المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ١

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌تمهيد

- ‌1 - كلمة أدب

- ‌2 - تاريخ الأدب

- ‌3 - تقسيمات تاريخ الأدب العربى وعصوره

- ‌الفصل الأولالجزيرة العربية وتاريخها القديم

- ‌1 - صفة الجزيرة العربية

- ‌2 - الساميون

- ‌3 - العرب الجنوبيون

- ‌4 - العرب الشماليون

- ‌5 - النقوش ونشأة الكتابة العربية

- ‌الفصل الثانىالعصر الجاهلى

- ‌1 - تحديد العصر

- ‌2 - الإمارات العربية فى الشمال (الغساسنة-المناذرة-كندة)

- ‌3 - مكة وغيرها من مدن الحجاز

- ‌4 - القبائل البدوية

- ‌5 - حروب وأيام مستمرة

- ‌الفصل الثالثالحياة الجاهلية

- ‌1 - الأحوال الاجتماعية

- ‌2 - المعيشة

- ‌3 - المعارف

- ‌4 - الدين

- ‌5 - اليهودية والنصرانية

- ‌الفصل الرابعاللغة العربية

- ‌1 - عناصر سامية مغرقة فى القدم

- ‌2 - لهجات عربية قديمة

- ‌3 - نشوء الفصحى

- ‌4 - لهجات جاهلية

- ‌5 - سيادة اللهجة القرشية

- ‌الفصل الخامسرواية الشعر الجاهلى وتدوينه

- ‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى

- ‌2 - رواة محترفون

- ‌3 - التدوين

- ‌4 - قضية الانتحال

- ‌5 - أهم مصادر الشعر الجاهلى

- ‌الفصل السادسخصائص الشعر الجاهلى

- ‌1 - نشأة الشعر الجاهلى وتفاوته فى القبائل

- ‌2 - الشعر الجاهلى شعر غنائى

- ‌3 - الموضوعات

- ‌4 - الخصائص المعنوية

- ‌5 - الخصائص اللفظية

- ‌الفصل السابعامرؤ القيس

- ‌1 - قبيلته وأسرته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الثامنالنابغة الذبيانى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل التاسعزهير بن أبى سلمى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل العاشرالأعشى

- ‌1 - قبيلته

- ‌2 - حياته

- ‌3 - ديوانه

- ‌4 - شعره

- ‌الفصل الحادى عشرطوائف من الشعراء

- ‌1 - الفرسان

- ‌2 - الصعاليك

- ‌3 - شعراء آخرون

- ‌الفصل الثانى عشرالنثر الجاهلى

- ‌1 - صور النثر الجاهلى

- ‌2 - الأمثال

- ‌3 - الخطابة

- ‌4 - سجع الكهان

- ‌خاتمة

- ‌1 - خلاصة

- ‌2 - تعليق

الفصل: ‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى

‌الفصل الخامس

رواية الشعر الجاهلى وتدوينه

‌1 - رواية العرب للشعر الجاهلى

مرّ بنا فى غير هذا الموضع أن العرب الشماليين نمو الخط النبطى وتطوروا به إلى خطهم العربى منذ أوائل الجاهلية أو لعلهم وصلوا إلى ذلك قبل فجرها، فقد وجدت نقوش مختلفة تشهد بذلك، ونرى شعراءهم يشيع عندهم تشبيه الأطلال ورسوم الديار بالكتابة ونقوشها من مثل قول المرقّش الأكبر (1)».

الدّار قفر والرسوم كما

رقّش فى ظهر الأديم قلم

ويقال إنه كان يحسن الكتابة وإنه كتب على بعض الرّحال قصيدة له حين وقع أسيرا فى يد بعض العرب (2)، ويقول سلامة ابن جندل (3):

لمن طلل مثل الكتاب المنمّق

خلا عهده بين الصّليب فمطرق

ولعله يقصد بالكتاب الصحيفة، ويقول لبيد فى مطلع معلقته:

عفت الديار محلّها فمقامها

بمنى تأبّد غولها فرجامها (4)

فمدافع الرّيّان عرّى رسمها

خلقا كما ضمن الوحىّ سلامها (5)

وجلا السيول عن الطلول كأنها

زبر تجدّ متونها أقلامها (6)

(1) المفضليات (طبع دار المعارف) ص 237، رقش: زين ونمق.

