المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - الخطابة - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد

- ‌1 - كلمة أدب

- ‌2 - تاريخ الأدب

- ‌3 - تقسيمات تاريخ الأدب العربى وعصوره

- ‌الفصل الأولالجزيرة العربية وتاريخها القديم

- ‌1 - صفة الجزيرة العربية

- ‌2 - الساميون

- ‌3 - العرب الجنوبيون

- ‌4 - العرب الشماليون

- ‌5 - النقوش ونشأة الكتابة العربية

- ‌الفصل الثانىالعصر الجاهلى

- ‌1 - تحديد العصر

- ‌2 - الإمارات العربية فى الشمال (الغساسنة-المناذرة-كندة)

- ‌3 - مكة وغيرها من مدن الحجاز

- ‌4 - القبائل البدوية

- ‌5 - حروب وأيام مستمرة

- ‌الفصل الثالثالحياة الجاهلية

- ‌1 - الأحوال الاجتماعية

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - المعارف

- ‌4 - الدين

- ‌5 - اليهودية والنصرانية

- ‌الفصل الرابعاللغة العربية

- ‌1 - عناصر سامية مغرقة فى القدم

- ‌2 - لهجات عربية قديمة

- ‌3 - نشوء الفصحى

- ‌4 - لهجات جاهلية

- ‌5 - سيادة اللهجة القرشية

- ‌الفصل الخامسرواية الشعر الجاهلى وتدوينه

- ‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى

- ‌2 - رواة محترفون

- ‌3 - التدوين

- ‌4 - قضية الانتحال

- ‌5 - أهم مصادر الشعر الجاهلى

- ‌الفصل السادسخصائص الشعر الجاهلى

- ‌1 - نشأة الشعر الجاهلى وتفاوته فى القبائل

- ‌2 - الشعر الجاهلى شعر غنائى

- ‌3 - الموضوعات

- ‌4 - الخصائص المعنوية

- ‌5 - الخصائص اللفظية

- ‌الفصل السابعامرؤ القيس

- ‌1 - قبيلته وأسرته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الثامنالنابغة الذبيانى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل التاسعزهير بن أبى سلمى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل العاشرالأعشى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الحادى عشرطوائف من الشعراء

- ‌1 - الفرسان

- ‌2 - الصعاليك

- ‌3 - شعراء آخرون

- ‌الفصل الثانى عشرالنثر الجاهلى

- ‌1 - صور النثر الجاهلى

- ‌2 - الأمثال

- ‌3 - الخطابة

- ‌4 - سجع الكهان

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌3 - الخطابة

‌3 - الخطابة

ليس بين أيدينا نصوص وثيقة من الخطابة الجاهلية، لما قلناه من بعد المسافة بين العصر الذى قيلت فيه وعصور تدوينها، ولذلك كان ينبغى أن نحترس مما رواه منها صاحب الأمالى وصاحب العقد الفريد، فأكثره أو جمهوره منحول. على أن اتهامنا لنصوصها لا ينتهى بنا إلى إنكارها على الجاهليين، بل إنه لا ينتهى بنا إلى إنكار ازدهارها كما حاول بعض الباحثين (1)، فقد كان كل شئ عندهم يؤهل لهذا الازدهار، إذ لم يكن ينقصهم شئ من الحرية، وكثرت المنازعات والخصومات بينهم والدعوة إلى الحرب مرة وإلى السلم مرة أخرى. وقد اتخذوا من مجالسهم فى مضارب خيامهم ومن أسواقهم ومن ساحات الأمراء ووفاداتهم عليهم ميادين لإظهار براعتهم وتفننهم فى المقال وحوك الكلام. وأمعفتهم فى ذلك ملكاتهم البيانية وما فطروا عليه من خلابة ولسن وبيان وفصاحة وحضور بديهة، حتى ليقول الجاحظ:«وكل شئ للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام. . عند المقارعة أو المناقلة أو عند صراع أو فى حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذى إليه يقصد، فتأتيه المعانى أرسالا (أفواجا) وتنثال عليه الألفاظ انثيالا. . وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد فى نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر. . من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب (2)» .

