الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا القبول هو الذي أعطاه الله الرسل وأهل الخير من الصالحين ومن سبق لهم الهدى. وهو الذي لا سبب له من إحسان وقرابة وغيرهما، ولا معارض له من خصام أو شنآن كالحرب وغيره؛ فإن الكافرين كانوا لا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{وإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} إلى قوله: {إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وقال: {إن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} الآية.
ويشرح هذا حديث هند بنت عتبة حين أسلمت؛ إذ قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم[5: 49، 17]: (ما كان أهل خباء أحبَّ إليَّ أن يذلُّوا من أهل خبائك، واليوم ما أهل خباءٍ أحبُّ إليَّ أن يَعِزُّا من أهل خبائك).
ووقع في بعض روايات هذا الحديث في غير الصحاح: «وإذا أبغض الله عبداً نَادى جِبريل
…
» إلخ، مثل: حديث المحبة: « .... فيبغضه أهل الأرض» ، والظاهر أنها زيادة باطلة؛ لأن المشاهدة تنافيها.
* * *
باب ما يكره من التمادح
فيه حديث أبي بكرة [8: 22، 7]:
(أنَّ رجلاً ذُكِرَ عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النَّبيُّ: «ويحك قطعت عُنُق صاحبك»).
وفي حديث أبي موسى [8: 22، 6]: («قطعتُمْ ظهرَ الرَّجُلِ»).
هذا من بليغ الكلام النبوي، ولم أعرف سابقاً له في كلام العرب، فهو مما انفرد به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو تمثيل بديع؛ لأن فيه تشبيه الهيئة الحاصلة من ثناء الرجل على الآخر، وما يحصل للممدوح إذا كان حاضراً أو إذا بلغه ذلك من الازدهاء والإعجاب بالنفس فيظن نفسه بلغت الكمال، فإن كان الثناء صادقاً ربما عاد عليه بضُرِّ الزهادة في طلب الكمال، أو التفريط في بعض ما عنده من المحامد، وإن كان في الثناء مبالغة، أي كان بأكثر مما في الممدوح فذلك يغرُّ ويُخيَّل إليه أنه ساوى الكُمَّل فيريد أن يجري في مضمارهم ويسمو إلى طبقتهم عن غير جدارة فيظهر سقطه.
وكل ذلك تشبيه هيئته بهيئة راكبٍ فرساً يلحُّ عليه بالركض ويستزيده الجري
بنحو المسح على رقبته والتذبذب له بالسوط والكلام المعتاد، فإن كان جواداً أوسع في السير حتى يتجاوز حدَّ طاقته فيوقعه ذلك في تقطيع أوصال عنقه أو ظهره؛ إذ هما آلة حركة سير الخيل وفيهما تظهر آلام شدة الإعياء على الدَّابة، أي فيهجن ويصيرُ فِسْكِلاً بعد أن كان جواداً؛ وإن كان الفرس غير جواد فقد كلفه ذلك التلطف به ما ليس في وسعه فلا يلبث أن يحسر عنه ويظهر إعياؤه.
ولذلك كله عبَّر في التمثيل مرة بالعنق ومرة بالظهر رمزاً إلى المشبه به؛ لأن العرب يقولون للفرس الجواد: تقطعت أعناق الخيل عليه فلم تلحقه، وهو مبالغة.
ولذلك كله عبَّر في التمثيل مرة بالعنق ومرة بالظهر رمزاً إلى المشبه به؛ لأن العرب يقولون للفرس الجواد: تقطعت أعناق الخيل عليه فلم تلحقه، وهو مبالغة.
ومن كلامهم: فلان تُقَطَّع إليه أعناق الإبل، أي يسارع الناس في الرحلة إليه، وقد قال عمر ذلك في حق أبي بكر رضي الله عنه حين ذكر بيعته في بعض خطبه.
وهذه الاستعارة تمثيلية مكنية، ثم إنك إذا اعتبرت فيها حضور الممدوح أو تقدير بلوغ المدح إليه، فالتمثيل صالح لأن يجعل فيه كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشبهاً بجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها، وهو أحسن صفات الاستعارة التمثيلية: أن تكون صالحة للجمع والتفريق في التشبيه؛ وإن كان الممدوح غير حاضر ولا خطر بالبال بلوغ ذلك إليه حين النطق بها، فالتمثيل لحال المادح فقط ولا يجعل التشبيه فيه مفرق الأجزاء.
* * *
[8: 22، 8]: («إن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا»).
لأن في ذكر فعل الحسبان إشعاراً بأنه إنما مدحه بما بدا له من ظاهر حاله، ففيه احتراس؛ وذلك ينبه الممدوح إلى محاسبة نفسه على محامده ونقائصه.
* * *
[8: 22، 10]: («ولا يُزكَّى على اللهِ أحَدٌ»).
فائدته: أنه لما ذكر ما يدلَّ على عدم العلم ببواطن الأمور أو بعواقبها وتفويضه إلى علَاّم الغيوب، ففيه زيادة تنبيه الممدوح إلى تذكر نقائصه وتنبيهه إلى الجهل بعواقب انتقاص محاسنه ليحرص على إقلال الأولى ويدأب على الاستكثار من الثانية.
وفي هذا التأديب تربية للأمة على الصدق، وتوخِّي الحقائق، وطرح المبالغات