(2)

الأغانى (طبعة دار الكتب) 6/ 130

(3)

الأصمعيات (طبعة دار المعارف) ص 146 والصليب ومطرق: موضعان.

(4)

عفت: درست وامحت، تأبد: توحش. والمحل: حيث يحل القوم. والمقام: المجلس، ومنى: موضع بحمى ضرية، والغول والرجام: جبلان أو موضعان.

(5)

مدافع الريان: موضع، والرسم: آثار الديار، وخلقا: دروسا، والوحى: جمع وحى وهو الكتابة، والسلام: الحجارة الرقيقة.

(6)

الزبر: جمع زبور وهو الكتاب، وتجد: تجدد.

ص: 138

فهو يشبه رسوم الديار بالوحى أو الكتابة فى الحجارة الرقيقة، ويقول إن السيول جلت التراب عن الطلول، حتى لكأنما آثار الديار كتب طمست فأعيد بعضها على بعض وترك ما تبيّن منها، فهى مختلفة. ويقول الأخنس بن شهاب التغلبى (1):

لإبنة حطّان بن عوف منازل

كما رقّش العنوان فى الرّقّ كاتب

ويقول الحارث بن حلّزة اليشكرى البكرى (2):

لمن الديار عفون بالحبس

آياتها كمهارق العرس

ويدور هذا التشبيه كثيرا فى أشعارهم، مما قد يدل على أن كثيرين منهم كانوا يعرفون الكتابة، بل إن فريقا منهم، كما يقول الرواة، كان يعرف الكتابة الفارسية على نحو ما حدثونا عن لقيط بن يعمر الإيادى وعدى بن زيد العبادى (3). ومما لا شك فيه أن الكتابة كانت شائعة فى الحواضر وخاصة فى مكة التاجرة. وفى السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء الأسرى القرشيين الكاتبين فى بدر أن يعلّم الأسير منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة (4)، وكان من يكتبون بين يديه الوحى وفيما يعرض من أموره وأمور المسلمين فى عقودهم ومعاملاتهم كثيرين (5). فالكتابة كانت معروفة بل كانت شائعة فى الجاهلية، ورويت أخبار متفرقة تدل على أن بعض الشعراء استخدمها بلاغا شعريا لقومه فى بعض ما حزبه من الأمر (6). وغلا كرنكو فزعم أن نظم الشعر فى الجاهلية كان مرتبطا بها وبمعرفتها بدليل اختلاف القراءات للفظة الواحدة، وأيضا فإن استخدام الشاعر لبعض القوافى النادرة يدل على أنه كان يلاحظ العين أكثر مما يلاحظ الأذن (7).

(1) المفضليات ص 204 والرق: الجلد الرقيق.

(2)

المفضليات ص 132 والحبس بتثليث الحاء: موضع، وآياتها: علاماتها، والمهارق: الصحف.

(3)

أغانى 2/ 101 وطبعة الساسى 20/ 24 والشعر والشعراء (طبعة دار المعارف) 1/ 180

(4)

طبقات ابن سعد 2/ 1: 14.

(5)

الوزراء والكتاب للجهشيارى (طبعة الحلبى) ص 12.

(6)

انظر الباب الثانى فى كتاب مصادر الشعر الجاهلى لناصر الدين الأسد (طبع دار المعارف).

(7)

انظر مقالة له بعنوان for the Preservation of Ancient Arabic Poetry The Use of Writing نشرت مع مقالات أخرى فى كتاب to E .G .Browne،Edited by J .W .Arnold . A Volume of Oriental Studies:

ص: 139

وأكبر الظن أن اختلاف القراءة إنما نشأ فى عصر التدوين أو بعبارة أخرى فى القرن الثانى للهجرة. وأيضا فإن الشعر فن سمعى، وليس فنا بصريا.

