الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إقصاء الجوباني إلى الكرك ثم ولايته على الشام بعد واقعة بندمر
أصل هذا الأمير الجوباني من قبائل الترك واسمه الطنبقا وكان من موالي بيبقا الخاصكي المستولي على السلطان الأشرف وقد مرّ ذكره ربي في قصره وجوّ عزه ولقن الخلال والآداب في كنفه وكانت بينه وبين السلطان خلة ومصفاة اكسبتها له تلك الكفالة بما كانا رضيعي ثديها وكوكبي أفقها وتربي مرقاها وقد كان متصلا فيما قبله بينهما من لدن المربى في بلادهم واشتمل بعضهم على بعض واستحكم الاتحاد حتى بالعشرة أيام التمحيص والاغتراب كما مرّ فلقد كان معتقلا معه بالكرك أيام المحنة خمسا من السنين أدال الله لهذا السلطان حزنها بالمسرّة والنحوسة بالسعادة والسجن بالملك وقسمت للجوباني بها شائبة من رحمة الله وعنايته في خدمة السلطان بدار الغربة والمحنة وألفته به في المنزل الخشن لتعظم له الوسائل وتكرم الاذمة والعهود
أنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا
…
من كان يألفهم في المنزل الخشن
ثم كان انطلاقهما إلى الشام ومقامهما جميعا واستدعاؤهما إلى دار الملك ورقيمها في درج العز والتغريب كذلك وكان للسلطان أصحاب سراة يمتون اليه بمثل هذه الوسائل وينتظمون في ملكها وكان متميز الرتبة عنهم سابقا في مرقى درجات العز أمامهم مجلبا في الحلبة التي فيها طلقهم إلى أن ظفر بالملك واستولى على الدولة وهو يستتبعهم في مقاماته ويوطئهم عقبه ويذلل لهم الصعاب فيقتحمونها ويجوز لهم الرتب فيستهمون عليها ثم اقتعد منبر الملك والسلطان واستولى على كرسيه وقسم مراتب الدولة ووظائفها بين هؤلاء الأصحاب وآثر الجوباني منهم بالصفاء والمرباع فجعله أمير مجلسه ومعناه صاحب الشورى في الدولة وهو ثاني الأتابك وتلو رتبته فكانت له القدم العالية من أمرائه وخلصائه والحظ الوافر من رضاه وإيثاره وأصبح أحد الأركان التي بها عمد دولته بأساطينها وأرسى ملكه بقواعدها إلى أن دبت عقارب الحسد إلى مهاده وحوّمت شباة السعاية على قرطاسه وارتاب السلطان بمكانه وأعجل الحزم على إمهاله فتقبض عليه يوم الاثنين لسبع بقين من سنة سبع وثمانين وأودعه بعض حجر القصر عامّة يومه ثم أقصاه الى الكرك وعواطف الرحمة تنازعه وسجايا الكرم والوفاء تقض من سخطه ثم سمح وهو بالخير أسمح وجنح وهو الى الأدنى من الله أجنح فسرح اليه من الغد بمرسوم النيابة على تلك الأعمال فكانت غريبة لم يسمع بمثلها من حلم
هذا السلطان وأناته وحسن نيته وبصيرته وكرم عهده وجميل وفائه وانطلقت الألسن بالدعاء له وامتلأت القلوب بالمحبة وعلم الأولياء والخاصة والشيع والكافة انهم في كفالة أمن ولطف وملكة إحسان وعدل ثم مكث حولا يتعقب أحواله ويتتبع سيره وأخباره طاويا شأنه في ذلك عن سائر الأولياء إلى أن وقف على الصحيح من أمره وعلم خلوص مصادقته وجميل خلوصه فاخفق سعي الداعين وخابت ظنون الكاشحين وأداله العتبى من العتاب والرضا من النكرى واعتقد أن يمحو عنه هواجس الاسترابة والاستيحاش ويردّه إلى أرفع الامارة وبينما هو يطوي على ذلك ضميره ويناجي سره إذ حدثت واقعة بندمر بالشام فكانت ميقاتا لبدر السعادة وعلما على فوزه بذلك الحظ كما نذكر أن شاء الله تعالى وخبر هذه الواقعة أنّ بندمر الخوارزمي كان نائبا بدمشق وقد مرّ ذكره غير مرّة وأصله من الخوارزمية اتباع خوارزم شاه صاحب العراق عند استيلاء التتر وافترقوا عند مهلكه على يد جنكزخان في ممالك الشام واستخدموا لبني أيوب والترك أوّل استبدادهم بمصر وكان هذا الرجل من أعقاب أصلهم وكان له نجابة جذبت بضيعة ونصب عند الأمراء من سوقه فاستخدم بها إلى أن ترشح للولاية في الأعمال وتداول امارة دمشق مع منجك اليوسفي وعشقتمر الناصري وكان له انتقاض بدمشق عند تغلب الخاصكي وحاصره واستنزله بأمانة ثم أعيد إلى ولايته ثم تصرّمت تلك الدول وتغلب