الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - سجع الكهان
كانت فى الجاهلية طائفة تزعم أنها تطلع على الغيب وتعرف ما يأتى به الغد بما يلقى إليها توابعها من الجن، وكان واحدها يسمّى كاهنا كما يسمى تابعه الذى يوحى إليه باسم «الرّئىّ» . وأكثرهم كان يخدم بيوت أصنامهم وأوثانهم، فكانت لهم قداسة دينية، وكانوا يلجأون إليهم فى كل شئونهم، وقد يتخذونهم حكاما فى خصوماتهم ومنافراتهم على نحو ما كان من منافرة هاشم ابن عبد مناف وأمية بن عبد شمس واحتكامهما إلى الكاهن الخزاعى، وقد نفّر هاشما على أمية (1). وكانوا يستشيرونهم ويصدرون عن آرائهم فى كثير من شئونهم كوفاء زوجة أو قتل رجل أو نحر ناقة (2)، أو قعود عن نصرة أحلاف (3)، أو نهوض لحرب، ففى أخبار بنى أسد أن حجرا أبا امرئ القيس رقّ لهم، فبعث فى إثرهم فأقبلوا حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكّهن كاهنهم، وهو عوف بن ربيعة، فقال لبنى أسد: «يا عبادى! قالوا لبيك ربّنا، قال: من الملك الأصهب، الغلاّب غير المغلّب، فى الإبل كأنها الرّبرب (4)، لا يعلق رأسه الصّخب، هذا دمه ينثعب (5)، وهذا غدا أول من يسلب، قالوا: من هو يا ربّنا؟ قال: لولا أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتكم أنه حجر ضاحية.
فركبوا كل صعب وذلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حجر فهجموا على قبّته» وقتلوه (6). وكثيرا ما كانوا ينذرون قبائلهم بوقوع غزو غير منتظر (7)، كما كانوا كثيرا ما يفسرون رؤاهم وأحلامهم (8).
فمنزلة كهّانهم فى الجاهلية كانت كبيرة، إذ كانوا يعتقدون أنه يوحى إليهم، ولعل ذلك ما جعل نفوذ الكاهن يتجاوز قبيلته إلى كثير من القبائل التى تجاورها،
(1) السيرة الحلبية 1/ 4.
(2)
أغانى (طبعة دار الكتب) 11/ 118
(3)
أغانى 11/ 140.
(4)
الربرب: القطيع من الظباء.
(5)
ينثعب: يسيل.
(6)
أغانى 9/ 84.
(7)
الأمالى القالى 1/ 126 والسيرة النبوية 1/ 43، 221.
(8)
السيرة النبوية 1/ 15 وما بعدها.
ومن ثم كان العرب يقصدون كثيرين منهم من مناطق بعيدة. ومما يلاحظ أنهم كانوا يكثرون فى اليمن وفى بيوت عبادتها الوثنية، وخاصة من يتعمقون فى القدم، ولعل فى ذلك ما يدل على الصلة القديمة بين وثنية عرب الجنوب وعرب الشمال.
وتلقانا فى كتب التاريخ والأدب أسماء كثيرين منهم وقد يبالغ القصّاص، فيرسمون لبعضهم صورا خيالية، فمن ذلك أن شقّ بن الصّعب كان شق إنسان أو شطره فله عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة، وأن سطيح بن ربيعة الذئبى لم يكن فيه عظم سوى جمجمته وأن وجهه كان فى صدره ولم يكن له عنق (1)، وربما كان أحدب. ومن كهانهم فى أواخر العصر الجاهلى سواد بن قارب الدّوسىّ وقد أدرك الإسلام ودخل فيه (2)، ومنهم المأمور الحارثى، كاهن بنى الحارث بن كعب (3)، وخنافر الحميرى، وكان يقول إنه أسلم بمشورة تابعه «شصار (4)» . وأكهنهم عزّى سلمة، يقول الجاحظ:«أكهن العرب وأسجعهم سلمة بن أبى حيّة وهو الذى يقال له عزّى سلمة (5)» . ومن قوله (6): «والأرض والسماء، والعقاب والصّقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفّر المجد بنى العشراء للمجد والسناء (7)» . ونجد بجانب هؤلاء الكهان جماعة من الكاهنات، وربما كنّ فى الأصل من النساء اللائى يهبن أنفسهن للآلهة ومعابدها، ومن أشهرهن الشّعثاء (8) وكاهنة ذى الخلحة (9) والكاهنة السّعدية (10) والزرقاء (11) بنت زهير والغيطلة القرشية (12) وزبراء كاهنة بنى رئام، ويروى أنها أنذرتهم غارة عليهم فقالت:«واللوح الخافق والليل الغاسق والصباح الشارق والنّجم الطارق والمزن الوادق، إن شجر الوادى ليأدو ختلا، ويحرق أنيابا عصلا، وإن صخر الطّود لينذر ثكلا، لا تجدون عنه معلا (13)» .
(1) عجائب المخلوقات للقزوينى 1/ 171.
(2)
السيرة النبوية 1/ 233.
(3)
الأمالى 1/ 276 واسمه فيه المأمون، وانظر 3/ 151 والأغانى 15/ 70.