والحق أنه ليس بين أيدينا أى دليل مادى على أن الجاهليين اتخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم ربما كتبوا بها بعض قطع أو بعض قصائد، ولكنهم لم يتحولوا من ذلك إلى استخدامها أداة فى نقل دواوينهم إلى الأجيال التالية، فقد كانت وسائلها الصعبة من الحجارة والجلود والعظام وسعف النخل تجعل من العسير أن يتداولها الشعراء فى حفظ دواوينهم، إنما حدث ذلك فى الإسلام، بفضل القرآن الكريم وما أشاعه من كتابة آية وتحوّل جمهور العرب معه من أميتهم الكبيرة إلى قارئين يتلون. ولا نكاد نمضى طويلا فى العصر الإسلامى حتى تتحول العربية من لغة مسموعة فحسب إلى لغة مسموعة مكتوبة، وهو تحول شارك فيه العرب والمستعربون. وكل ما بين أيدينا من روايات عن كتابة بعض الأشعار فى الجاهلية إنما يدل على أن الكتابة كانت معروفة، وخاصة فى البيئات الآخذة بشئ من الحضارة، ونقصد المدن مثل مكة والمدينة والحيرة، ولكنه لا يدل بحال على أنها اتّخذت أداة لحفظ الشعر الجاهلى ودواوينه، ولو أنهم كان لهم كتاب جمعوا فيه أطرافا من أشعارهم لما أطلق الله جل وعز على القرآن اسم الكتاب، فلا كتاب لهم من قبله لا فى الدين ولا فى غير الدين.

أما ما يقال من أن المعلقات كانت مكتوبة ومعلقة فى الكعبة فمن باب الأساطير، وهو فى حقيقته ليس أكثر من تفسير فسر به المتأخرون معنى كلمة المعلقات، فقد جاء فى العقد الفريد أنه بلغ من شغف العرب بالشعر أن «عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب فى القباطى المدرجة وعلقتها فى أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهّبة امرئ القيس ومذهبة زهير. .

والمذهبات السبع، وقد يقال لها المعلقات (1)» ولو أنهم تنبهوا إلى المعنى المراد بكلمة المعلقات ما لجأوا إلى هذا الخيال البعيد. ومعناها المقلّدات والمسمّطات.

وكانوا يسمون فعلا قصائدهم الطويلة الجيدة بهذين الاسمين وما يشبهما (2). وقد

(1) العقد الفريد (طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) 6/ 119.

(2)

البيان والتبيين 2/ 9.

ص: 140

نفى ابن النحاس الأسطورة فقال: «لم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة (1)» .

ونستطيع أن ندخل فى هذا الباب باب الأساطير ما يروى عن حماد الراوية من أن النعمان بن المنذر المتوفى سنة 602 للميلاد «أمر فنسخت له أشعار العرب فى الطنوج-الكراريس-ثم دفنها فى قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبى عبيد (حوالى سنة 67 هـ) قيل له: إن تحت القصر كنزا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة (2)» ويقول ابن سلام: «وقد كان عند النعمان بن المنذر منه (من شعر العرب فى الجاهلية) ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح هو وأهل بيته به، فصار ذلك لى بنى مروان، أو صار منه (3)» . ويكفى أن يكون أصل الخبر حمادا المتهم فى روايته لنشك فيه، بل إنه يحمل فى أطوائه ما يجعلنا نتهمه، فهو ينتهى عنده إلى تعليله به كيف أن أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة، وكأنما ساقه حماد الكوفى لبيان سابقة الكوفة على البصرة فى الشعر القديم والعلم به، والمنافسة بين البلدتين فى هذا الباب معروفة.

وإذا كان القرآن الكريم على قداسته لم يجمع فى مصحف واحد إلا بعد وفاة الرسول، وبعد مشاورة بين أبى بكر رضوان الله عليه والصحابة، فذلك وحده كاف لبيان أن العرب لم تنشأ عندهم فى الجاهلية فكرة جمع شعرهم أو أطراف منه فى كتاب، إنما نشأ ذلك فى الإسلام وبمرور الزمن. أما فى الجاهلية فكانوا يعتمدون فيه على الرواية وكان الشاعر يقف فينشد قصيدته، ويتلقاها عنه الناس ويروونها.

ومعنى ذلك أن النهر الكبير الذى فاض بالشعر الجاهلى إنما هو الرواية الشفوية.

وقد ظلت أزمانا متتالية فى الإسلام. ويدل على ذلك أقوى الدلالة أن الحديث النبوى ظل فى أغلب أحواله يعتمد على الرواية والمشافهة إلى نهاية القرن الأول للهجرة.

وإذا كان الحديث بما له من قدسية لم يعمدوا إلى تدوينه تدوينا عاما إلا بعد مرور

(1) انظر معجم الأدباء لياقوت فى ترجمة حماد 10/ 266.