وكل ذلك عمل على ازدهار الخطابة فى الجاهلية، وأن تتناول أغراضا مختلفة، فقد استخدموها فى منافراتهم ومفاخراتهم بالأحساب والأنساب والمآثر والمناقب، كمنافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل إلى هرم بن قطبة الفزارى (3) ومنافرة

(1) فى الأدب الجاهلى لطه حسين ص 374.

(2)

البيان والتبيين 3/ 28.

(3)

أغانى (ساسى) 15/ 51.

ص: 410

القعقاع بن معبد التميمى وخالد بن مالك النهشلى إلى ربيعة بن حذار الأسدى (1) واستخدموها فى الحض على القتال وبعث الموجدة فى نفوس قبائلهم ودفعها إلى نيران الحرب وتراميهم فى أوارها كأنهم الفراش، يقول أبو زبيد الطائى (2):

وخطيب إذا تمعّرت الأو

جه يوما فى مأقط مشهود (3)

ويقول عامر المحاربى فى مديح قومه (4):

وهم يدعمون القول فى كل موطن

بكل خطيب يترك القوم كظّما (5)

يقوم فلا يعيا الكلام خطيبنا

إذا الكرب أنسى الجبس أن يتكلما (6)

وكما كان يدعو خطباؤهم إلى الحرب وسفك الدماء كانوا يدعون إلى الصلح وإصلاح ذات البين وأن تضع الحرب أوزارها، يقول ربيعة بن مقروم الضبى (7):

ومتى تقم عند اجتماع عشيرة

خطباؤنا بين العشيرة يفصل

وكانوا كثيرا ما يخطبون فى وفادتهم على الأمراء، إذ يقف رئيس الوفد بين يدى الأمير من الغساسنة أو المناذرة، فيحييه، متحدثا بلسان قومه. وفى السيرة النبوية ما يصور جانبا من هذه الوفود، إذ وفد كثير منها على الرسول منذ السنة الثامنة، وكان يقوم خطيب الوفد بين يديه متحدثا، ويرد عليه خطيب الرسول على نحو ما هو معروف عن وفد تميم وخطبة عطارد بن حاجب بن زرارة بين يديه (8). وكان ذلك سنة شائعة بينهم فى الجاهلية حين يفدون على الأمراء أو على من له رياسة وسيادة، يقول أوس بن حجر فى رثاء فضالة بن كلدة (9):

أباد ليجة من يكفى العشيرة إذ

أمسوا من الخطب فى نار وبلبال

أم من يكون خطيب القوم إذ حفلوا

لدى الملوك ذوى أيد وأفضال (10)

(1) البيان والتبيين 2/ 272.

(2)

البيان والتبيين 1/ 176.

(3)

تمعرت الوجوه: تغيرت واصفرت. المأقط: موضع القتال.

(4)

المفضليات، القصيدة 91.

(5)

كظما: جمع كاظم وهو الساكت غيظا.

(6)

الجبس: اللئيم المنقطع.

(7)

أغانى (ساسى) 19/ 93.

(8)

تاريخ الطبرى، القسم الأول ص 1711 والأغانى (طبعة دار الكتب) 4/ 146.

(9)

نقد الشعر لقدامة (طبعة الجوانب) ص 35 وديوان أوس (طبعة بيروت) ص 103.

(10)

أيد: قوة.

ص: 411

وقد ينبرون فى الأسواق العظام ينصحون قومهم ويرشدونهم، على نحو ما هو معروف عن قسّ وخطبته بسوق عكاظ. وربما نصح الخطيب عشيرته وقومه الأقربين، كبعض ما يروى عن عامر بن الظّرب وأكثم بن صيفى. وكان من عادتهم فى الزواج، وخاصة زواج أشرافهم وأبنائهم أن يتقدم عن الخاطب سيد من عشيرته، يخطب باسمه الفتاة التى يريد الاقتران بها، وخطبة أبى طالب للسيدة خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم مشهورة. ويقول الجاحظ:«كانت خطبة قريش فى الجاهلية-يعنى خطبة النساء-: باسمك اللهم ذكرت فلانة، وفلان بها مشغوف، باسمك اللهم، لك ما سألت، ولنا ما أعطيت» (1). ويقول كان من عادة العرب فى هذه الخطبة أن يطيل الخاطب ويقصّر المجيب (2). ويتحدث عن خطابتهم عامة فيقول: «اعلم أن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين منها الطوال، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويا فى الجودة ومتشاكلا فى استواء الصنعة، ومنها ذوات الفقر الحسان والنّتف الجياد. . ووجدنا عدد القصار أكثر ورواة العلم إلى حفظها أسرع (3)» .