(4)
الأمالى 1/ 133.
(5)
البيان والتبيين 1/ 358.
(6)
نفس المصدر 1/ 290.
(7)
الصقعاء: الشمس، بقعاء: ماء أو موضع. نفر: حكم بالغلبة. بنو العشراء: عشيرة من فزارة. السناء: الرفعة.
(8)
مجمع الأمثال للميدانى 1/ 91.
(9)
نفس المصدر 1/ 223.
(10)
نفس المصدر 2/ 54.
(11)
أغانى (دار الكتب) 13/ 81.
(12)
سيرة ابن هشام 1/ 221.
(13)
اللوح هنا: الريح. الوادق: الممطر يأدو: يختل. يحرق أنيابا عصلا: كناية عن الغضب والشر. عصلا: معوجة. الطود: الحبل. المعل: الملجأ. انظر الأمالى 1/ 126
ونحن لا نطمئن إلى ما يروى فى كتب التاريخ والأدب من أقوال جرت على ألسنة هؤلاء الكهان والكاهنات، فإن بعد المسافة بين عصور التدوين والعصر الجاهلى يجعلنا نتهم مثل هذه الأقوال، إذ من الصعب أن تروى بنصّها وقد مضى عليها نحو قرنين من الزمان. وإنما استشهدنا ببعض منها لندل على أنه ثبت فى أذهان من تحدثوا عن الكهّان والكاهنات فى الجاهلية أنهم كانوا يعتمدون على السجع فى كلامهم، ولذلك حين أجرو ألسنتهم بالكلام جعلوه مسجوعا على شاكلة ما رويناه من أقوالهم. ومعنى ذلك أنه وجد فى العصر الجاهلى سجع كان يقوله الكهان، وقد اختلط الأمر على بعض قريش فى أول نزول الذكر الحكيم، فقرنوه بسجع كهنتهم وردّ عليهم القرآن الكريم بمثل قوله جلّ وعز:{وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ»} وقال سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ، فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ»} وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ»} .
ومما يدلّ على أن كهنتهم كانوا يسجعون، بل كانوا لا يتكلمون إلا بالسجع، الحديث المروىّ عن أبى هريرة، فقد حدّث أنه «اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما فى بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله أن دية جنينها غرّة: عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها (1). . . فقال حمل بن النابغة الهذلى: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهلّ (2)، فمثل ذلك يطلّ (3)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هذا من إخوان الكهّان، من أجل سجعه الذى سجع (4)» . ويقول الجاحظ: «كان حازى (كاهن) جهينة وشقّ وسطيح وعزّى سلمة وأشباههم يتكهنون ويحكمون بالأسجاع (5)»
وإذا صح أن ما يروى فى كتب التاريخ والأدب من سجع الكهان تقليد دقيق لما كانوا يأتون به من هذا السجع لا حظنا أنهم لم يكونوا يسجعون فحسب،
(1) عاقلة المرأة: عصبتها الذين يتضامنون معها فى دفع الدية.
(2)
استهل: صاح.
(3)
يطل: يهدر دمه.
(4)
صحيح مسلم (طبعة الآستانة) 5/ 110 وانظر موطأ مالك (طبع حجر بالقاهرة) 2/ 192.
(5)
البيان والتبيين 1/ 289 وما بعدها.
بل كانوا يعمدون أيضا إلى ألفاظ غامضة مبهمة، حتى يتركوا فسحة لدى السامعين كى يؤوّل كل منهم ما يسمعه حسب فهمه وظروفه. ومن ثم دخل الرمز فى كثير من أقوالهم، إذ يومنون إلى ما يريدون إيماء، وقلما صرحوا أو وضّحوا، بل دائما يأتون المعانى من بعيد، بل قل إنهم كانوا لا يحبون أن يصوروا فى وضوح معنى، ويتخذوا له أشباحا واضحة من اللفظ تدل عليه، لأن ذلك يتعارض مع تنبئهم الذى يقوم على الإبهام والوهم واختيار الألفاظ التى تخدع السامع وجوها من الخدع، ومن ثم كان من أهم ما يميز أسجاعهم عدم وضوح الدلالة وأن يكثر فيها الاختلاف والتأويل.
وليس هذا كل ما يلاحظ على السجع الذى يضاف إليهم، فإنه يلاحظ عليه أيضا كثرة الأقسام والأيمان بالكواكب والنجوم والرياح والسحب والليل الداجى والصبح المنير والأشجار والبحار وكثير من الطير. وفى ذلك ما يدل على اعتقادهم فى هذه الأشياء وأن بها قوى وأرواحا خفية، ومن أجل ذلك يحلفون بها، ليؤكدوا كلامهم وليبلغوا ما يريدون من التأثير فى نفوس هؤلاء الوثنيين.
وهذا السجع الدينى كان يقابله، كما قدمنا، سجع آخر فى خطابتهم، بل فى كلامهم وأمثالهم التى دارت بينهم. ولعل فى ذلك كله ما يدل على أن الجاهليين عنوا بنثرهم كما عنوا بشعرهم، فقد ذهبوا يحاولون تحقيق قيم صوتية وتصويرية مختلفة فيه، تكفل له جمال الصياغة وروعة الأداء.