(2)

راجع الخصائص لابن جنى (طبعة دار الكتب) 1/ 392 ومعجم البلدان لياقوت فى القصر الأبيض.

(3)

طبقات فحول الشعر، لابن سلام (طبعة دار المعارف) ص 23.

ص: 141

نحو قرن على الهجرة الشريفة فأولى أن يكونوا قد اتبعوا ذلك فى الشعر الجاهلى، ولم يكن ركنا فى الشريعة الإسلامية ولا كانت تقوم عليه حاجاتهم الدينية الملحة.

ومن يرجع إلى شعرهم يجد شعراءهم يذكرون دائما الرواية وأنها وسيلة انتشاره فى القبائل، فهى الوسيلة التى كانوا يعرفونها وقد نفذ شعرهم من خلالها إلى آفاق الجزيرة، يقول المسيّب بن علس (1):

فلأهدينّ مع الرياح قصيدة

منى مغلغلة إلى القعقاع (2)

ترد المياه فما تزال غريبة

فى القوم بين تمثّل وسماع

فقصيدته تنتشر فى القبائل، ويرددها الناس مستمعين إليها ومتمثلين بأبياتها، ويقول عميرة بن جعل نادما على هجائه لقومه وشيوعه فى العرب وأنه لم تعد له حيلة فى رده (3):

ندمت على شتم العشيرة بعد ما

مضت واستتبّت للرواة مذاهبه

فأصبحت لا أسطيع دفعا لما مضى

كما لا يردّ الدّرّ فى الضّرع حالبه

فرواية الشعر فى العصر الجاهلى كانت هى الأداة الطيعة لنشره وذيوعه، وكانت هناك طبقة تحترفها احترافا هى طبقة الشعراء أنفسهم، فقد كان من يريد نظم الشعر وصوغه يلزم شاعرا يروى عنه شعره، وما يزال يروى له ولغيره حتى ينفتق لسانه ويسيل عليه ينبوع الشعر والفن. ونصّ صاحب الأغانى على سلسلة من هؤلاء الشعراء الرواة الذين يأخذ بعضهم عن بعض، وقد بدأها بأوس بن حجر التميمى، فعنه أخذ الشعر ورواه حتى أجاد نظمه زهير بن أبى سلمى المزنى، وكان له راويتان كعب ابنه والحطيئة، وعن الحطيئة تلقن الشعر ورواه هدبة بن خشرم العذرى، وعن هدبة أخذ جميل صاحب بثينة، وعن جميل أخذ كثيّر صاحب عزّة (4).

(1) المفضليات ص 62.

(2)

مع الرياح: يريد أنها تذهب كل مذهب، مغلغلة: نافذة تنفذ فى الناس وتسلك إليهم السبل البعيدة.

(3)

الشعر والشعراء 2/ 632 وقارن مع المفضليات ص 100.

(4)

أغانى (طبعة دار الكتب) 8/ 91.

ص: 142

نحن إذن بإزاء مدرسة تامة من الشعراء الرواة تتسلسل فى طبقات أو حلقات، وكل حلقة تأخذ عن سابقتها وتسلم إلى لاحقتها، ومن أهم ما يلاحظ فى هذه المدرسة أن شعراءها أو رواتها كانوا من قبائل مختلفة فى شرقى الجزيرة وغربيها، ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن شعراء القبيلة الواحدة كان يروى خلفهم شعر سلفهم، ونصّ القدماء على ذلك فى غير شاعر، فقالوا إن الأعشى كان رواية لخاله المسيّب بن علس وكان يأخذ منه (1) وقالوا إن أبا ذؤيب الهذلى كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلى (2)، ومن يقرأ ديوان الهذليين يجد أواصر فنية قوية تجمعهم وتربط بينهم. وعلى هذا القياس توجد وشائج واضحة بين شعراء قيس بن ثعلبة، فطرفة يروى للمرقش الأصغر عمه ويأخذ عنه، ويروى هذا عن عمه المرقش الأكبر ويحتذى على شعره. وأيضا فإن طرفة كان يروى عن خاله المتلمّس الذى ربى فى أخواله من بنى يشكر. وقد لا تكون القبيلة الجامعة الواصلة، فقد يجمع بين الشعراء سلوك فى الحياة كالصعاليك أو الفرسان فيروى بعضهم لبعض، ويأخذ بعضهم عن بعض، على نحو ما نلاحظ عند تأبط شرا والشنفرى أو عند أبى دؤاد الإيادى وزيد الخيل.

