الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حصار الإفرنج القاهرة
ثم كان مسير أسد الدين إلى مصر وقتله شاور سنة أربع وستين باستدعاء العاضد لما رأى من تغلب الإفرنج كما نذكر في أخبار أسد الدين وأرسل إلى الإفرنج أصحابهم الذين بالقاهرة
[ () ] أمراء دولته وأشجعهم. وكان سبب إرسال هذا الجيش أن شاور وزير العاضد لدين الله العلويّ صاحب مصر نازعه في الوزارة ضرغام وغلب عليها فهرب شاور منه إلى الشام ملتجئا إلى نور الدين ومستجيرا به فأكرم مثواه وأحسن إليه وأنعم عليه. وكان وصوله في ربيع الأول من السنة، وطلب منه إرسال العساكر معه إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون شيركوه مقيما بعساكر في مصر ويتصرف هو بأمر نور الدين، يقدم إلى هذا الفرض رجلا ويؤخر أخرى، فتارة يحمله رعاية قصد شاور بابه وطلب الزيادة في الملك والتقوي على الفرنج، وتارة يمنعه خطر الطريق وان الفرنج فيه، وتخوف إن شاور أن استقرت قاعدته ربما لا يفي، ثم قوي عزمه على إرسال الجيوش فتقدم بتجهيزها وإزاحة عللها وكان هوى أسد الدين في ذلك وعنده من الشجاعة وقوة النفس ما لا يبالي بمخافة. فتجهز وساروا جميعا وشاور في صحبتهم في جمادى الأول من سنة تسع وخمسين، وتقدم نور الدين إلى شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم ممن نازعه فيه وسار نور الدين إلى طرف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره ليمنع الفرنج من التعريض لأسد الدين ومن معه فكان قصارى الفرنج حفظ بلادهم من نور الدين.
ووصل أسد الدين والعساكر معه إلى مدينة بلبيس فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكر المصريين ولقيهم فانهزم، وعاد الى القاهرة، ووصل أسد الدين فنزل على القاهرة أواخر جمادى الآخرة فخرج ضرغام من القاهرة سلخ الشهر فقتل عند مشهد السيدة نفيسة وبقي يومين. ثم حمل ودفن في القرافة وقتل أخوه فارس المسلمين وخلع على شاور مستهل رجب وأعيد إلى الوزارة وتمكن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاور، وعاد عما كان قرره لنور الدين من البلاد المصرية ولأسد الدين أيضا، وأرسل إليه يأمره بالعود إلى الشام فأعاد الجواب بالامتناع وطلب ما كان قد استقر بينهم فلم يجبه شاور إليه. فلما رأى ذلك أرسل إلى نوابه فتسلموا مدينة بلبيس وحكم على البلاد الشرقية فأرسل شاور إلى الإفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدين ان ملك مصر. وكان الفرنج قد أيقنوا بالهلاك إن تم ملكه لها، فلما أرسل شاور يطلب منهم أن يساعدوه على إخراج أسد الدين من البلاد جاءهم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إلى تلبية دعوته ونصرته، وطمعوا في تلك الديار المصرية.
وكان قد بذل لهم مالا على المسير إليه وتجهزوا وساروا. فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكره إلى أطراف بلادهم ليمتنعوا عن السير فلم يمنعهم ذلك لعلهم أن الخطر في مقامهم إذا ملك أسد الدين مصر أشد، فتركوا في بلادهم من يحفظها، وسار ملك القدس في الباقين إلى مصر.