وليس كل ما يدل على ازدهار الخطابة فى الجاهلية ما رأيناه آنفا من تعدد أنواعها وخوضها فى أغراض مختلفة من المصاهرة أو الوفادة على الأمراء أو النصح والإرشاد أو الدعوة إلى الحرب أو الكفّ عن القتال أو فى المنافرات والمفاخرات، فقد استقر فى نفوس العباسيين وعلى رأسهم الجاحظ أنهم كانوا يكثرون من الخطب وأن قبيلة من القبائل بل عشيرة من العشائر لم تكن تخلو من خطيب، وهو يسوق فى البيان والتبيين أثباتا طويلة بأسمائهم ومواقفهم موردا من حين إلى حين فقرا وشظايا من أقوالهم. ولعل من الخير أن نعرض أطرافا من ذلك، حتى تتضح لنا هذه النهضة الخطابية عندهم من بعض وجوهها، وخاصة أننا لا نطمئن إلى ما يروى لهم فى كتب الأدب والتاريخ من خطب، ومن ثم سنعمد عمدا إلى سرد أسماء خطبائهم من جهة وإنشاد بعض الأشعار التى تصور بيانهم وبراعتهم فى هذا اللون من ألوان نثرهم، لما هو معروف من أن الشعر يمكن أن ينقل عن طريق الرواية آمادا من الأزمنة بفضل ما فيه من موسيقى تحفظه من الاضطراب على ألسنة الرواة

(1) البيان والتبيين 1/ 408.

(2)

البيان والتبيين 1/ 116.

(3)

البيان والتبيين 2/ 7.

ص: 412

وتحول بينه وبين دخول خلل واسع فى صوره الأصلية.

وإذا رجعنا نستعرض أسماء خطبائهم وجدنا البيان والتبيين يموج بهم، من مثل قيس بن شمّاس فى يثرب، وابنه ثابت وهو خطيب النبى صلى الله عليه وسلم.

ومن خطباء الأنصار أيضا سعد بن الربيع، وهو الذى اعترضت ابنته النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال لها: من أنت؟ قالت: ابنة الخطيب النقيب الشهيد سعد ابن الربيع (1). أما مكة فمن قدماء خطبائها هاشم وأمية ونفيل بن عبد العزّى جد عمر بن الخطاب، وإليه تنافر عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية (2)، ويظهر أنه كان بها خطباء كثيرون، وربما كان مما هيأ لكثرتهم وجود دار الندوة بها، وهى تشبه مجلس شيوخ مصغر، كانوا يجتمعون فيها ويخطبون ويتحاورون (3)، وممن عرف فيها بالخطابة عتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو الأعلم، وهو الذى قال فيه عمر للرسول صلى الله عليه وسلم:«يا رسول الله! انزع ثنيّتينه (4) السّفليين حتى يدلع (5) لسانه فلا يقوم عليك خطيبا أبدا» فقال الرسول عليه السلام: «لا أمثّل فيمثل الله بى، وإن كنت نبيّا، دعه يا عمر، فعسى أن يقوم مقاما تحمده (6)»

وممن اشتهروا بالخطابة فى القبائل عامر بن الظّرب فى عدوان وربيعة (7) بن حذار فى أسد وحنظلة بن ضرار فى ضبّة وقد طال عمره حتى أدرك يوم الجمل (8)، وعمرو ابن كلثوم فى تغلب (9) وهانئ بن قبيصة فى شيبان، وهو خطيب يوم ذى قار (10)، وزهير بن جناب فى كلب وقضاعة (11)، وابن عمار فى طيئ، وهو خطيب مذحج كلها (12). ومن خطبائهم لبيد بن ربيعة العامرى، ومن قوله (13):

وأخلف قسّا ليتنى ولو أننى

وأعيى على لقمان حكم التدبّر

وهيذان بن شيخ الذى قال فيه الرسول صلوات الله عليه: ربّ خطيب من عبس (14)، وخويلد بن عمرو والعشراء بن جابر الغطفانيان (15)، ومن خطباء غطفان أيضا قيس بن خارجة بن سنان الذى خطب فى حرب داحس والغبراء

(1) البيان والتبيين 1/ 358 - 360.