هذا السلطان على الأمر ورادفه فيه فولوه على دمشق وكانت صاغيته مع بركة فلما حدث انتقاض بركة كتب اليه والى بقري بدمشق أولياؤه هنالك بالاستيلاء على القلعة وكتب برقوق إلى نائب القلعة يحذرهم فركب جنتمر أخو طاز وابن جرجي ومحمد بيك وقاتلوه ثلاثا ثم أمسكوه وقيدوه ومعه بقري بن برقش وجبريل مرتبه وسيقوا إلى الاسكندرية فحبسوا فلما قتل بركة أطلق بندمر ومن كان حبس من أصحاب بركة مثل بيبقا الناصري ودمرداش الأحمدي ثم استخلصه السلطان برقوق وردّه إلى عمله الأول بعد جلوسه على التخت والشام له وكان جماعا للأموال شديد الظلامة فيها متحيلا على استخلاصها من أيدي أهلها بما يطرق لهم من أسباب العقاب مصانعا للحاشية بماله من حاميته إلى أن سئم الناس ايالته وترحمت القلوب منه وكان بدمشق جماعة من الموسوسين المسامرين لطلب العلم بزعمهم متهمون في عقيدتهم بين مجسم ورافضي وحلولي جمعت بينهم أنساب الضلال والحرمان وقعدوا عن نيل الرتب بما هم فيه تلبسوا بإظهار الزهد والنكير على الخلق حتى على الدولة في توسعة بطلان الأحكام والجباية عن الشرع إلى السياسة التي تداولها الخلفاء وأرخص فيها العلماء وأرباب الفتيا وحملة الشريعة بما تمس اليه الحاجة من
الوازع السلطاني والمعونة على الدفاع وقديما نصبت الشرطة الصغرى والكبرى ووظيفة المظالم ببغداد دار السلام ومقرّ الخلافة وايوان الدين والعلم وتكلم الناس فيها بما هو معروف وفرضت أرزاق العساكر في أثمان البياعات عن حاجة الدولة الاموية فليس ذلك من المنكر الّذي يعتدّ بتغييره فلبس هؤلاء الحمقى على الناس بأمثال هذه الكلمات وداخلوا من في قلبه مرض من الدولة وأوهموا أن قد توثقوا من الحل والعقد في الانتقاض فرية انتحلوها وجمعا انهوه نهايته وعدوا على كافل القلعة بدمشق وحاميتها يسألونهم الدخول معهم في ذلك لصحابة كانت بين بعضهم وبينه فاعتقلهم وطالع السلطان بأمرهم وتحدث الناس أنهم داخلوا في ذلك بندمر النائب بمداخلة بعضهم كابنه محمد شاه ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فارتاب به وعاجله بالقبض والتوثق منه ومن حاشيته ثم أخرج مستوفي الأموال بالحضرة لاستخلاص ما احتازه من أموال الرعايا واستأثر به على الدولة وأحضر هؤلاء الحمقى ومن بسوء سيرتهم مقتدون إلى الأبواب العالية فقذفوا في السجون وكانوا أحق بغير ذلك من أنواع العذاب والنكال وبعث السلطان لعشقتمر الناصري وكان مقيما بالقدس أن يخرج نائبا على دمشق فتوجه اليها وأقام رسم الامارة بها أياما ظهر فيها عجزه وبين عن تلك الرتبة قعوده بما أصابه من وهن الكبر وطوارق الزمانة والضعف حتى زعموا أنه كان يحمل على الفراش في بيته إلى منعقد حكمه فعندها بعث السلطان عن هذا الأمير الجوباني وقد خلص من الفتن ابريزه وأينع بنفحات الرضا والقبول عوده وأفرح بمطالعة الانس والقرب روعه فجاء من الكرك على البريد وقد أعدت له أنواع الكرامة وهيئ له المنزل والركاب والفرش والثياب والآنية والخوان والخرثيّ والصوان واحتفل السلطان لقدومه وتلقيه بما لم يكن في أمله وقضى الناس العجب من حلم هذا السلطان وكرم عهده وجميل وفائه وتحدّث به الركبان ثم ولاه نيابة دمشق وبعثه لكرسيها مطلق اليد ماضي الحكم عزيز الولاية وعسكر بالزيدانية ظاهر القاهرة ثالث ربيع الأوّل من سنة سبع وثمانين وارتحل من الغد وسعادة السلطان تقدّمه ورضاه ينقله إلى أن قارب دمشق والناس يتلقونه أرسالا ثم دخل المدينة غرة ربيع الثاني وقد احتفل الناس لقدومه وغصت السكك بالمتنزهين وتطاول إلى دولته أرباب الحدود وتحدّث الناس بجمال هذا المشهد الحفيل وتناقلوا خبره واستقل بولاية دمشق وعناية السلطان تلاحظه ومذاهب الطاعة والخلوص تهديه بحسن ذكره وأفاض الناس الثناء في حسن اختياره وجمال مذهبه وأقام السلطان في وظيفته أحمد ابن الأمير بيبقا فكان أمير مجلس والله غالب على أمره
.