ولو أن الرواة لم يرووا لنا هذه الصلات الجامعة أو الرابطة بين الشعراء الجاهليين لحدسناها حدسا من اتفاقهم على تقاليد فنية واحدة مهما شرقنا وغربنا فى الجزيرة، وهى تقاليد جاءت من تمسكهم بنماذج أسلافهم لا يحيدون عنها ولا ينحرفون، فهى دائما الإمام المتبع، وهمّ كل شاعر أن يتقن معرفتها عن طريق ما يحفظ من شعر أستاذه وشعراء قبيلته، بل أيضا شعراء القبائل الأخرى. ولم يكن الشعراء وحدهم الذين يهتمون برواية هذا الشعر، فقد كان يشركهم فى ذلك الاهتمام أفراد القبيلة جميعهم، لأنه يسجل مناقب قومهم وانتصاراتهم فى حروبهم كما يسجل مثالب أعدائهم، وإلى ذلك أشار بعض بنى بكر معيّرا تغلب لكثرة تردادها لقصيدة واحدة هى معلقة عمرو بن كلثوم، وكأن ليس لها شعر سواها، يقول (3):

ألهى بنى تغلب عن كل مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

(1) الشعر والشعراء 1/ 127 والموشح للمرزبانى ص 51.

(2)

الشعر والشعراء 2/ 635

(3)

أغانى 11/ 54.

ص: 143

يروونها أبدا مذ كان أولهم

يا للرّجال لشعر غير مشئوم

ولم يكن أبناء القبيلة وحدهم الذين يشيعون شعر شعرائها، فقد كان كثير من أفراد القبائل الأخرى يشتركون معهم فى إشاعته، إذ كان بينهم جم غفير من الحفظة، كانوا يتناقلون الشعر وينشدونه فى محافلهم ومجالسهم وأسواقهم، إذ لم يكن لهم شاغل سواه، وكان يسجل مآثرهم ومثالبهم وأنسابهم وأيامهم وأخبارهم، ومن ثم قال عمر بن الخطاب:«كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه (1)» فهو كل علمهم وكل حياتهم.

وجاء الإسلام فانكبّوا على تلاوة القرآن الكريم، ولكن لم ينسوا شعرهم أبدا، حتى منذ بدء الدعوة الإسلامية، فقد كان الرسول عليه السلام يستحث حسان ابن ثابت وغيره من شعراء الأنصار على هجاء قريش والرد على شعرائها، وكان كثيرا ما يستنشد الصحابة الشعر، حتى شعر أعدائه من مثل أمية بن أبى الصّلت، قال الشريد بن سويد الثقفى:«استنشدنى النبى صلى الله عليه وسلم شعر أمية بن أبى الصلت فأنشدته، فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم يقول: هيه، هيه، حتى أنشدته مائة قافية (2)» . وكان أبو بكر نسابة راوية للشعر الجاهلى، وكان يتمثل به أحيانا فى خطابته كخطبته المشهورة فى يوم السقيفة، وكذلك كان عمر، وقلما كان يترك وافدا عليه من قبيلة دون أن يسأله عن بعض شعرائها، وفيه يقول ابن سلام:

«كان لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر (3)» .

وهذا نفسه شأن الصحابة جميعا، فقد كانوا كثيرا ما يتناشدون الأشعار ويقصون بعض الأخبار عن جاهليتهم، قال جابر بن سمرة:«جالست رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الأشعار فى المسجد وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم (4)» .

ومعنى ذلك أن رواية الشعر الجاهلى كانت مستمرة فى صدر الإسلام، وقد أخذت تظهر عوامل تشدّ من أزرها وتقوى من شأنها، فقد أخذت تنشأ منذ

(1) طبقات فحول الشعراء ص 22.

(2)

ابن سعد 5/ 376 وخزانة الأدب 1/ 227 والمزهر 2/ 309.

(3)

البيان والتبيين 1/ 241.

