني فقد نبه عليه.
وقال القسطلاني: بفتح النون والزاي. وهو خطأ فقد ثبتت في نسخ الصحيح بضم النون.
* *
ووقع فيه قول عائشة [6: 14، 11]:
(لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه
لم يقع في قلبي أن يُحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبدًا ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر).
أرادت بقولها: (في قلبي) في اعتقادي وظني. وقد سمى العلماء أفعال الظن والعلم أفعال القلوب، وإذا لم يقع في ظنها محبة الناس من يقوم بعد رسول الله وقع لا محالة في ظنها ضد ذلك، وهو أن يكره الناس من يقوم بعده. وقد بينت ذلك بقولها:«ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد .... » إلخ.
وقولها: «إلا تشاءم الناس به» فيتنازع ذلك المستثنى كل من (أرى) و (يقوم) المنفيين.
وقولها: «تشاءم» جملة في موضع الحال تفرغ لها الفعلان السابقان. وقد تأكدت الجملة الأولى بالثانية وحصل إيجاز دل عليه الكلام. فالتقدير: ولا كنت أرى أن أحدًا يقوم مقامه إلا تشاءم الناس به، لن يقدم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فحصل التأكيد مع إيجاز لطيف.
وقولها: «فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر» ثبت في الرواية بنصب لفظ «رسول» . وكان الوجه أن يكون مجرورًا بالياء؛ لأن فعل (عدل)، الذي هو بمعنى أعرض، فعل قاصر يتعدى إلى مفعوله المعرض عنه بـ (عن) وإلى غيره بما يناسب من حروف الجر بالأولى. فلما لم يجر بالباء تعين أنه منصوب بنزع الخافض.
ومرادها بالتشاؤم أن يكون ذلك الرجل ذكرى لحادث محزن تنقبض له النفوس عند رؤيته. وليست تريد الشؤم بالمعنى المراد في الجاهلية، وأن يكون وجود بعض الذوات مجلبة شر لغيره، فإن ذلك من عقائد الجاهلية. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم نفيه، ولا يظن بأصحاب رسول الله معاودة اعتقاده. وإنما أرادت أن تجنب أباها هذا الثقل على الناس في ظنها قاطعة النظر عن وقوع رجل آخر في مثل ذلك؛ لأن الذي يدفع عن نفسه بدون تعيين أحد للضرر لا حرج عليه، إذ على غيره أن يجنب نفسه ما يحذره إن كان يحذر شيئًا.
ويفهم من قولها: «إلا أنه لم يقع في قلبي .... » إلخ، أن الأمر تبين على خلاف ما ظنت، فقد تلقى المسلمون المصاب برسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر وتلقوا خليفته بالرضا والتيمن.
ووقع فيه قول العباس لعلي رضي الله عنهم[6: 15، 6]:
(اذهب بنا إلى رسول الله فلنسألنه فيمن هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصى بنا، فقال علي: إنا لله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم لو منعهما الخلافة بعده، أو منع آل بيته الخلافة، على اختلاف الاحتمال في المراد من ضمير المتكلم وغيره في قوله:«سألناها» وما بعده. فإنما يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل وجود الأرجح منهما لولاية أمور المسلمين، فيتوهم الناس أو كثير منهم أن ذلك المنع لعدم أهليتهما لذلك بالنسبة إليهما، أو أنه لإبعاد آل بيته عن الدخول بين المسلمين ليكونوا مع الأمة مظاهر رأفة لا غير، فيظن أن الولاية لا تليق بآل الرسول صلى الله عليه وسلم كما مُنعوا من أخذ الصدقات. فيصير ذلك باعثًا للناس على إبعادهما أو إبعاد آل بيت النبي عن الولاية، وذلك لا خير فيه ولا في ظنه.
فهذا مراد علي رضي الله عنه؛ وليس مراده التحيل على إخفاء مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ قد علم علي أن لو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا لأظهره؛ ولكن الحكمة كانت في عدم التعرض لهذا الأمر.
* * *