الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلما أنكر ابن آدم البعث كان كمن أنكر الخلق الأول، فليس المراد بالتكذيب الكفر والجحد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك غير مختص بهذا كما هو بيِّنٌ.
ومعنى قوله: «ولم يكن له ذلك» أنه لا شبهة له فيه، كما دل عليه قوله:«فأما تكذيبُه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليِّ من إعادته» بل هو في متعارف الناس أسهل وهو بالنسبة إلى الله تعالى سواء والإعادة؛ ولذلك قال: «ليس بأهون عليّ من إعادته» .
«وأما شَنْمُهُ إياي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤاً أحد» .
جعل نسبة الولد إلى الله تعالى شتماً لما يلزمه من توقع الفناء، ومن الاحتياج عند الهرم؛ لأن الله جعل الذرية ناموساً من نواميس البقاء بعد العدم، لتكون الذرية خلفاً للأصول عند انعدامها حتى لا ينعدم النوع، والناس اتخذوا من الذرية عوناً لهم على المتاعب وعند العجز، فنسبة الذرية إلى الله يستلزم الأمرين، فكان شتماً؛ لأنه تنقيص.
* * *
باب «كيف نزل الوحي
؟ »
فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه[6: 224، 5]:
(قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء نبيٌّ إلَاّ أُعطي من الآيات ما مثلُهُ آمن عليه البشر وإنَّما كان الَّذي أوتيت وحياً أوحاه اللهُ إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة»).
معنى «آمن عليه البشر» أنهم يجدونه خارقاً للعادة فيما هو أعظم شيء عندهم، فإذا وجدوه كذلك علموا أنه من عند الله.
وإنما يحصل ذلك العلم لهم بمعجز أعلم الناس منهم بنوعه عن الإتيان بمثله، كعجز السحرة عن الإتيان بمثل حية موسى، وعجز الأطباء عن الإتيان بمثل شفاء عيسى، وعجز الحكماء عن تعبير الرؤيا بمثل تعبير يوسف.
فموقع «على» في قوله: «آمن عليه البشر» هو الاستعلاء المجازي، شبهت الآيات بحمولة تسير بهم إلى الإيمان، والمراد بالبشر الناس، أي بشر عصرهم.
وقوله: «وإنَّما كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْياً» صيغة قصر تقتضي انحصار معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في الوحي الذي أوحاه الله إليه، أي القرآن. والقصر هنا للمبالغة؛ لأن القرآن هو المعجزة العامة لسائر البشر في سائر الأزمان، فغيره من المعجزات خاص ببعض الناس الذين شهدوها، وليسوا هم جميع البشر الذين أريد منهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك لم يقع التحدي بغير القرآن، قال الله تعالى:{وَإن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} .
وقوله: «وحياً أوحَاهُ الله إليَّ» أي كلاماً؛ إذ الوحي من ضروب الكلام.
وقوله: «أوحاه الله» تأكيد لمعنى الوحي، حتى لا يتوهم أنه إلقاء معانٍ في النفس، فلذلك بينه بقوله:«أوحاه الله إليَّ» أي أرسله إلي بلفظه.
وفيه بيان فضيلة معجزة القرآن على سائر المعجزات؛ لأن جميع المعجزات كانت من أعمال الرسل بتأييد الله إياهم، والتأييد أمر خفي. وكانت معجزة القرآن لفظاً من لغة يعجز أهل تلك اللغة عن مثله، فهو لفظ منزل من عند الله لا عمل للرسول فيه إلا تلاوته كما نتلوه نحن. وهو معجزة في وقت تلاوة الرسول إياه، ومعجزة في وقت تلاوتنا إياه.
ومعنى قوله: «وإنما كان الذي أوتيت وَحْياً أوحاه الله إليَّ» أنه كلام ينقل ويحفظ ويتأمله المتَحَدُّون به في سائر الأحوال فلا يستطيعون أن يدَّعُوا أنهُمْ سُحِرُوا أو استُرْهِبوا؛ لأن لهم من مكنة التأمل ما يدفع عنهم الشك في نفوسهم أن يكونوا في وقت تلقي المعجزة متأثرين بسحر أو برهبة وتأثير من قوة الرسول بخلاف المعجزات التي تنقضي بانقضاء وقت حدوثها ويتطرق الشك في ناقليها والمحدِّثين عنها.
وإذ قد كان قوله: «وَحْياً» مراداً منه قرآناً فقد شملت آية القرآن ما فيه أيضاً من الإعجاز العقلي باشتماله على علوم جمة لا قِبَل لأهل ذلك العصر بها ولا قِبَل للأميِّ بمعرفتها. وهي تتجلى للناس عصراً فعصراً بمقدار ازدياد علومهم واتساع أفهامهم؛ ولذلك لم يقل: وإنما كان الذي أوتيت بلاغة أو فصاحة، بل قال:«وحياً» ليشمل كل ما دل عليه القرآن من دلائل صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» موقع الفاء التفريعية فيه رشيق؛ لأنه إذا كانت آيته وحياً فهي أقرب إلى إطلاع الناس عليها بأنفسهم دون واسطة، وأقرب إلى تمكينهم من مدارستها وتفهمها، وأجدر بدلالتها مختلف أصناف العقلاء