(4)

طبقات ابن سعد 1/ 2: 95 وما بعدها

ص: 144

تدوين عمر للدواوين حاجة شديدة لمعرفة الأنساب، إذ كانت تلعب دورا مهم فى رواتب الجند الفاتحين وفى مراكز القبائل بالمدن الجديدة التى خطّطوها مثل البصرة والكوفة. وكان بين العرب قديما من يشتهرون بمعرفة الأنساب، ولكن فى هذا العصر الإسلامى إلى تمامه يصبح لهؤلاء النسابين شأن خطير، إذ كان العرب يرجعون إليهم فى معرفة أصولهم، وكثيرا ما كانوا يسوقون لهم قطعا من الشعر تحدد نسبهم، ومن أشهرهم عقيل بن أبى طالب ومخرمة بن نوفل ودغفل والنّخار بن أوس العذرى (1).

ونحن لا نصل إلى الحرب التى نشبت بين على ومعاوية حتى تشتعل العصبيات القبلية اشتعالا لم تخب نيرانه حتى نهاية العصر الأموى، وكان الشعر الوقود الجزل لهذه العصبيات، فأخذت كل قبيلة تعنى برواية شعرها الجاهلى الذى يصور مناقبها ومثالب خصومها، ويتناقله أبناؤها، فهو جعبة سهامهم التى يوجهونها إلى خصومهم.

ومن غير شك كان ذلك أكبر عون على حفظ الشعر الجاهلى، فقد حملته القبائل طوال القرنين الأول والثانى حتى أدوه إلى العلماء الذين عنوا بتدوينه (2).

وكانت الدولة الأموية عربية النزعة، فعملت على حفظ هذا التراث، بما كانت تروى منه، نجد ذلك عند معاوية وعبد الملك بن مروان وغيرهما من الخلفاء، وكانوا كثيرا ما يسألون وفود القبائل التى تفد عليهم عن بعض شعرائها، وقد ينشدون بيتا ويسألون عن صاحبه وقصيدته، ومن تحسن إجابته تحسن له جائزتهم (3). وكان أبناؤهم على غرارهم «وكانوا ربما اختلفوا فى بيت من الشعر أو خبر أو يوم من أيام العرب فيبردون فيه بريدا إلى العراق (4)» يسألون علماءها عن صحة الأمر فيه وصوابه.

وأقام لهم آباؤهم غير مؤدب يروّيهم أشعار الجاهلية وأيامها وأخبارها، ويلقانا هؤلاء المؤدبون فى كل مكان يؤدبون الناشئة، وفى البيان والتبيين فصل طويل يحصى فيه أسماءهم.

ومما يدخل فى عناية الأمويين بالشعر الجاهلى ما يروى عن معاوية من شغفه بالمسامرة ومعرفة أخبار الماضين، مما جعله يستدعى عبيد بن شريّة الجرهمى من

(1) انظر فى هؤلاء النسابين وفيما نسوقه هنا من اتصال رواية الشعر الجاهلى حتى القرن الثانى الباب الثالث من كتاب مصادر الشعر الجاهلى.

(2)

راجع مصادر الشعر الجاهلى ص 231 وما بعدها.

(3)

انظر الأغانى 3/ 91.

(4)

التصحيف والتحريف للعسكرى ص

ص: 145

صنعاء اليمن، ويتخذه سميرا له يسأله عن الأخبار المتقدمة والملوك السالفة، وهاله ما عنده من العلم بذلك، فاتخذ غلمانا يقيدون فى دفاتر ما يذكره من سير الملوك وأخبارها ووقائع العرب وأيامها فى الجاهلية وأشعارها (1).

ومنذ وقت مبكر فى صدر الإسلام نرى القصاص يجلسون للعظة فى المسجد الجامع. وكانوا كثيرا ما ينثرون الأشعار الجاهلية التى تتصل بوعظهم فى تضاعيف قصصهم. وقد أخذت تنشأ جماعة مثل أبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير تعنى بغزوات الرسول وما قيل فيها من الشعر، وأخذ يظهر بجانبهم جماعة تعنى بأخبار العرب الماضين وما كان يجرى على ألسنة شعرائهم. وفى أثناء ذلك كان الشعراء الإسلاميون أنفسهم يعنون عناية شديدة برواية الشعر القديم، وبلغ من اهتمام بعضهم بذلك أن أصبح مؤدبا للناشئة يروّيها الشعر القديم على نحو ما نعرف عن الكميت والطرماح (2). ولم يكن هناك شاعر مبرز إلا وهو يروى للجاهليين وينشد من شعرهم، وفى كتب الأدب إشارات مختلفة إلى ما أخذه العلماء عن أمثال ذى الرمة والفرزدق وجرير ورؤبة من هذا الشعر (3)، وصوّر الفرزدق مدى روايته ومعرفته للشعر الجاهلى، فقال فى بعض قصيده (4):