(2)

تاريخ الطبرى، القسم الأول ص 1091.

(3)

السيرة النبوية (طبعة الحلبى) 2/ 124.

(4)

الثنيتان: الأضراس فى مقدم الفم.

(5)

يدلع: يسترخى، فلا يحسن النطق.

(6)

البيان والتبيين 1/ 317.

(7)

نفس المصدر 1/ 365 والأغانى (ساسى) 10/ 61.

(8)

نفس المصدر 1/ 341.

(9)

نفس المصدر 2/ 141.

(10)

أغانى (ساسى) 20/ 137.

(11)

نفس المصدر 21/ 65.

(12)

البيان والتبيين 1/ 349.

(13)

البيان والتبيين 1/ 189.

(14)

البيان والتبيين 1/ 273.

(15)

نفس المصدر 1/ 350 - 351.

ص: 413

يوما إلى الليل (1) وهرم بن قطبة الفزارى (2) الذى احتكم إليه علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، فقال لهما-كما مر بنا-:«أنتما كركبتى البعير الأدرم (الفحل) تقعان على الأرض معا (3)» .

ومن خطباء تميم المفوّهين أكثم بن صيفىّ وضمرة بن ضمرة، ويروى أنه لما دخل على النعمان بن المنذر زرى عليه للذى رأى من دمامته وقصره وقلّته، فقال للنعمان:«تسمع بالمعيدى لا أن تراه» فقال: أبيت اللّعن! «إن الرجال لا تكال بالقفزان (4) ولا توزن بالميزان، وليست بمسوك (5) يستقى بها، وإنما المرء بأصغريه:

بقلبه ولسانه، إن صال صال بجنان، وإن قال قال ببيان (6)». ومن خطباء تميم أيضا عطارد بن حاجب بن زرارة وهو خطيب وفدها، كما مرّ بنا، بين يدى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم عمرو بن الأهتم المنقرىّ، ولم يكن فى بادية العرب فى زمانه أخطب منه (7)، ويروى أن الرسول سأله عن الزّبرقان بن بدر فقال «مانع لحوزته، مطاع فى أدنيه» فقال الزّبرقان: «أما إنه قد علم أكثر مما قال، ولكنه حسدنى شرفى» فقال عمرو: «أما لئن قال ما قال، فو الله ما علمته إلا ضيّق الصدر، زمر (8) المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى. فلما رأى أنه قد خالف قوله الآخر قوله الأول ورأى الإنكار فى عينى رسول الله قال: «يا رسول الله! رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت فى الأولى، ولقد صدقت فى الآخرة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إن من البيان لسحرا (9)» . ومن خطباء بنى منقر التميميين أيضا قيس بن عاصم الذى قال فيه الرسول صلوات الله عليه جين رآه: هذا سيد أهل الوبر (10)، وهو الذى قال فيه عبدة بن الطبيب حين مات (11):

وما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدّما

(1) البيان والتبيين 1/ 116.

(2)

البيان والتبيين 1/ 365.

(3)

أغانى (ساسى) 15/ 51.

(4)

القفزان: جمع قفيز، وهو مكيال عراقى.

(5)

المسوك: جمع مسك وهو الجلد.

(6)

البيان والتبيين 1/ 171.

(7)

البيان والتبيين 1/ 355.

(8)

زمر: قليل.

(9)

البيان والتبيين 1/ 53.

(10)

البيان والتبيين 2/ 33.

(11)

البيان والتبيين 2/ 353.

ص: 414

ومن خطباء إياد قسّ بن ساعدة، وهو الذى قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم: رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت (1). ويقول الجاحظ: «ولإياد خصلة ليست لأحد من العرب، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى روى كلام قسّ بن ساعدة وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته، وهو الذى رواه لقريش وللعرب، وهو الذى عجّب من حسنه وأظهر من تصويبه.

وهذا إسناد تعجز عنه الأمانى وتنقطع دونه الآمال (2)». على أن ابن حجراتهم هذا الإسناد (3)، وخاصة بعد توسّع الرواة فى خطبة قس وتحميلهم لها إشارات بقرب مبعث الرسول عليه السلام. ومما لا ريب فيه أن لها أصلا صحيحا تزيد فيه الرواة.

