الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استيلاء الإفرنج على بونة ووفاة رجار صاحب صقلّيّة وملك ابنه غليالم
ثم سار أسطول رجار من صقلّيّة سنة ثمان وأربعين إلى مدينة بونة وقائد الأسطول بها وقتات المهدوي فحاصرها واستعان عليها بالعرب فملكها واستباحها وأغضى عن جماعة من أهل
[ () ] خيرا من الملك وقد طلب مني عسكرا إلى قابس فإن فعلت فما يحل لي معونة الكفار على المسلمين، وإن امتنعت يقول انتقض ما بيننا من الصلح وليس الا أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر، وليس بقتاله لنا طاقة والرأي أن نخرج بالأهل والولد وننزل عن البلد، فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا. وأمر في الحال بالرحيل وأخذ معه من حضره وما خف حمله وخرج الناس على وجوههم بأهليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم، ومن الناس من اختفى عند النصارى وفي الكنائس وبقي الأسطول في البحر تمنعه الريح من الوصول إلى المهدية إلى ثلثي النهار فلم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد فوصل الفرنج ودخلوا البلد بغير مانع ولا دافع، ودخل جرجي القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه إلا ما خف من ذخائر الملوك وفيه جماعة من حظاياه، ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيء غريب يقل وجوده مثله فختم عليه وجمع سراري الحسن من قصره.
وكان عدة من ملك منهم من زيري بن مناد إلى الحسن تسعة ملوك ومدة ولايتهم مائة وثمانين سنة من إحدى وستين وثلاثمائة إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان بعض القواد قد أرسله الحسن إلى رجار برسالة فأخذ لنفسه وأهله منه أمانا فلم يخرج معهم. ولما ملك المدينة نهبت مقدار ساعتين ونودي بالأمان فخرج من كان مستخفيا وأصبح جرجي من الغد فأرسل إلى من قرب من العرب فدخلوا إليه فأحسن إليهم وأعطاهم أموالا جزيلة وأرسل من جند المهدية الذين تخلفوا بها جماعة ومعهم أمان لأهل المهدية الذين خرجوا منها ودواب يحملون عليها الأطفال والنساء، وكانوا قد أشرفوا على الهلاك والجوع، ولهم بالمهدية خبايا وودائع، فلما وصل إليهم الأمان رجعوا فلم يمض غير جمعة حتى رجع أكثر أهل البلد. وأما الحسن فأنه سار بأهله وأولاده وكانوا اثني عشر ولدا ذكرا غير الإناث وخواص خدمه قاصرا إلى محرز بن زياد وهو بالمعلقة فلقيه في طريقه أمير من العرب يسمى حسن بن ثعلب، فطلب منه مالا انكسر له في ديوانه فلم يمكن الحسن إخراج مال لئلا يؤخذ فسلم إليه ولده يحيى رهينة، وسار فوصل في اليوم الثاني إلى محرز، وكان الحسن قد فضله على جميع العرب وأحسن إليه ووصله بكثير من المال فلقيه محرز لقاء جميلا وتوجع لما حل به فأقام عنده شهورا، والحسن كاره للإقامة فأراد المسير الى ديار مصر الى الخليفة الحافظ العلويّ واشترى مركبا السفرة فسمع جرجي الفرنجي فجهز شواني ليأخذه فعاد عن ذلك، وعزم على المسير إلى عبد المؤمن بالمغرب فأرسل كبار أولاد يحيى وتميما وعليا إلى يحيى بن عبد العزيز وهو من بني حماد وهما أولاد عم يستأذنه في الوصول إليه وتجديد العهد به والمسير من عنده إلى عبد المؤمن فأذن له يحيى فسار إليه، فلما وصل لم يجتمع به يحيى وسيره إلى جزيرة بني مزغنان هو وأولاده ووكل به من يمنعهم من التصرف فبقوا كذلك إلى أن ملك عبد المؤمن بجاية سنة سبع وأربعين فحضر عنده، وقد ذكرنا حاله هناك.
ولما استقر جرجي بالمهدية سير أسطولا بعد أسبوع إلى مدينة سفاقس وسير أسطولا آخر إلى مدينة سوسة، فأما سوسة فان أهلها لما سمعوا خبر المهدية وكان واليها علي بن الحسن الأمير فخرج إلى أبيه وخرج الناس لخروجه فدخلها الفرنج بلا قتال في 12 صفر. أما سفاقس فإن أهلها أتاهم كثير من العرب فامتنعوا بهم فقاتلهم الفرنج فخرج إليهم أهل البلد فأظهر الفرنج الهزيمة وتبعهم الناس حتى أبعدوا عن البلد، ثم عطفوا عليهم فانهزم قوم إلى
العلم والدين فخرجوا بأموالهم وأهاليهم إلى القرى وأقام بها عشرا ورجع إلى المهدية ثم إلى صقلّيّة فنكر عليه رجار رفقه بالمسلمين في بونة وحبسه ثم اتهم في دينه فاجتمع الأساقفة والقسوس وأحرقوه ومات رجار آخر هذه السنة لعشرين سنة من ملكه وولى ابنه غليالم مكانه وكان حسن السيرة واستوزر مائق البرقياني فأساء التدبير واختلف عليه حصون من صقلّيّة وبلاد قلورية [1] وتعدّى الأمراء على إفريقية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم [2] .