وكان قد وصل إلى الساحل جمع كثير من الفرنج في البحر لزيارة البيت المقدس فاستعان بهم الفرنج الساحلية فأعانوهم، فسار بعضهم معهم وأقام بعضهم في البلاد لحفظها فلما قارب الفرنج مصر فارقها أسد الدين وقصد مدينة بلبيس فأقام بها هو وعسكره، وجعلها له ظهرا يتحصن فاجتمعت العساكر المصرية والفرنج ونازلوا أسد الدين شيركوه بمدينة بلبيس وحصروه بها ثلاثة أشهر وهو ممتنع بها مع أن سورها قصير جدا وليس لها خندق ولا فصل يحميها، وهو يغاديهم القتال ويراوحهم فلم يبلغوا منه غرضا ولا نالوا منه شيئا فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبر بهزيمة الفرنج على حارم وملك نور الدين حارم. حينئذ سقط في أيديهم وأرادوا العودة إلى بلادهم ليحفظوها فراسلوا أسد الدين في الصلح والعود إلى الشام ومفارقة مصر وتسليم ما بيده منها إلى المصريين، فأجابهم إلى ذلك لأنه لم يعلم ما فعله نور الدين بالشام بالفرنج ولأن الأقوات والذخائر قلت عليه. وخرج من بلبيس في ذي الحجة فحدثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس قال: أخرج أصحابه بين يديه وبقي في
يستدعونهم لملكها ويهونونها عليهم وملك الإفرنج يومئذ بالشام مري ولم يكن ظهر فيهم مثله شجاعة ورأيا فأشار بأن جبايتها لنا خير من ملكها وقد يضطرون فيملكون نور الدين منها وأن ملكها قبلنا احتاج إلى مصانعتنا [1] فأبوا عليه وقالوا إنما نزداد بها قوّة فرجع إلى رأيهم وساروا جميعا إلى مصر وانتهوا إلى تنيس في صفر سنة أربع وستين فملكوها عنوة واستباحوها ثم ساروا إلى القاهرة وحاصروها وأمر شاور بإحراق مصر وانتقال أهلها إلى القاهرة فنهبت المدينة ونهب أموال أهلها وبغتهم قبل نزول الإفرنج عليهم بيوم فلم تخمد النار مدّة شهرين وبعث العاضد بالصريخ إلى نور الدين واشتدّ عليه الحصار وبعث شاور إلى ملك الإفرنج يشير بالصلح على ألف دينار مصرية ويهدّده بعساكر نور الدين فأجابوا إلى ذلك ودفع إليهم مائة ألف دينار وتأخروا قريبا حتى يصل إليهم بقية المال وعجز عن تحصيله والإفرنج يستحثونه فبعثوا خلال ذلك إلى نور الدين يستنجدونه على الإفرنج بأن يرسل إليهم أسد الدين شير كوه في عسكر يقيمون عندهم على أنّ لنور الدين ثلث بلاد مصر ولأسد الدين إقطاعه وعطاء العساكر فاستدعى أسد الدين من حمص وكانت إقطاعه وأمره بالتجهز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الدواب والأسلحة وحكمه في العساكر والخزائن وما يحتاج إليه وسار في ستة آلاف وأزاح علل جنده وأعانهم أسد الدين بعشرين دينارا لكل فارس وبعث معه جماعة من الأمراء منهم خرديك مولاه وعز الدين قليج وشرف الدين بن بخش وعين الدولة الياروقي وقطب الدين نيال بن حسان وصلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب وسار إلى مصر فلما قاربها ارتحل الإفرنج راجعين إلى بلادهم ودخل هو إليها منتصف السنة وخلع عليه العاضد [2] وأجرى عليه وعلى عسكره الجرايات الوافرة ثم شرع شاور في مماطلة أسد الدين
[ () ] آخرهم وبيده لت من حديد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرون إليه. قال: فأتاه فرنجي من الغرباء الذين خرجوا من البحر فقال له: أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المصريون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك ولا يبقى لكم بقية، فقال شيركوه يا ليتهم فعلوه حتى كنت ترى ما افعله، كنت والله أضع السيف فلا يقتل منها رجل حتى يقتل منهم رجال، وحينئذ يقصدهم الملك العادل نور الدين وقد ضعفوا وفني شجعانهم فنملك بلادهم ونهلك من بقي. والله لو أطاعني هؤلاء لخرجت إليكم من أول يوم ولكنهم امتنعوا، فصلب على وجهه وقال: كنا نعجب من فرنج هذه البلاد ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منك والآن فقد عذرناهم، ثم رجع عنه وسار شيركوه إلى الشام فوصل سالما وكان الفرنج قد وضعوا له على مضيق في الطريق رصدا ليأخذوه أو ينالوا منه ظفرا فعلم بهم فعاد عن ذلك الطريق ففيه يقول عمارة:
أخذتم عن الإفرنج كل ثنية
…
وقلت لأيدي الخيل مرّي على (مري)
لئن نصبوا في البر جسر فإنكم
…
عبرتم ببحر من حديد على الجسر.