وواضح أن هذه كثرة من الخطباء الجاهليين، إن لم يصح ما أثر عنهم من خطب فإن من المحقق أنهم خطبوا كثيرا فى أقوامهم وقبائلهم وإلا ما اشتهروا بالبراعة فى هذا اللون من ألوان اللّسن والبيان. وكان مما بعثهم على إحسانه حاجتهم إليه فى مواطن ومواقف عدة، وكان قلما يرتفع نجم سيد من سادتهم إلا والخطابة صفة من صفاته وسجية من سجاياه، حتى تساق له القلوب بأزمتها وتجمع له النفوس المختلفة من أقطارها. وكل شئ يؤكد أن منزلة الخطيب عندهم كانت فوق منزلة الشاعر، فهى قرين السؤدد والشرف والرياسة، يقول أبو عمرو بن العلاء:«كان الشاعر فى الجاهلية يقدّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذى يقيّد عليهم مآثرهم، ويفخّم شأنهم، ويهوّل على عدوّهم ومن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم، ويخوّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم، فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة وتسرعوا إلى أعراض الناس صار الخطيب عندهم فوق الشاعر (4)» . وعلى هدى هذا القول مضى الجاحظ يقول: «كان الشاعر أرفع قدرا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرا من الشاعر (5)» .

(1) البيان والتبيين 1/ 308.

(2)

نفس المصدر 1/ 52.

(3)

السيرة الحلبية (طبعة مصر) 1/ 210 وقارن باللآلئ المصنوعة للسيوطى 1/ 95.

(4)

البيان والتبيين 1/ 241.

(5)

البيان والتبيين 4/ 83.

ص: 415

وربما كان من أسباب ذلك أن الشاعر-إذ استثنينا زهيرا-كان هو الذى يهيج النفوس للحرب بما يدعو للأخذ بالثأر، أما الخطيب فكان غالبا يدعو إلى السلم وان تضع الحرب بين القبائل المتخاصمة أوزارها، وكثيرا ما يقف من قومه موقف الناصح الأمين يهديهم ويرشدهم، أما الشاعر فأكثر مواقفه هجاء وتنابذ بالألقاب والأحساب والمآثر والمعايب.

وقد تعارف خطباؤهم على جملة من السنن والتقاليد فى خطابتهم، فكانوا يخطبون على رواحلهم فى الأسواق العظام والمجامع الكبار (1)، وقد لاثوا العمائم على رءوسهم. وفى أثناء خطابتهم كانوا يمسكون بالعصىّ والمخاصر والقضبان والقنا والقسىّ راكبين أو واقفين على مرتفع من الأرض، وأشار إلى ذلك لبيد إذ يقول (2):

ما إن أهاب إذا السّرادق عمّه

قرع القسىّ وأرعش الرّعديد

ووقفت الشعوبية طويلا عند عادة خطباء العرب من اتخاذ العصى والمخاصر وردّ عليهم الجاحظ فى بيانه مبينا فوائد العصا، ومن قوله فى تلك العادة:«إن حمل العصا والمخصرة دليل على التأهب للخطبة والتهيؤ للإطناب والإطالة، وذلك شئ خاص فى خطباء العرب ومقصور عليهم ومنسوب إليهم، حتى إنهم ليذهبون فى حوائجهم، والمخاصر بأيديهم إلفا لها وتوقعا لبعض ما يوجب حملها والإشارة بها (3)»

وكانوا يمدحون فى الخطيب ثبات الجنان وحضور البديهة وقلة التلفت وكثرة الريق وجهارة الصوت وقوته، وكانوا يعيبون فيه التنحنح والارتعاش والحصر والتعثر فى الكلام، يقول النّمر بن تولب (4):

أعذنى ربّ من حصر وعىّ

ومن نفس أعالجها علاجا

ويقول أبو العيال الهذلى:

ولا حصر بخطبته

إذا ما عزّت الخطب

وذموا فى الخطيب أن يكثر من مسّه لذقنه وشوار به ولحيته، وكأنما رأوا فى ذلك

(1) البيان والتبيين 3/ 7.

(2)

نفس المصدر 1/ 372، 3/ 9.