[ () ] البلد وقوم إلى البرية وقتل منهم جماعة ودخل الفرنج البلد فملكوه بعد قتال شديد وقتلى كثيرة، وأسر من بقي من الرجال وسبى الحريم وذلك في الثالث والعشرين من صفر، ثم نودي بالأمان فعاد أهلها إليها وأفتكوا حرمهم وأولادهم ورفق بهم وبأهل سوسة والمهدية وبعد ذلك وصلت كتب من رجار لجميع أهل إفريقية بالأمان والمواعيد الحسنة. ولما استقرت أحوال البلاد سار جرجي في أسطول إلى قلعة إقليبية وهي قلعة حصينة فلما وصل إليها سمعته العرب فاجتمعوا إليها، ونزل إليهم الفرنج فاقتتلوا فانهزم الفرنج وقتل منهم خلق كثير فرجعوا خاسرين إلى المهدية، وصار للفرنج من طرابلس الغرب إلى قريب تونس ومن المغرب إلى دون القيروان والله أعلم.
[1]
قلوّرية: جزيرة في شرقي صقلّيّة وأهلها إفرنج، ولها مدن كثيرة وبلاد واسعة (معجم البلدان) .
[2]
ذكرت هذه الحادثة هنا مقتضية، وفي الكامل ج 11 ص 203 (ذكر عصيان الجزائر وإفريقية على ملك الفرنج بصقلية وما كان منهم) قد ذكرنا سنة ثمان وأربعين وخمسمائة موت رجّار ملك صقلّيّة وملك ولده غليالم وأنه كان فاسد التدبير فخرج عن حكمه عدة من حصون صقلّيّة، فلما كان هذه السنة قوي طمع الناس فيه فخرج عن طاعته جزيرة جربة وجزيرة قرقنّة وأظهروا الخلاف عليه، وخالف عليه أهل إفريقية فأول من أظهر الخلاف عليه عمر بن أبي الحسين الفريابي بمدينة سفاقس. وكان رجار قد استعمل عليها لما فتحها أباه أبا الحسين وكان من العلماء الصالحين فأظهر العجز والضعف وقال استعمل ولدي فاستعمله وأخذ أباه رهينة إلى صقلّيّة. فلما أراد المسير إليها قال لولده عمر إنني كبير السن وقد قارب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في الخلاف على العدو فأفعل ولا تراقبهم ولا تنظر في أنني أقتل وأحسب أني قدمت، فلما وجد هذه الفرصة دعا أهل المدينة إلى الخلاف وقال: يطلع جماعة منكم إلى السور وجماعة يقصدون مساكن الفرنج والنصارى جميعهم ويقتلونهم كلهم فقالوا له: إن سيدنا الشيخ والدك نخاف عليه، قال هو أمرني بهذا، وإذا قتل بالشيخ ألوف من الأعداء فما مات، فلم تطلع الشمس حتى قتلوا الفرنج عن آخرهم وكان ذلك أول سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. ثم أتبعه يحيى بن مطروح بطرابلس وبعدهما محمد بن رشيد بقابس وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونه فملكها وخرج جميع إفريقية عن حكم الفرنج ما عدا المهدية وسوسة. وأرسل عمر بن أبي الحسين إلى زويلة وهي مدينة بينها وبين المهدية نحو ميدان يحرضهم على الوثوب على من معهم من النصارى، ففعلوا ذلك وقدم عرب البلاد إلى زويلة فأعانوا أهلها على من بالمهدية من الفرنج وقطعوا الميرة عن المهدية، فلما اتصل الخبر بغليالم ملك صقلّيّة أحضر أبا الحسين وعرفه ما عمل ابنه فأمره أن يكتب إليه ينهاه عن ذلك ويأمره بالعود إلى طاعته ويخوفه عاقبة فعله، فقال: من قدم على هذا يرجع بكتاب. فأرسل إليه ملك صقلّيّة رسولا يتهدده ويأمره بترك ما ارتكبه فلم يمكنه عمر من دخول البلد يومه ذلك، فلما كان الغد خرج إلى الرسول يقول له هذا أبي قد دفنته وقد جلست للعزاء به فاصنعوا به ما أردتم، فعاد الرسول إلى غليالم فأخبره بما صنع عمر بن أبي الحسين فأخذ أباه وصلبه فلم يزل يذكر الله تعالى حتى مات. وأما زويلة فأنهم كثر جمعهم بالعرب وأهل سفاقس وغيرهم فحصروا المهدية وضيقوا عليها وكانت الأقوات بالمهدية قليلة فسير إليهم صاحب صقلّيّة عشرين شينيا فيها الرجال والطعام