الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
للباحثين المحدثين من عرب ومستشرقين كتب مختلفة فى تاريخ الأدب العربى أدّت كثيرا من الفائدة والنفع منذ ظهورها، غير أن من الحق أنه ليس بين هذه الكتب ما يبسط الحديث فى أدبنا وأدبائنا على مرّ التاريخ من الجاهلية إلى العصر الحديث بسطا مفصلا دقيقا. وأغزر هذه الكتب وأحفلها مادة كتاب «تاريخ الأدب العربى» لبروكلمان، وهو دائرة معارف جامعة، لا تقتصر على الحديث عن شعرائنا وكتّابنا، بل تفيض فى الكلام عن فلاسفتنا وعلمائنا من كل صنف وعلى كلّ لون، مع استقصاء آثارهم المطبوعة والمخطوطة فى مشارق الأرض ومغاربها والإشارة إلى ما كتب عنهم قديما وحديثا. وهذه العناية من وصف التراث العربى جميعه جعلت بروكلمان لا يعنى عناية مفصلة ببحث العصور والظواهر الأدبية ولا ببحث شخصيات الأدباء بحثا تاريخيّا نقديّا تحليليّا، إذ شغلته عن ذلك مواد كتابه المتنوعة الكثيرة.
وإذن فأنا لا أبالغ إذا قلت إن تاريخ أدبنا العربى يفتقر إلى طائفة من الأجزاء المبسوطة تبحث فيها عصوره من الجاهلية إلى عصرنا الحاضر كما تبحث شخصياته الأدبية بحثا مسهبا، بحيث ينكشف كل عصر انكشافا تامّا، بجميع حدوده وبيئاته وآثاره وما عمل فيها من مؤثرات ثقافية وغير ثقافية، وبحيث تنكشف شخصيات الأدباء انكشافا كاملا، بجميع ملامحها وقسماتها النفسية والاجتماعية والفنية.
وقد حاولت أن أنهض بهذا العبء، وأنا أعلم ثقل المئونة فيه، فإن كثيرا من الآثار الأدبية القيمة لا يزال مخطوطا لما ينشر، وكثيرا مما نشر فى حاجة إلى أن يعاد نشره نشرا علميّا. وهناك بيئات أدبية يغمرها غير قليل من الظلام، إما لقلة ما بين أيدينا من تراثها الأدبى، وإما لأن الباحثين لم يكشفوا دروبها ومناجمها كشفا
كافيا. يضاف إلى ذلك أن تحليل آثار الأدباء وتقويمها ليس عملا سهلا، لكثرة ما يداخلها من عناصر الحياة والفن المتشابكة، ولأنها تتألف من معان وأساليب جميلة، وهى لا تخضع خضوعا مطلقا لقواعد العلم وقوانينه، حقّا تخضع للطريقة العلمية، ولكن باستمرار تظل فيها جوانب خاضعة للذوق ونفاذ البصيرة والإحساس المرهف. وذلك كله مما يضاعف الجهد على من يريد تأريخ أدبنا العربى تأريخا مفصلا دقيقا على اختلاف عصوره وتفاوت بيئاته، غير أنه يضاعف فى الوقت نفسه لذّته فيه، إذ يرى أمنيته فى إتقان عمله بعيدة عسيرة، لا يمكنه بلوغها إلا بشق النفس، فيجدّ ويلحّ، ويمضى فى الجدّ والإلحاح، حتى يظفر بما يريد، مؤمنا بأنه لا يقول الكلمة الأخيرة فيما يبحثه، إذ البحث الأدبىّ لا يعرف الكلمة الأخيرة فى مسألة من مسائله.
ومعنى ذلك أن هذا الجزء من تاريخ أدبنا العربى الخاص بالعصر الجاهلى -والذى ستتلوه أجزاء أخرى تتناول بقية عصور هذا التاريخ-لا أزعم أنه يحمل إلى القراء الصورة الأخيرة لهذا العصر، كما لا أزعم أن الأجزاء التالية ستحمل الصورة الأخيرة للعصور المتعاقبة. وإنما أزعم أن هذه الصورة هى التى استطعت رسمها مع ما بذلت من جهد واصطنعت من نهج وتحرّيت من دقّة، وقد يأتى بعدى من يعدّل فى جانب من جوانبها بما يهتدى إليه من حقائق أدبية غابت عنى فى بعض العصور أو بعض البيئات والشخصيات الأدبية. وتلك طبيعة الأبحاث يكمل بعضها بعضا ولا تزال فى نمو مطرد. والله أسأل أن يلهمنى السداد فى القول والفكر والعمل، وهو حسبى، ونعم الوكيل.
القاهرة فى 20 من ديسمبر سنة 1960 شوقى ضيف