(3)

البيان والتبيين 3/ 117.

(4)

انظر فى هذا البيت وتاليه البيان والتبيين 1/ 3.

ص: 416

ضربا من الخرق فى استخدام الجوارح، يقول معن بن أوس المزنى فى بعض هجائه (1):

إذا اجتمع القبائل جئت ردفا

وراء الماسحين لك السّبالا (2)

فلا تعطى عصا الخطباء فيهم

وقد تكفى المقادة والمقالا

وكثيرا ما كانوا يتزيدون فى جهارة الصوت وينتحلون سعة الأشداق وهدل الشفاه، ومن أجل ذلك قال الرسول صلوات الله عليه: إياى والتشادق، وقال:

أبغضكم إلىّ الثرثارون المتفيهقون (3).

وإذا ذهبنا نستنطق النصوص عن أساليب خطابتهم، وهل كانوا يعمدون فيها إلى الأسلوب المرسل أو إلى الأسلوب المسجّع وجدنا أنفسنا بإزاء تراث متهم لا يمكن الاعتماد عليه فى الاستنتاج، لما قلنا مرارا من أن حقبا متطاولة تفصل بين العصر الذى دوّنت فيه تلك الخطب والآخر الذى قيلت فيه. ومع أن الكثرة الكثيرة من هذه الخطب منتحلة نلاحظ أن من نحلوها الجاهليين إنما قاسوها على أمثلة رويت لهم، فإذا لا حظنا أن أكثر مفاخراتهم ومنافراتهم روى مسجوعا كان معنى ذلك انه ثبت عند من نحلوا الجاهليين هذه المفاخرات والمنافرات أنهم كانوا يسجعون فيها. وتستطيع أن ترجع إلى منافرة عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية وتحكيمهما لنفيل بن عبد العزّى فى تاريخ الطبرى (4) فستجدها مسجوعة، ومثلها منافرة جرير بن عبد الله البجلى وخالد بن أرطاة الكلبى إلى الأقرع بن حابس، فقد رويت فى شرح نقائض جرير والفرزدق لأبى عبيدة، وهى مسجوعة (5)، ومثلهما منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطّفيل المروية فى كتاب الأغانى، فهى الأخرى مبنية على السجع (6). ويجعل الجاحظ ذلك قاعدة عامة أو كالقاعدة العامة، فيقول:«إن ضمرة بن ضمرة وهرم بن قطبة والأقرع بن حابس ونفيل بن عبد العزّى كانوا يحكمون وينفرون بالأسجاع، وكذلك ربيعة بن حذار (7)»

(1) البيان والتبيين 1/ 372.

(2)

السبال: مقدم اللحية. يهجوه بأنه ليس رئيسا ولا خطيبا.

(3)

البيان والتبيين 1/ 13. المتفيهق: الذى يفتح بالكلام جوانب فمه ويملؤه به.

(4)

الطبرى، القسم الأول ص 1091

(5)

النقائض 1/ 141.

(6)

أغانى (طبعة الساسى) 15/ 51

(7)

البيان والتبيين 1/ 290.

ص: 417

كما يقول فى موضع آخر إنهم كانوا يستخدمون الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، بينما كانوا يستعملون المنثور المرسل فى خطب الصلح وسلّ السخيمة وعند المعاقدة والمعاهدة. وكأنهم عرفوا فى الجاهلية لونين من الخطابة لونا مسجوعا ولونا مرسلا.

ولا تظن أنهم فى خطابتهم المرسلة لم يكونوا يروّون فقد كانوا يعمدون إلى ما يثير السامعين من كلم بليغ، حتى يؤثروا فيهم ويبلغوا ما يريدون من استمالتهم، يقول الجاحظ:«لم نرهم يستعملون مثل تدبيرهم فى طوال القصائد وفى صنعة طوال الخطب، وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأى فى معاظم التدبير ومهمّات الأمور ميّثوه (1) فى صدورهم وقيدوه على أنفسهم، فإذا قوّمه الثّقاف، وأدخل الكير، وقام على الخلاص أبرزوه محكّكا منقحا ومصفّى من الأدناس مهذبا (2)» .