وكلمة (مري) اسم ملك الفرنج.
[1]
صانعه: داهنه، وأراه، رشاه. ومنه المثل: من صانع بالمال لم يحتشم من طلب الحاجة.
[2]
خلع عليه ثوبا: ألبسه إياه منحة.
بما وقع اتفاقهم معه عليه وحدّث نفسه بالقبض عليه واستخدام جنده لمدافعة الإفرنج ولم يتمّ له ذلك وشعر به أسد الدين فاعترضه صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خرديك مولاه عند قبر الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه وقتلاه وفوّض العاضد أمور دولته إلى أسد الدين وتقاصر الإفرنج عنها ومات أسد الدين واستولى صلاح الدين بعد ذلك على البلاد وارتجع البلاد الإسلامية من يد الإفرنج كما نذكر في أخبار دولته والله أعلم [1] .
[1] ذكرت هذه الحادثة في الكامل ج 11 ص 335 بعنوان.
(ذكر ملك أسد الدين مصر ومقتل شاور) في هذه السنة في ربيع الأول سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى مصر فملكها ومعه العساكر النورية وسبب ذلك ما ذكرناه من تمكن الفرنج من البلاد المصرية وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكموا المسلمين حكما جائرا وركبوهم بالأذى العظيم. فلما رأوا ذلك وأن البلاد ليس فيها من يردهم أرسلوا إلى ملك الفرنج بالشام وهو (مري) ولم يكن للفرنج من ظهر بالشام مثله شجاعة ومكر أو دهاء يستدعونه ليملكها وأعلموه خلّوها من موانع وهونوا أمرها عليه فلم يجبهم فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذو الرأي منهم فأشاروا عليه بقصدها وتملكها فقال لهم:
الرأي عندي أننا لا نقصدها ولا طمعة لنا فيها وأموالها تساق إلينا نتقوى بها على نور الدين، وان نحن قصدناها لنملكها فإن صاحبها وعساكره وعامه بلاده وفلاحيها لا يسلمونها إلينا ويقاتلوننا دونها ويحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين، ولئن صار له فيها مثل أسد الدين فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من ارض الشام فلم يقبلوا قوله، وقالوا له: إنها لا مانع فيها ولا حامي وإلى أن يتجهز عسكر نور الدين ويسير إليها نكون نحن قد ملكناها وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص. فلما سمع نور الدين شرع أيضا بجمع عساكره وأمرهم بالقدوم عليه، وجدّ الفرنج في السير إلى مصر فقدموها ونازلوا مدينة بلبيس وملكوها قهرا مستهل صفر ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور بن الخياط وابن فرجلة، فقوي جنان الفرنج وساروا من بلبيس إلى مصر فنزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع فحفظوا البلد وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه. فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس ملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله تعالى حسن لهم ذلك أي ما فعلوا (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد فانتقلوا وبقوا على الطرق ونهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم خوفا أن يملكها الفرنج فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج فشرع في تسيير الجيوش. وأما الفرنج فإنّهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال فضاق به الأمر وضعف عن ردهم فأخلد إلى أعمال الحليلة فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودة ومحبة له قديما، وإن هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه ويشير بالصلح وأخذ مالا لئلا يتسلم البلاد نور الدين فأجابه الى ذلك على ان يعطوه ألف ألف دينار مصرية يعمل البعض ويمهل بالبعض فاستقرت القاعدة على ذلك، ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليه وربما سلمت إلى نور الدين فأجابوا كارهين وقالوا نأخذ المال فنتقوى به وتعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) فعجل لهم شاور مائة ألف دينار وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال فرحلوا قريبا، وجعل شاور يجمع المال من أهل القاهرة ومصر فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما فيها وما سلم نهب وهم لا