وهب القصائد لى النوابغ إذ مضوا

وأبو يزيد وذو القروح وجرول (5)

والفحل علقمة الذى كانت له

حلل الملوك كلامه لا ينحل

وأخو بنى قيس وهنّ قتلنه

ومهلهل الشعراء ذاك الأوّل (6)

والأعشيان كلاهما ومرقّش

وأخو قضاعة قوله يتمثّل (7)

وأخو بنى أسد عبيد إذ مضى

وأبو دؤاد قوله يتنخّل

(1) انظر مصادر الشعر الجاهلى ص 159 والفهرست ص 132.

(2)

البيان والتبيين 1/ 251، 2/ 323.

(3)

مصادر الشعر-الجاهلى ص 225 وما بعدها.

(4)

نقائض جرير والفرزدق ص 200 والديوان (طبع القاهرة) ص 720.

(5)

النوابغ: النابغة الذبيانى والجعدى والشيبانى، وأبو يزيد: المخبل، وذو القروح: امرؤ القيس، وجرول: الحطيئة.

(6)

أخو بنى قيس: طرفة، وهن قتلنه: يريد القوافى، لأنه قتل بسبب بعض أهاجيه.

(7)

الأعشيان: أعشى بنى قيس وأعشى باهلة وأخو قضاعة: أبو الطمحان القينى.

ص: 146

وابنا أبى سلمى زهير وابنه

وابن الفريعة حين جدّ المقول (1)

والجعفرىّ وكان بشر قبله

لى من قصائده الكتاب المجمل (2)

ولقد ورثت لآل أوس منطقا

كالسّمّ خالط جانبيه الحنظل (3)

والحارثىّ أخو الحماس ورثته

صدعا كما صدع الصّفاة المعول (4)

ويخيل إلى الإنسان أنه لم يبق عربى فى العصر الإسلامى وما وليه من أوائل العصر العباسى إلا وهو يروى الشعر الجاهلى، إن هو تحدث أو وقف خطيبا، وتمثّل الحجاج بالشعر فى خطابته ذائع مشهور. وإذا كنا لاحظنا فى الجاهلية أن الرواة الموصوفين بهذا الاسم كانوا عادة من الشعراء، فإننا نلاحظ فى العصر الإسلامى نشوء طائفة من الرواة، لم يكونوا ممن يحسنون نظم الشعر، فهم لا يروونه لغرض تعلمه، وإنما يروونه لغرض نشره فى الناس وإذاعته، وإليهم يشير جرير بقوله فى وصف بعض قصائده (5):

خروج بأفواه الرواة كأنها

قرا هندوانىّ إذا هزّ صمّما (6)

وفى أخباره أنه كان له رواة يلزمونه ويأخذون عنه شعره، وكذلك كان الفرزدق.

ولم يكونوا يروون شعرهما فحسب بل كانوا ينقحونه ويهذبونه، فعن شيخ من هذيل قال:«جئت الفرزدق. . ودخلت على رواته فوجدتهم يعدلون ما انحرف من شعره. . ثم أتيت جريرا. . وجئت رواته وهم يقوّمون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد (7)» . وفى رأينا أن ظهور هذه الطبقة من الرواة إنما نشأ من العناية الشديدة برواية الشعر القديم والحديث، وكأنما لم يعد للناس من شغل وراء هذه العناية، فمنهم من يتخصص برواية شعر المعاصرين ومنهم من يتخصص برواية الشعر الجاهلى كيونس بن متى راوية الأعشى (8).

(1) ابن الفريمة: حسان بن ثابت.

(2)

الجعفرى: لمبيد، وبشر هو بشر بن أبى خازم.

(3)

أوس: أوس بن حجر.

(4)

الحارثى: النجاشى.

(5)

النقائض ص 430.

(6)

قرا: متن، والهندوانى: السيف.

(7)

أغانى (طبعة دار الكتب) 4/ 256 وما بعدها.

(8)

راجع فى تحقيق اسم هذا الراوى مصادر الشعر الجاهلى ص 238 وما بعدها.

ص: 147