ومن يقرأ الفقر القصار والمحاورات المختصرة التى بقيت من تراثهم، تلك التى يرويها الجاحظ، يشعر حقّا أنهم كانوا يبتغون التجويد فى كلامهم، تارة بما يصوغونه فيه من سجع، وتارة أخرى بما يخرجونه فيه من استعارات وأخيلة.

ودائما يعنون ببهاء اللفظ وقوته ونصاعته، كما يعنون بوضوح الحجة. وتصوّر أشعارهم جوانب من ذلك كقول لبيد لهرم بن قطبة حين احتكم إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة (3):

إنك قد أوتيت حكما معجبا

فطبّق المفصل واغنم طيّبا

وواضح أنه يقول له: إنك قد أوتيت حكما فاصلا قاطعا يفصل بين الحق والباطل كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمين. ومن ذلك قولهم فلان يفلّ المحزّ ويصيب المفصل ويضع الهناء مواضع النّقب (4). والعبارة الأخيرة مستعارة من صنيع الحاذق حين يلم الجرب بإبله فيضع دواءه فى مواضعه الدقيقة. يمثلون بذلك للمصيب الموجز فى خطابته وبيانه، كما مثلوه فى التعبيرين الأولين بالجزار الحاذق الذى يصيب عين الموضع من جزوره سواء فى العظم أو فى اللحم. وقد يشبهون كلامهم بالسهام المصمية، ومن ثم استخدموا كلمة مدره للشجاع والخطيب المفلق فى الوقت نفسه، وأصل معناها المرامى، فاستعيرت من رامى السهام لرامى الكلام

(1) ميثوه: ذللوه.

(2)

البيان والتبيين 2/ 14.

(3)

البيان والتبيين 1/ 109.

(4)

نفس المصدر 1/ 107. الهناء: القطران. والنقب: أول ما يبدو من الجرب فى الإبل.

ص: 418

الذى يبلغ به ما يريد من إصابة خصمه والنكاية به، يقول زهير بن أبى سلمى (1):

ومدره حرب حميها يتّقى به

شديد الرّجام باللسان وباليد

ونراهم يصفون خطباءهم بأنهم مصاقع ولسن، وافتخروا بذلك طويلا على نحو ما نجد عند قيس بن عاصم المنقرىّ يصف ما فيه وفى عشيرته بنى منقر من الخطابة والفصاحة (2):

إنى امرؤ لا يعترى خلقى

دنس يفنّده ولا أفن (3)

من «منقر» فى بيت مكرمة

والأصل ينبت حوله الغصن

خطباء حين يقوم قائلهم

بيض الوجوه مصاقع لسن

وقد حذروا طويلا من شدة وقع اللسان، وقالوا إن جرح اللسان كجرح اليد وإنه عضب وقاطع كالسيف، يقول طرفة (4):

بحسام سيفك أو لسانك وال

كلم الأصيل كأرغب الكلم

ولعل مما يدل دلالة قاطعة على أنهم أحسوا بجمال ما يلفظ به خطباؤهم أننا نراهم يشبهون كلامهم بالثياب الموشّاة وبالحلل والدّيباج وأشباه ذلك، يقول أبو قردودة الطائى فى رثاء ابن عمّار خطيب مذحج وقد مات مقتولا (5):

ومنطق خرّق بالعواسل

لذّكوشى اليمنة المراحل (6)

ولعل فى كل ما قدمنا ما يدل دلالة واضحة على أن الخطابة كانت مزدهرة فى الجاهلية، فقد كانوا على حظ كبير من الحرية، وكانوا يخطبون فى كل موقف:

فى المفاخرات وفى الدعوة إلى السلم أو الحرب وفى النصح والإرشاد وفى الصهر والزواج. وابتغوا دائما فى كلامهم أن يؤثر فى نفوس سامعيهم بما حققوا له من ضروب بيان وبلاغة.

(1) ديوان زهير (طبعة دار الكتب) ص 223.

(2)

البيان والتبيين 1/ 219.

(3)

يفند: ينقض ويضعف. الأفن: ضعف الرأى.

(4)

البيان والتبيين 1/ 156. أرغب: أوسع: الكلم بسكون اللام: الجرح.

(5)

البيان والتبيين 1/ 349.

(6)

العواسل: الرماح. المراحل: جمع مرحل وهو ما نقش فيه تصاوير الرحال.

ص: 419